قضايا

نسيان الحاضر والهيام في "الزمن الجميل"!

علي المرهجكانت مُدن العراق، لا سيما بغداد، والبصرة، والموصل تزدان حداقئها بالورد، وإن كانت حدائقاً قليلة، فلم تكن الحياة في الماضي كما الحاضر في تعقيده ومُتغيراته الدراماتيكية المُتسارعة التي اقتضتها الثورات: التقنية، والمعلوماتية والبايلوجية، ولا أروم الخوض في تفصيلات هذه الثورات فهي ليست من مُقتضيات الشرح في هذا المقال.

في ماضينا القريب، كان ابن القرية حينما ينتقل أو يأتي مُسافراً من السلف إلى المدينة تُسحره طُرق المُدن الفارهة وألوان الورد في حدائقها لا لتشكيلات ألوانها المُبهرة فقط ولا لتنوعات عطره الفواحة، بل لأن القادم كان مشغولاً بمقارنة مشهدية القرية وبور أرضها وسبخها ومقارنة ذلك بمشهدية الرؤية لمدينة الأمس، أو ما نُسميه اليوم بـ "الزمن الجميل" ونتأسى على ماض فقدناه. فكم من العراقيين اليوم ينشر صوراً لمُدن العراق في الفترة الملكية وبداية العصر الجمهوري وصولاً لسبعينيات القرن العشرين، ويتغنى بها وكأنها الجنة التي غادرناها، فنحن أبناء آدم الذي أغوته التفاحة فرمته الجنة وغادرها.

زمن الورد كان ذاك كما يروم كبار السن تصويره لنا، وهم كآدم يرومون تحميل هذه الأجيال إثمهم كما حمل ذرية آدم خطيئة أبيهم.

ولا أظن الجنة كانت تليق بآدم بقدر ما كانت تليق بإبليس وصحبه من ملائكة السماء، إلَا أنه أبى واستكبر، ولم تكن الأرض بكل ما فيها من صراع وجود إلَا مكان يليق بآدم وذريته، فبهم تعمرت الأرض، وإن كان فيها بعض من خراب، فهذا لا يعني أن الأرض كانت أجمل قبل أن يتناسل فيها أبناء حواء وآدم.

إن قيمة الوجود (العالم الطبيعي) كما أحسب في التشكيل الإنساني، واستكمال بُنيانه، وأرى مُستوحياً رؤى الوردي أن الصراع بين بني البشر أمر تقتضيه حاجتنا للتطور.

فالناجح لا يشعر بنجاحه إلَا بوجود آخر فاشل، أو أقل منه نجاحاً، والشيء لا يُعرف إلَا بنقيضه، وصراع النقائض هذا بحسب جدلية (هيجل) المثالية، أو جدلية (ماركس) الواقعية إنما هو الذي يُنتج فكرة أو حياة جديدة.

لأعود للزمن الجميل كما يرغب البعض بتسميته، ذلك الزمن الذي كان فيه الفلاح مطية أو عبداً طائعاً لسيده الإقطاعي، يعمل طول السنة في أرض هذا (الشايلوكي)، وفي آخرها يبقى مديناً. لا تستغربوا إنه الزمن الجميل!.

كان أغلب أجدادنا وآباؤنا (يأكلون خلالات العبد)، وهي بعض من بقايا التمر التي نهشتها الديدان ليسدوا بها معدتهم الخاوية، ويشربون من ماء الساقية، ليعيشوا لحظات ذلك "الزمن الجميل"!.

في زمن ثورات الضباط الأحرار، أو الإنقلابيين بلغة الملكيين، تحققت بعض المكاسب للفلاح والكاسب، فكل هذه الثورات تبنت النهج الإشتراكي، وحصل في بدايتها نهضة عُمرانية وعلمية، وبدأ فقراء الناس يحلمون بدولة عادلة تضمن لهم حقوقهم، فوزعت عليهم أراض زراعية من دون دعم لهذا الفلاح الفقير الذي لا قدرة مادية على زراعة الأرض!، فتحولت الأراض إلى أرض بور، أو تملؤها الملوحة، لأن الحكومة الوطنية أخذتها من يد (التاجر المُحتكر، الإقطاعي، القاروني) بعبارة أستاذنا مدني صالح، لتُعطيها للعبد الفقير الذي لا حول له ولا قوة، فكان ما كان مما نحن نعرفه وينطبق عليه المثل العراقي (لا حظت برجيلها ولا خذت سيد علي)، فلا قدرة للفلاح على زراعة الأرض، ولم يكن ما سُميَ بـ "الإصلاح الزراعي" سوى شعار حق يُراد به باطل، فقد ترك الفلاح أرضه وهاجر للمدينة بحثاً عن فرصة عمل.

(يا فرحة ما تمت)، فلم تستمر فرحة الشعب بما حسبوه بأنه "الزمن جميل" طويلاً، لأن هؤلاء الثوار أغوتهم السلطة كما أغوت آدم التفاحة، فكان مصير الشعوب العيش أذلاء يتحكم بهم قائد عسكري أرعن، فحلت سلطة العسكر (الديكتاتورية) بديلاً عن سلطة الملكية المُستبدة، ولربما يعترض مُعترض علينا بأن زمن عبدالكريم قاسم في العراق كان فيه الأمل، وأوافقهم في بعض مُتبنيات الرؤية، ولكن لا يُنكر أحد منَا أنه حُكم (عسكرتاري) فيه ميل حاد للنزعة الفردية في الحُكم وتقديس الزعيم الأوحد للبلاد!.

جاء بعد ذلك زمن ثورة ضباط آخرين من الإنفصاليين عن حركة الضباط الأحرار السابقة، وبدأنا نسير نحو سياسة حُكم ليس عسكرتارياً فقط، لأن في قيادة العسكر بعض من احترام للرتبة العسكرية وتاريخهم في المُشرف بوصفهم قادة، وحيناً بعد حين بدأنا نسير باتجاه القناعة تأييد سياسة "الحزب القائد" وبعد تمكن هذا الحزب من السلطة وقيادة الدولة وفق سياسة (بسمارك) (النار والحديد) صار الشعب يهتف بإسم "القائد الضرورة"!!.

عجيب أمرنا كل ما مر علينا زمن صرنا نلعن الزمن الذي نعيش فيه، ونتغنى بزمن مضى. نحن أبناء الماضي، إن غادرنا نكون بلا كون ولا مُتعة لنا في وجودنا الحالي، فكلما سعينا لكسر قيود هذا الماضي، وجدنا أنفسنا نعيش حاضراً أقسى وأمر، ولفرط ما في واقعنا المُعاش من خيبات صرنا أسارى لماضينا، لنصفه بأنه "الزمن الجميل" رغم ما فيه من تعسف وظلم.

فرحنا نتحسر على "الزمن الجميل"! الذ مضى زمن الملكية، لنُردد المثل القديم "يا ريتك يا بو زيد ما غزيت"، "وتيتي تيتي، مثل ما رحتي إجيتي".

كثير من العراقيين وأنا منهم كُنا نحلم بسقوط (الصنم)، فكان تصورنا لسقوط نظام صدام نكته نتبادلها حالمين، ليأسنا من سقوطه، فقد كانت هُناك نكته يتداولها أبناء جيلنا والجيل الذي قبلنا بأن "صداماً يوم الحساب سلم على الإله، وكان الإله يقوم من كُرسيه مُرحباً بكل قادم إليه، إلَا مع صدام بقيَ على كُرسيه، ومد يده على صدام للسلم، فلم يستطع صدام كتمان غيضه عن الإله، فبادره بالسؤال، لماذا نهضت عن كُرسيك للسلام على الجميع، ولم تفعل ذات الأمر معي، فأجابه الإله، خشيت أن أنهض من كُرسيي، فتسحبني لتجلس مكاني على العرش"!!، وتلك نكتة فيها تعبير كاف عن يأس العراقيين من الخلاص من حُكم صدام وعائلته، فقد بدأ الكثير من العراقيين يُرددون لفرط ما فيهم من يأس "هلا هلا بابن حلا" وحلا هي ابنة صدام المدللة، بإشارة ذكية على أن تصور الخلاص من حُكم صدام وعائلته من قبيل تصورنا للمُستحيل.

ولكن نظام صداماً سقط بإرادة أمريكة، وكان كثير من العراقيين يحسبون أن بسقوط صدام ستُحل مشاكل العراق، وكنت أنا من هؤلاء، وبعد مرور الزمن وتبدل حُكومة بعد أخرى، وجد العراقيون أنفسهم يقعون في مُستنقع كبير للفساد وخراب البلاد والعباد، مصيبة تتلوها مصيبة. طائفية وصراع عرقي وأثني، وإرهاب مُتأسلم، ليُعيدنا الأمريكان لنقطة الصفر والعيش في حُلم العودة للماضي وما يرغب المسلمون والعرب والعراقيون بتسميته بـ "الزمن الجميل"، فكلما مرَ علينا زمن وعشنا بحاضر، وجدنا هذا الحاضر أسوء من الزمن الذي مضى!!.

يبدو أن حديث الذكريات، سيبقى جميلاً رغم كل ما فيه من مأساة وقسوة في العيش، لا لأنه جميل حقاً، بل لأن ما نعيش فيه من حاضر هو أمرَ وأكثر إيلاماً.

يتحمل أجدادنا وأباؤنا ونحن الكثير من سخط هذه الأجيال ليهم وعلينا، لأننا لم نكن جادين حقاً في نكران الذات والعمل على توثيق الصلة مع الجيل القادم وتصحيح المسار، فنحن ومن سبقنا نتحمل كامل المسؤولية عما سيؤول له مصير جيل الشباب والجيل الذي بعدهم.

(كُلنا فاسدون، كُلنا فاسدون، لا أستثني أحداً حتى بالصمت العاجز المواطن قليل الحيلة) بعبارة مُستعارة من مرافعة أحمد زكي في فيلمه الشهير "ضد الحكومة"َ، لتصورنا أن الغلبة هي من طبائع الأمور، فنحن من فرط بأبنائنا أبناء العجز والتردي، لأننا فرطنا بنزعتنا الإنسانية أولاً، وتهاوننا مع أفاعيل الحُكام وفسادهم، بل وتطبيل الكثير لهم ثانياً، وعمل الكثيرين منَا على تغييب الإحساس بإنتمائنا الحقيقي للوطن ثالثاً.

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم