قضايا

هل أسهم المفكرون العرب في رقود أمتهم؟!!

صادق السامرائيلا يمكن لأمة أن تكون من غير مفكرين وفلاسفة يقرؤون الحاضر ويستشرفون المستقبل، ويرسمون خرائط الرقاء والنماء، وما خلت أمتنا من المفكرين والفلاسفة على مر العصور والأزمان.

وفي العصر الحديث برز فيها مفكرون وفلاسفة، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، وكلٌ منهم قد أدلى بدلوه وسلط الأضواء على أحوالها ورأى ما رأى في كيفيات نهوضها، لكنها لم تنهض كما يتوجب النهوض، ولا واكبت كما تقتضي المواكبة، وقد سبقها بأشواط بعيدة مَن بدأ النهوض بعدها بعقودٍ عديدة.

والعيب السائد في إقتراباتهم، أنها ذات نمطية تأريخية ودينية وإغفالية، وتجدهم يدورون في دائرة مفرغة، فيعيدون إنتاج وتصنيع ما تناوله المفكرون العرب منذ قرون، مما يعني أنهم لم يأتوا بجديد، وإنما يُلبسون ما توصل إليه الأقدمون أزياء جديدة وحسب.

ومنذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم والمفكرون العرب يراوحون في ذات البقعة، وما تمكن الواحد منهم الخروج من جاذبيتها، والنظر إلى الأمور بعلمية وشمولية ذات قيمة حضارية معاصرة، فتراهم يمعنون في الطرح عن الإسلام بأنه هو الحل أو هو المشكلة، بينما واقع السلوك البشري يؤكد أن الدين ليس حلا ولا مشكلة.

فالعرب لم يتقدموا ويتحضروا بسبب الإسلام كدين، وإنما بسبب الثورة الشاملة التي أذكاها الإسلام في العقول والقلوب والنفوس، فقبل الإسلام كان عند العرب أديان متعددة،  فالأديان لا علاقة لها بالتقدم والتأخر، وإلا كيف يمكن فهم تقدم الصين والهند واليابان وفيها عشرات المئات من الأديان، التي يعبد فيها البشر ما لا يخطر على بال من أصناف المخلوفات والحجر والشجر.

ولم يكن الإسلام أول الأديان أو آخرها كما يعتقد المسلمون، فهناك العديد من الأديان عند المجتمعات الأخرى ولدت بعده ولها أنبياؤها، بل حتى في الإسلام هناك فرق وجماعات ترى أن لديها نبيها وتتبعه وهي تمارس طقوس الإسلام.

ولكل دين رؤيته ويرى أنه الصحيح، فالذي يعبد الفأرة يرى أن الإسلام دين غير صحيح، ودينه هو الأصوب، والعكس صحيح، وهذا ينطبق على كافة الأديان ومنذ أقدم الأزمان، ولا جديد في هذا السلوك المتعارف عليه.

ولا يمكن لصاحب دين أن يسفّه معتقد صاحب دين آخر مهما توهم بأنه يمتلك من الحجة والدليل والبرهان، لأن الأديان إنتماءات عاطفية إنفعالية لا تمت بصلة للعقل أبدا، ولا يوجد فوق هذه الأرض مَن يمكنك أن تقنعه بتغيير ما يعبد، إلا إذا رأى ذلك هو بنفسه، أو لمصلحة وغاية بقائبة.

فالأديان حاجات نفسية بحتة تشيع الإطمئنان في الأعماق البشرية، التي يعتمل فيها الخوف من الغيب والمصير الذي لا تدركه، ولهذا فأن الأديان ربما سبقت الحياة البشرية، أي أن البشر قد بدأ الخطو فوق الأرض وهو معبّأ بدين، لأن أي خطوة لا يمكنها أن تتحقق نحو غيب مجهول دون خارطة  مصير تطمئن ذلك البشر.

كما أن المفكرين العرب أتعبوا الأجيال بعلاقة الدين بالدولة، وكأن البشر يمكنه أن يفصل نفسه عن الدين، وبما أن البشر في الدولة فأن الدين في الدولة أيا كان ذلك الدين، وهذه الإتجاهات تسببت في إنحرافات إدراكية والتشبث بمصطلحات تشوش الوعي والإدراك، ومنها العلمانية التي أمضت الأجيال في القرن العشرين ترى أنها تعني فصل الدين عن الدولة، بينما هي تعني وبإختصار: " لكم دينكم ولي دين".

فما دام البشر لا يمكنه أن يعيش من غير دين، فأن فصل الدين عن الدولة لا يمكنه أن يكون، لأن الدولة فيها حكومة من البشر الذي يكنز دينا،  لكن المشكلة التي لا نراها هي أن تجبر الآخر على إتباع دينك، أي أنك تسعى لإلغاء دينه.

وإذا إتفقنا على أن الدين ما تؤمن به وتعتقده، فلكل بشر ما يؤمن به ويعتقده، ولا يوجد بشر بلا دين، فحتى الملحد له دين ما.

ويبقى سؤال قائم عنوانه، لو أن الدين دولة لتبين ذلك في الكتب الدينية المنزلة والوضعية، ولتم مخاطبة الأنبياء بالملوك والأباطرة وغير ذلك، لكن المخاطبات كانت بعنوان النبي أو الرسول، وما تطرقت الكتب السماوية بأنواعها إلى أن يكون النبي أو الرسول ملكا أو رئيسا لدولة إلا فيما ندر، مما يعني أن الأديان ما أتت لإقامة دولة وإنما لتحقيق معنى الإنسان في البشر.

والمأزق الآخر الذي غرق فيه المفكرون العرب هو التأريخ، فكل منهم يقرأ التأريخ على هواه وبمنظاره المصنوع في ورشة مافيه من النمطيات والترسانات العاطفية والإنفعالية، التي لا تمت بصلة إلى الموضوعية، وكأن العرب لوحدهم لديهم تأريخ، وبأنهم فقط الذين فعلوا ما فعلوا .

والعجيب في الأمر أن التأريخ يتم مقارنته بهذا العصر، ويتحقق عزله عن مكانه وزمانه وما يحيطه من أمم وشعوب وكيف كانت تعيش، فيبدو وكأنه تأريخ إجرام وتوحش وعدوان، وهذا تجني وإنحراف خطير ومدمر، فالتأريخ العربي عندما يُقرأ في أوانه هو الأفضل والأقل دموية ووحشية من غيره من تواريخ الأمم والشعوب.

ثم لماذا هذا الإسفاف في محاولات تغيير التأريخ وتحريفه وكتابته على هوى مَن يشاء ويرى؟!

ولماذا الخلط بين الدين والدولة، وعدم التمييز بين السلطة والقوة والمعتقد، فالدول التي نسميها "إسلامية" كانت تسمي نفسها الدولة الأموية والعباسية والعثمانية وغيرها، وما أضافت إلى التسمية كلمة إسلامية، لأنها دول وإمبراطوريات، وقد إتخذت من التشريع الإسلامي دستورا لها، لكنها لم تتبعه بحذافيره وكان لكل منها دستوره وقوانينه التي يمليها الحاكم وحاشيته.

وما أغفله المفكرون العرب وحتى اليوم هو أن المجتمعات البشرية تعيش عصر العلم والتكنولوجيا منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم، والعرب لا يزالون لا يقتربون من العلم والتكنلوجيا ويخافونهما ويرتعبون منهما، وحتى الدولة العثمانية من أهم أسباب سقوطها هو عدم إيمانها بطريق العلم والتكنولوجيا، والذي نبهها إليه المبعوثون إلى بلاد الغرب في ذلك الوقت، لإعتباره من قبل أصحاب العمائم بدعة وإفساد وإنحلال.

ومنذ ذلك الوقت وكأن المفكرين العرب يحسبون الخوض في موضوع العلم والتكنولوجيا من المحرمات، بينما الواقع السلوكي البشري يؤكد أن لا فرق بين أمة العرب وغيرها من الأمم، سوى أنها أهملت العمل بالعلم والتكنولوجيا الذي يتميز بهما هذا العصر، ولا يمكنها أن تكون إلا بإتخاذهما منهجا للقوة والحياة والرقاء.

وكل ما يصف به المفكرون العرب أمتهم إنما نوع من الهراء والثريد حول الصحون، فالأمة لا تختلف عن غيرها، بل وفيها طاقات متوقدة بحاجة إلى إستثمار علمي وتكنولوجي، بدلا من التبديد في البهتان والأضاليل الحمقاء، التي تتسبب بالدمارات الهائلة التي تعيشها أمة العرب.

فانظروا ما فعلته الأحزاب المتأدينة ببلد كالعراق منذ ألفين وثلاثة وحتى اليوم، وهذا دليل دامغ على أن القول بأن الدين يمكنه أن يكون دولة نوع من البهتان والهذيان.

فالدولة دولة والدين دين، وكل صاحب دين فاعل بدولة.

فالتزم دينك وابني دولتك!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم