قضايا

الفصاحة بين الصراحة والوقاحة

علي المرهجالفصاحة هي فن إجادة القول الجميل ببلاغة وبيان، فحينما يُطلق اللفظ على أحد منَا فيُقال عنه أنه فصيح، فذلك يعني أنه يُتقن أساليب التعبير البلاغي في اللغة العربية من (مجاز) و(استعارة) و(تورية) وما تقتضيها لغة الخطاب من بيان تستسيغه الأذن العربية التي اعتادت الهيام في مبنى اللغة لا في معناه وفحواه.

ربما تكون الفصاحة في الشعر أو النثر أو في الكلام الشفاهي، فيها بعض أو كثير من البيان وبعض من الحكمة في الخطبة، أو الوصية، أو الموعظة، أو الثناء والمدح، بل وحتى في الهجاء والذم.

والفصاحة ـ أحياناً ـ تقتضي االصراحة، بصيغة التورية أو المُباشرة، وربما يحسب بعض الناس أن في المُباشرة في المدح أو الذم (وقاحة)، لذلك نُفضل نحن العرب صيغة (التورية) في كلامنا بكل ما فيها من فصاحة التلميح لا التصريح على صيغة المُباشرة في المدح الممدوح فيحسب القول فصاحة، وفي الذم عند المذموم فيحسب الول وقاحة، ولكنني أعتقد ان (الصراحة) عند من عُرِف عنه محبة الآخرين هي من مُقتضيات الصدق في القول وصيغ التدوين، أو الكتابة، لأنه لا يروم تجريح الصديق ولا ذمه لمن أجل الإهانة، ولا مدحه من أجل نيل مكانة، فبعض من الصادقين يجعلون من النقد منهجاً لهم بُغية السير وفق ما تقتضيه نزعته المُحبة للإنسانية والعدل والاستقامة.

فيُمكن لك بلغة عربية فصيحة في صيغة المُبالغة أو صيغ الترميز أو التلميح بعبارات بيانية أثيرة أن تسبَ شخصاً، فيتقبل أسلوبك في السبَ هذه، ولربما تكتنز هذه الصيغة في مدلولاتها أقذع صيغ الشتم والتوبيخ، وستجد أن من توجه له هذه العبارات راضياً عنها وأحياناً يسعد بها.

ولكنه سيقف لك (ركبة ونص) وسيُحاسبك اشد الحساب حينما تصفه بصيغة فيها فصاحة ولكنها لا ترتكن لا إلى (التورية) ولا للمجاز ولا الاستعارة، لأن فيها قولاً صادقاً فيه من (الصراحة او (المباشرة) في الكلام أو التعبير اللفظي، ما تبتغي فيه إصلاح له، ولكنه يرفضه ولا يرتضيه ويحسبه من صيغ التعبير اللفظي في الوقاحة!.

فقل لفلان أنك حيوان، ستجده يرد عليك الوصف بأقذع منه، ويعدّ هذا الوصف من قبيل الذم اللاذع، ولكن قل له (أنك أسد) ستجده فرح، والأسد حيوان، أو قُل له أنك كالكلب في وفائك، وكالحمار في صبرك، ربما سيحمل قولك هذا على محمل حسن، ولا ينشغل بصفات الحيوانات السلبية الأخرى التي هي من طبيعة تكوينها الكُلي.

ذلك لأن العرب اعتادت وصف الإنسان بصفات الحيوان بنوعه لا بجنسه، ولكننا نتغاضى عما في صفات الجزء (النوع) ونعدها من قبيل (الاستعارة اللفظية)، ولكنها بتحصيل الحاصل هي صفات يحتويها الكُل.

وقد استخدم العرب لفظ المُباشرة كرديف لمعنى الجماع، وأظن لما يشتركان فيه بالمصداقية، ففي الجماع تعبير عملي عن مصداقية الرغبة في المُمارسة الجنسية، وفي المُباشرة في القول مصداقية التعبير في الرفض أو القبول لطباع شخص أو لما في فكره من مساوئ الفهم أو سوء التقدير لتعاطيه الفكري والاجتماعي، لفرط ما فيه من نرجسية او عدم تقدير لقدراته الذاتية وتجاهل لقدرات الآخر.

في الوقاحة كما أظن خرق لمألوف القول والفعل في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد، ولربما يكون التعبير بلفظ ما بلغة مجتمع ما فيه وقاحة، ولكنه بلغة أخرى وفي وسط اجتماعي آخر هو لفظ فيه من الفصاحة الشيء الكثير، فخذ مثلاً بعض ألفاظ الفحش في لغتنا، في التصريح بها خرق لمألوفنا القيمي، ولكنك لو ترجمتها للغة أخرى ـ في الغالب الأعم ـ لا تُعط نفس بُعدها في خرق المألوف القيمي في هذه اللغة الأخرى ومُجتمعها الناطق بها.

أما الصراحة، فهناك مثل أثير في ثقافتنا هو (الصراحة راحة)، ولكنه مثل غير معمول به، فليست كل صراحة راحة، فإن أنت واجهت شخصاً وصارحته بوجهة نظرك فيه وكشفت عن بعض من عوراته، فلا تكون الصراحة هنا رديفة للراحة، بل يعدَها من صارحته صفة من صفات الوقاحة بل هُناك من يعد الصراحة والصدق في المواجه في الكثير من العنت والقُبح وغياب (اللياقة الاجتماعية)، وهنا نعود لعادة العرب في قبول أقذع السبَ بـ (التلميح) ورفض أبسط النقد بـ (التصريح)!.

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم