قضايا

فن بناء العلاقة وتجليات المحبة في الصداقة

علي المرهجالإدارة فن يحتاج لاتقان تخطيط، وسياسة في كيفية التشريع لمقبولية للقرارات والمُمارسات وتقييم لوسائل الإداء في محيطنا الإداري من أجل تحقيق الأهداف، ولكن الحال في فن بناء العلاقة مع الآخر الذي ترغب في أن تبني معه صداقة مُختلف، لأنك في الإدارة تحتاج لمهارات في التواصل ومُشاركة في حل مشاكل المُحيطين من الذين يعملون معك، وإن لم يكونوا أصدقاء لك، ولا تحتاج الإدارة إلى توثيق عرى الصداقة بقدر ما تحتاج إلى تبادل الثقة في التواضع واحترام الآخرين من الذين يعملون معك كفريق عمل، والصداقة ليست مشروعاً تجارياً إنما هي توادد ومحبة، ولا نحتاج فيها لتعلم طرق الإدارة الناجحة بقدر ما نحتاج فيها للتعلم والتدريب في عوالم الصدق لا المُداهنة وتجميل قول وفعل من نتفاعل معه بوصفه صديق لا بوصفه تاجر أو مُستثمر أو زميل في عمل.

لا تكتمل الصداقة بمجرد الميل والتعبير عن عواطفك الجياشة، إنما تكتمل حينما تكون أنت صادقاً مع نفسك كي تستطيع التعبير عن مكامن الصدق في القول والفعل مع الصديق.

كثير من الذين تظن أنهم أصدقاء لا يقبلون بلغة المُكاشفة والصدق، وهي طريقة اعتدنا العيش فيها ومعها نحن العراقيين والعرب في التعامل مع من نقول عنهم أنهم أصدقاء، وأغلبنا إن لم يكن جميعنا لا يرغب بلغة المكاشفة والتصريح من صديق مُحب لا نشك بمحبته لنا ليكشف لنا عن عيوبنا حتى وإن كان ذلك الصديق نبي أو وصي.

لا يصلح فن بناء العلاقات لمن يهيم بتجليات المحبة في الصداقة، لأن فن العلاقات يعتمد على تنمية رأس المال الرمزي أو الجتماعي، فكلما اتسعت مساحة العلاقات ونمت إنما تنمو معها مواردنا الاقتصادية، بينما في الصداقة كلما اتسعت مساحة رأس مال المحبة الصادقة، قلَت موارد الاقتصادية.

ولذا فإن كلا فن الإدارة الناجحة وأتقان بناء العلاقة يحتاج لوضع استراتيجية للعمل نستطيع من خلالها التخطيط لبناء مشروع استثماري ناجح يعتمد على كيفية النجاح الذي لا يكون له كون إلَا بالربح الفوري أو المُنتظر، وتلك سياسة يُمارسها التجار والساسة ورجال الدين، فكل منهم يأمل ويحلم بمكسب في الدنيا أو الآخرة، أما الصداقة فهي بناء للذات وتنقية لها مما علق بها من شوائب التجارة في السياسة أو الاقتصاد أو الدين.

الصداقة فن إتقان العلاقة مع الذات قبل الآخر، همَ صاحبها تحقيق الجودة في النفس لا في البضاعة، فلا بضاعة لمن يبتغي الصدق في الصداقة سوى إتقان التعبير عن المحبة للذات قبل الآخر، وحينما نستطيع أن نبني تلك المهارة في التصالح مع الذات والثقة بها، وذلك أمر نادر، سنتمكن بلا شك من إتقان العلاقة مع الآخر.

التواصل سمة مُشتركة في فن إدارة العلاقة وإتقان الصداقة، مع اختلاف الغاية، لأن في فن إدارة العلاقة سعي لتواصل مُصطنع لا حميمية فيه، ويعرف كلا طرفي المُعادلة فيه أنه تواصل مرحلي سينقضي بمُجرد قضائنا للمصلحة، أما التواصل في الصداقة فهو أمر لا تفسير له في عوالم المصلحة ولا الفائدة، لأنه يعتمد على إئتلاف النفوس، ولربما تشاكسها، فمقولة (الطيور على أشكالها تقع) ليست مقولة منطقية كي نخلص منها لنتيجة منطقية، إنما هي قول عُرفي، ولربما تجد هُناك نفوس إئتلفت من شدة التغاير فيها، وشغف أحدها بميزات ليست موجودة في تكوينه الأنوي.

فعد إلى نفسك وتذكر من شغفت به نفسك، فستجد فيهم منهم من هو شبيه لك في التفكر والسلوك والعادات فتمله لأنه لا يُخبرك عن جديد، ولأن في ذاتك توق للكشف عن مُضمراتها في القبول والرفض، فستجد أن هُناك بعضاً من الذين عشقت وصالهم وعقدت صداقة وثيقة معهم إنما هُم صورتك الأخرى التي لا ترغب بوجودها في تمظهرك الطبيعي وحياتك اليومية، لكنك تعشقها كصورة لك وتعبير مُضمر لتمردك على ذاتك، لذا تجد روحك ونفسك تواقة لهذا (المُشاكس) صديقك المُختلف عنك في ظاهرك والمؤتلف مع نزوعك الداخلي في الرفض والمغايرة، ذاتك الأخرى (المُضمرة) أو (المكبوتة).

يُحب الرجل عادة المرأة المُتمردة، بل يهيم فيها، وكم من رجال هاموا بعشق نساء أدبرن عنهم، وكم من رجال أحبوا نساء أمعنن في رفضهن لهم، وكم من رجال أحبوا غانيات.

ولا جواب عندي سوى أن في (المسكوت عنه) وما لا نستطيع البوح به كرجال، بل وحتى النساء في مُجتمعاتنا، ما يُفسر نزوعنا نحو الهيام في الرفض وعشقه لأن ذلك (المسكوت عنه) صورتنا الأخرى (المُضمرة) التي نرفض التصريح بعشقنا لها، ولا نرغب حتى بالتلميح عنها لمن يعرفنا من أصدقاء لنا تماهوا معنا في المحبة، فكانت فيهم القدرة على تفسير نزوعنا المؤتلف أو المُختلف.

الصديق الصدوق ليس هو من يرفع الهمم عند الصديق في المدح والثناء على أفعال صديقه وإن كان فيها ضر للجمع ورفض لمن يعرفوه من الأصدقاء، ولكنهم لا يرغبون بتقريعه لأنه نرجسي لا يرغب صداقة فيها تعبير عن نقد لفكره ورفض لسلوكياته واستياء.

ولا يعني ذلك أن الصديق الصدوق يُمارس دور الواعظ، وكأنه هو من يعيش في عوالم لا خطيئة له فيها، "فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون". وللصداقة الحقة طُرق في كشفها، منها صدقه في مُكاشفتك في أزماته، وصدقك معه في مُشاركته أزماته، ومنها تقليل ضغوطات التفكير والحياة في علاقتك معه، ولا تُسرف في الكشف عن أخطائه، لأن مهمتك مُشاركته في تصحيح مساره لا تقريعه والنيل منه فقط، واستخدم النكتة في توصيل رسالتك له في نقده، وحاول مرة وثانية وثالثة أن تلتمس له العذر، وإمدحه في العلن وعاتبه سراً، فإن أمعن في غيه فاترك صداقته بعد إخباره فتلك من شيم العقلاء والفرساِن.

ولك بعد مُعاتبته وإعلامه عن ما يدور حوله من شُبهات فساد مالي أو ثقافي أن تُصرح بما يطيب لك القول في قدحه، لأنه مفتون بنفسه، يُفسد في الثقافة، مُخادع أشر لا يختلف كثيراً عن الذين أفسدوا من الساسة.

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم