قضايا

الإصلاح والثورة في روسيا: العبرة التاريخية والبدائل المستقبلية (3)

ميثم الجنابيعندما تبلغ الثقافة قناعتها الخاصة عن المثال، فإن ذلك يفترض معاناتها إياه في العلم والعمل. وهي معاناة تبدع تصوراتها عن الواجب أو عما ينبغي القيام به، ويستحيل بلوغه دون النزعة النقدية للفكر ودون فرضياته الكبرى.

إذا كان الفكر الروسي المتمثل لقيم المثال الأسمى قد بلغ قناعته الخاصة عن ضرورة الثورة بالنسبة للإصلاح، فان نزعته النقدية اللاذعة تجاه الواقع وفرضياته الكبرى عن الواجب بقت في الأغلب أسيرة المواجهات الفردية والجزئية مع النظام القائم. فالفكر الروسي لم يرتفع في نقده وفرضياته إلى مستوى الرؤية المنظومية، ولم يستطع بلورة وصياغة فلسفته السياسية. وهو السر القائم وراء الاندفاع المتحمس للفكر الديمقراطي الثوري صوب الهيغلية اليسارية أولا والماركسية لاحقا. بحيث جعل لينين يتكلم في وقت لاحق عن المعاناة الروسية في انتظارها للماركسية. ولم يقصد بذلك العثور المفاجئ عليها كما لو أنها الهبة المرسلة من سماء التاريخ الأوربي إلى أراضي روسيا الشاسعة، بقدر ما كان يعني استجابة الماركسية للعناصر النقدية والفرضيات المتراكمة في التاريخ الروسي بشكل عام والثوري الديمقراطي منه بشكل خاص. وليس مصادفة أن يتكلم لينين أحيانا عن "المصير التاريخي" للماركسية في روسيا.

لم تعن مطابقته بين معاناة الوعي الثوري الروسي في بحثه عن "مرشد عمل" وبين العثور عليه في الماركسية سوى إدراك قيمة الماركسية بالنسبة للحرية الاجتماعية الحقيقية. فقد كانت الحرية معضلة روسيا القيصرية ومعضلة الماركسية أيضا، بمعنى انعدامها في الأولى و"غائيتها" في الثانية. وهي فكرة أكد عليها لينين منذ بواكير أعماله النظرية ونشاطه السياسي. فهو يشير في إحدى مقالاته إلى أن روسيا المتحررة من الاضطهاد الطبقي والقومي هي مقدمة تحرير أوربا نفسها من رجعيتها وحروبها الدائمة.

ومن الممكن القول بأن الوعي الروسي الثوري قد تمرس في قبوله لنتاج الفلسفة "الكلاسيكية الألمانية" ابتدأ من كانط وانتهاء بفيورباخ مرورا بهيغل. وبما أن المنطق الهيغلي يفترض بلوغ ملكوت الحرية في مجرى تعمق وعي الذات، فقد اصبح من الممكن إنزال هذا الملكوت إلى أرض الصراع الطبقي المباشر وإعلانه أسلوبا لبلوغ الحرية الحقيقية. وهذه الفكرة التي شكلت عصب الصيرورة الماركسية وروحها الفعال ابتداء من إشكاليات الاغتراب والععل حتى حتمية الانتقال إلى الشيوعية وضمور السلطة القهرية (أو الدولة بالمعنى التقليدي للكلمة). بهذا المعنى كان "اكتشاف" الماركسية في مجرى المعاناة الثورية الروسية النتاج "الطبيعي" لالتقاء الجهود العلمية (النظرية) والعملية الروسية في البحث عن النموذج الواقعي والمثالي للحرية. وهي فكرة عميقة سوف يجري ابتذالها من جانب الأيديولوجية السوفيتية في وقت لاحق عندما جعلت منها عقيدة مقدسة. واستبدلت معاناة البحث والتضحية الروسية عن "عقيدة الخلاص" بيقين القناعة القائلة بغائية الالتقاء. بحيث جرى تأويل التاريخ الروسي (والعالمي) كله كما لو انه "تحضير" لما تنوي هذه الأيديولوجية قوله وفعله. أما التنظير اللاحق لذلك بمفاهيم الطليعة السوفيتية الشاملة فقد أدى إلى ابتذالها الكامل في البيروقراطية الحزبية وأصنامها المتنوعة. وأفلحت هذه الصنمية في صنع أفلاكها الأيديولوجية الدائرة في خيالات وقناعات الضرورة التاريخية والحتمية الملازمة لانتظار الماركسية (كأحزاب) حتى في البلدان (العربية منها أيضا) التي لم تعان اجتماعيا ولا فكريا ولا روحيا من إشكاليات الضرورات الكبرى وحتميتها. وإذا كان من الممكن فهم هذه القناعات الإيمانية بمعايير الدعاية السياسية، فإن قيمتها النظرية لم ترتق حتى إلى مصاف الأيديولوجيا "الذكية". من هنا تقليديتها الفجة وسطحيتها النظرية.

ومع ذلك، فإن "اكتشاف" الماركسية في روسيا كان يعني بناء صيغتها الروسية. فالماركسية الروسية لم تكن تقليدا أجوف ولا معاناة مغامرة، بل نموا تلقائيا للوعي الثوري الروسي في سعيه للتحرر من القهر والاضطهاد القيصري. من هنا فان تحسس وإدراك الالتقاء التاريخي والروحي بين الماركسية والديمقراطية الثورية يخدم مزاج الرؤية الثورية في بحثها عن "عقيدة الخلاص" وتأسيسها النظري السياسي لتنشيط هذه العقيدة في "الروح الجماعي" الروسي.

لهذا لم يجد لينين في الماركسية "عقيدة خلاص"، بل "مرشد عمل". وهو تباين يتجاوز حد العبارة إلى أسلوب الرؤية والفعل. من هنا تشديده في بواكير أعماله النظرية، على انه لا يوجد ماركسي في روسيا يشترط إلزامية الرأسمالية فيها لأنها موجودة في الغرب، أو يرى في آراء ماركس مخططا فلسفيا تاريخيا ملزما للجميع، أو أكثر من نظرية تخدم مواقف الاشتراكية الديمقراطية ورؤيتها للواقع التاريخي الروسي. وذلك لأن الجوهري هو كيفية تطبيق آراء ماركس في الواقع الروسي. مما جعل لينين يشدد على أن شروط الإبداع الفكري والسياسي للمثقفين الروس يكمن في بحثهم الجاد والمتعمق في روسيا الواقعية لا روسيا المرغوب فيها، روسيا الواقعية لا المثالية. ذلك يعني، أن الجوهري في الماركسية ليس خطتها المجردة ولا حتى أحكامها الملموسة، بل منطقها وماهيتها (العلم والديالكتيك). ولا تعني هذه الأفكار في مضمونها التاريخي سوى المساهمة النظرية في تعميق الرؤية الثورية للتراث الديمقراطي الروسي من خلال تنشيط نقدية الماركسية وفرضياتها المنظومية. فقد استجابت الماركسية كنظرية وحّدت في ذاتها النزعة النقدية والفرضية المنظومية، لنزوع الديمقراطية الثورية الروسية في بحثها التاريخي عن الحلقة المكملة لسلسلة فلسفتها السياسية. لهذا جعل لينين من شرط الإبداع النظري الثوري الروسي سبيله إلى دراسة الأشكال الواقعية الاجتماعية الاقتصادية كاشفا حتمية الاستغلال ومآسيه في ظل سيادة الرأسمالية، وكذلك تفعيل الرؤية العملية الكفاحية.

إن انتظار الماركسية كان يعني أيضا استعداد روسيا المادي والروحي لتأسيس رؤيتها التاريخية والسياسية عن ضرورة البديل الاجتماعي الشامل. لهذا كان ارتقاء الديمقراطية الثورية صوب الاشتراكية الديمقراطية نتيجة لازمة لنضوج الوعي التاريخي الثوري، لا نتيجة للأهواء العابرة. بمعنى تصّير الديمقراطي الثوري ديمقراطيا اشتراكيا، وأن تكون ثوريا يعني أن تكون اشتراكيا. وهو ادراك استعاد تقاليد الثورية الروسية بالشكل الذي جعل من تفعيلها السياسي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، المهمة الأولى للاشتراكية الديمقراطية. من هنا توكيد لينين على أن الماركسيين الروس بالاختلاف عن اشتراكيي الماضي لم يكتفوا بالإشارة إلى واقع الاستغلال، بل وحاولوا تفسيره، ولم يقفوا عند هذا الحد بل واكتشفوا الطبقة التي يمكن أن يوجهوا اهتمامهم إليها من اجل تثوير وعيها الذاتي لقيادة التحولات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية الشاملة. وهي المهمة التي استلزمت في ظروف روسيا، كما يقول لينين، تحويل الطبقة العاملة إلى ممثل للفئات المستضعفة عبر رفع نضالها من حضيض الفتن وردود الأفعال الجزئية إلى مستوى النشاط السياسي المنظم، باعتبارها المهمة الأساسية للاشتراكية الديمقراطية الروسية. وأن بلوغ الحركة الاشتراكية الديمقراطية في رؤيتها النظرية والسياسية درجة تمثيلها للمصالح الجذرية للطبقة العاملة والكادحين هو الذي يمنحها إمكانية السير صوب الثورة الاشتراكية، كما وضع ذلك في كتابه (ما العمل؟).

كان كتاب لينين (ما العمل؟) من الناحية الرمزية انتقالا صريحا من تاريخ الفتن وردود الأفعال الديمقراطية المتحمسة إلى نظام الرؤية السياسية، أي الانتقال من تذبذب "النفس الروسية" بين "من المذنب؟" و"ما العمل؟" إلى وحدتهما الفعالة بالنسبة لتفسير الواقع وتغييره. فقد كان (ما العمل؟) اللينيني الاستكمال السياسي للروح الأدبي (الديمقراطي الثوري) المتجمع في غضون قرن كامل من المعاناة الحقيقية في مختلف ميادين الصراع والإبداع. وأشار لينين في (ما العمل؟) إلى روسيا الظلامية،القمعية، الرجعية، المتخلفة نهاية القرن التاسع عشر. وهي المرحلة التي استنفدت فيها الديمقراطية الثورية رصيدها الخطابي. مما جعل من تغلغل الماركسية في الأدب الثوري والنظري العلمي، الظاهرة الأكثر شيوعا وانتشارا. وأشار أيضا إلى أن الكتاب الماركسي أصبح الأكثر نفوقا في روسيا، والنظرية الماركسية أصبحت الأكثر انتشارا بين الخواص والعوام (النخبة والجماهير)1.

كما أصبح من الممكن الحديث عن ماركسية علنية وماركسية اقتصادية وماركسية مبتذلة وماركسية انتهازية وماركسية تحريفية وغيرها.

فقد انتقد لينين ابتذال الماركسية وضعف مستواها النظري بفعل انتشارها الواسع بين أناس يفتقدون إلى التأهيل المعرفي. ولم يسع من وراء ذلك إلى إهدار قيمة الأيديولوجية في استقطابها للجماهير، بقدر ما وجد في ابتذالها تثليما لروحها الثوري. وهي الظاهرة التي تميز في الإطار العام آلية فعل العقائد الكبرى في الوسط الجماهيري، بغض النظر عن مستوى التطور الاجتماعي الاقتصادي والثقافي. كما أنه "القدر" الذي ميز على الدوام الأديان العالمية والنظريات العقائدية الكبرى بفعل سيادة المبادئ الموحدة (الواحدية والوحدانية) فيها. وأعطى ذلك للجميع إمكانية الانتماء إليها والبقاء في حيزها رغم تباين المعارف والأذواق. بمعنى عدم تعارض البقاء في حيز "الايمان" والارتقاء إلى مصاف المرجعية في العلم والعمل. وإذا كانت هذه العقائد وما تزال تفعل فعلها في استثارة وتنظيم القوى الاجتماعية والسياسية والروحية، فأنها تفرز مع ذلك عناصر التقليد والتقييد بفعل وجودها في "نظام الفوضى"، أي في ظل ضعف وهشاشة البنية الحقوقية للدولة، مما يؤدي في الأغلب إلى جعلها أداة بيد البيروقراطية الحزبية (السلطوية والمعارضة). وليس مصادفة أن يؤدي ذلك إلى انتشارها بين اكثر الناس جهلا بمبادئ العقيدة وأبعدهم أحيانا عن أخلاقها المعلنة.

ومع ذلك أصبحت الماركسية من وجهة نظر لينين الكيان الجامع لمظاهر السياسة المتنوعة في مراحل الصراع الحادة. وكشفت بذلك عن أن رواجها لم يكن صدفة بقدر ما كان استجابة للكلّ الثوري المتبلور في تنوع المدارس والفرق والمذاهب والعقائد والأحزاب والجمعيات في روسيا ما قبل الثورة.

أما الوحدة المتناقضة لرواج الماركسية وتنوعها، ضرورتها في مساعي الحرية و"انحرافاتها" العديدة، فأنها تعكس إشكالية البحث عن النماذج الواقعية للبديل الإصلاحي الشامل. وقد أصاب لينين عندما أكد على أن المبادئ التحررية للماركسية وبراهينها العلمية على ضرورة تصفية الاستغلال، كخطوة لبلوغ الحرية الإنسانية هي التي جعلت من خطواتها في كل مجال ميدانا للمعارك. ولم يكن ذلك ناتجا عن ضغط الرؤية المتبلورة في مجرى قرن من المعاناة الروسية في البحث عن المثال والواجب فحسب، بل وبأثر الانتقال التاريخي للديمقراطية الثورية نفسها إلى مصاف الاشتراكية الديمقراطية. لقد قادت هذه العملية إلى تكون التيار الثوري الاشتراكي بوصفه توليفا روسيا لتقاليد الديمقراطية الثورية والاشتراكية الديمقراطية، ومن ثم تحول الاشتراكية الديمقراطية (الروسية) إلى الممثل الأكثر تجانسا للحركة الديمقراطية الروسية ككل آنذاك.

إن مطابقة الثوري مع الاشتراكي، والاشتراكي مع الثوري جعلت من تيارات "الإصلاحية" الأخرى، بنظر الاشتراكية الديمقراطية الروسية (البلشفية منها بالأخص)، مجرد حركات ليبرالية برجوازية نشأت على أطراف التيار الأصيل للحركة التقدمية الروسية. مما حدد حتمية الصراع معها، وميز التاريخ السياسي الروسي حتى الثورة، عبر صراع الاشتراكية الديمقراطية مع التيار الليبرالي . وإذا كان هذا الصراع السياسي قد اتخذ في بداية الأمر صيغة الصراع النظري مع "الماركسية العلنية" ثم الشعبية ثم "الاقتصادية" و"التحريفية" و"الانتهازية" وغيرها، فانه أدى في ميدان الفعل السياسي إلى تركزه في مجال التعارض التام بين الرؤية الثورية والرؤية الليبرالية البرجوازية في المواقف من إصلاح روسيا. حيث اتخذ هذا الصراع في بداية الأمر صيغة "تنقية" الرؤية الماركسية نفسها والحفاظ على ثوريتها. وافلح هذا الصراع في غضون ثلاثة عقود (قبل الثورة) على تذليل مختلف الماركسيات العلنية والتحريفية والانتهازية، التي كانت تهدف إلى البقاء في حيز الجزئية (كالماركسية العلنية) وتمييع فكرة الصراع الطبقي (كالتحريفية الكاوتسكية) وإلغاء جوهرية الهدف النهائي (كالانتهازية البرنشتينية). وهو صراع أدى إلى بلورت البلشفية، باعتبارها التيار الأكثر تجانسا مع السياسة الثورية في رؤية الوسائل والغايات.

فالصراع مع الماركسية العلنية والكاوتسكية أدى إلى دمج الفكرة القائلة بجوهرية الصراع الطبقي وشمولها العقائدي في المواقف السياسية والآراء النظرية تجاه كافة جوانب الوجود الاجتماعي. في حين أدى الصراع مع البرنشتينية وأفكارها عن جوهرية الحركة لا الهدف النهائي، إلى توكيد وحدة الحركة والغاية. إذ لا يعني إهمال الهدف سوى الإرجاء الدائم للاشتراكية. بينما لا طريق (أو وسيلة) إلى الاشتراكية إلا بالصراع الطبقي، الذي يفترض ضرورة الثورة. وهي الحصيلة التي حالما جرى تثبيتها في المبادئ الكبرى للبلشفية ( باعتبارها التيار الديمقراطي الاشتراكي الروسي الأكثر فاعلية قبل الثورة) ، فأنها أدت إلى تركيز مواجهاتها السياسية الفكرية ضد التيارات البرجوازية بشكل عام والليبرالية منها بالأخص.

وقد أعطى انتصار ثورة أكتوبر للبلشفية أبعادا عالمية باعتبارها أحد النماذج العملية الراقية للماركسية. أما تحولها اللاحق إلى الممثل الشرعي الوحيد للماركسية (والاشتراكية) على النطاق العالمي فقد أدى إلى نتائج خطيرة ومضرة للأحزاب الشيوعية. فتباين المهمات والقدرات والمواقع بين الأحزاب الحاكمة (في الاتحاد السوفيتي وغيره من البلدان آنذاك) أدى إلى إخضاع المزاج الثوري لحركات التحرر لقيود الحزبية الدولتية، في حين أن البلشفية السياسية هي مبادئ عملية تستمد رؤيتها من تفسيرها الخاص للماركسية. لهذا طرح لينين في معرض نقده لليسارية المتطرفة في عمله النظري (مرض الطفولة....) المقدم للكومنترن الثاني ظاهرة استصغارها لقيمة البلشفية. فركز على مبادئ ضرورة الحزب السياسي المرن والفعال (من دخول البرلمان البرجوازي إلى العمل بين الجماهير والنقابات بما في ذلك اشدها رجعية، إلى تطويع الإرادة السياسية بما في ذلك قبول المساومات. ووجد في هذه المرونة المبدئية شروط الكفاءة العملية للحزب في تحقيق الغاية النهاية للحركة الاشتراكية الديمقراطية الثورية ألا وهي الثورة الاشتراكية.

وليس مصادفة أن يرى لينين في التيارات التحريفية والانتهازية في الحركة الاشتراكية الديمقراطية (الأوربية والروسية) تعبيرا عن "أثر ومآثر" الليبرالية البرجوازية. وهذا ما جعله يشدد على أن تاريخ الماركسية بشكل عام (وفي روسيا بشكل خاص) هو تاريخ الصراع ضد الليبرالية البرجوازية في مواقفها وآرائها المتنوعة الهادفة إلى تمييع الصراع الطبقي وإلغاء ضرورة الثورة. وذلك لأن ما يجمع الاتجاهات الليبرالية هو تنظيرها وعملها الهادف إلى عزل مفاهيم وممارسات الديمقراطية والاقتراع العام وإرادة الأغلبية والدولة عن مفهوم الطبقات والطبقية.

ففي مجرى دراسته تاريخ الليبرالية البرجوازية توصل لينين إلى الفكرة القائلة بأن النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أوربا وبداية القرن العشرين في روسيا يكشف عن زيف أحكام الليبرالية البرجوازية بصدد قضايا الديمقراطية والاقتراع العام ومفهوم الدولة (اللاطبقي). وهو حكم صحيح من حيث إدراكه جوهر الديمقراطية بالمعنى الماركسي والسوفيتي، رغم إشكاليته التاريخية والاجتماعية. وفي حالة إرجاء الجدل الفلسفي والسياسي حول هذه القضية، فان مما لاشك فيه صواب الفكرة بالنسبة للحركة الثورية في استشراف آفاق البدائل الاجتماعية الاقتصادية والثقافية. ولعل تجارب الديمقراطيات في أوربا الشرقية وروسيا المعاصرة تكشف عن زيف ادعاءات الليبرالية البرجوازية وأحكامها بهذا الصدد، وتبرهن على أن "التعسف السوفيتي" اكثر نزاهة وإنسانية من "حرية الديمقراطية الروسية" لمرحلة يلتسين واعوانه.

لقد كان مثال الديمقراطية الثورية الروسية والاشتراكية الديمقراطية هو التغيير الشامل للنظام القائم (القيصري). وهي الفكرة التي وضعها لينين في أبحاثه وبراهينه العديدة، حتى في فكرته القائلة بأن المرء لا يمكنه أن يكون ثوريا ديمقراطيا في القرن العشرين، في حالة خوفه من السير صوب الاشتراكية. وقد حددت هذه النتيجة الموقف النهائي من تاريخ الإصلاحيات السابقة ككل.

وضعت الماركسية البلشفية فكرة الإصلاح ضمن مفاهيم الثورة، وجعلت من الثورة القابلة الضرورية للتاريخ، والقوة التي ينبغي أن تتخطى عقبات التاريخ الواقعي بنقله إلى أسلوب جديد في الملكية يحدد بدوره مضمون التحولات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية ككل. ذلك يعني، إن الإصلاح الحق حسب نظر البلشفية هو الإصلاح الشامل، الذي يفترض مشروعية الثورة باعتبارها القوة الوحيدة القادرة على أنسنة العلاقات الاجتماعية بالقضاء على الاستغلال الطبقي، وبلوغ ملكوت الحرية.

غير أن بلوغ الحرية الحقيقية والبقاء في إمكاناتها ليس تقنينا شبيها لما في الطوباويات القديمة وتخطيطاتها الشكلانية، بل هي الذروة التي يفترضها "منطق" التاريخ وتناقضات قواه المنتجة وعلاقاته الإنتاجية. بهذا المعنى فإن الثورة إصلاح، كما أن الإصلاح ثورة. أما توليفهما العملي فيمكن أن يتخذ أشكالا يصعب حصرها مسبقا، مما فسح المجال أمام اللينينية لأن تصوغ نظريا إمكانية الثورة السلمية والعنفية، باعتبار أن ذلك يمس الأسلوب فقط. وإذا كان للأسلوب أثر في كيفية تفتح القوى الكامنة في الثورة، فان ذلك مرتبط "بمصادافات" التاريخ وكيفية تجمع عقده المتناقضة لا بالرغبة الجامحة في كسر طوق التاريخ بالعبور إلى ما وراءه. إذ لم تعن الفكرة الماركسية عن تذليل التاريخ سوى القضاء على مقدمات صراعاته المقيدة بالملكية الخاصة. ومن ثم ليس "التاريخ الحقيقي" سوى الإمكانية غير المحدودة في الحرية.

وقد وقف تاريخ الفكر الفلسفي على الدوام أمام إشكالية تحديد الحقيقي من الزائف، وإذا كان من الممكن تجذرهما في المنطق بمقولات الصواب والخطأ، فإن هذا التمييز يتلاشى أمام الرؤية الوحدانية للتاريخ والنشاط الإنساني الخارج عن شكليات المنطق وحدوده الضرورية في بناء العبارة والمعنى. غير أن هذه الوحدانية نفسها جعلت من الحقيقي والزائف محور اهتمامها الجوهري، لأنها أرادت من وراء ذلك كشف المعنى المفترض أو الغاية المتسامية أو الوجوب الوجودي والأخلاقي في الظواهر والأشياء والأفعال. وإذا كانت الرؤية الدينية، على سبيل المثال والمقارنة، قد افترضت المعنى والغاية والوجوب وراء الحياة وجسّدته بمفاهيم الوعد والوعيد والثواب والعقاب والجنة والنار دون أن تهمل حدوده الأرضية (على الأقل في الإسلام) فان النظريات التي جعلت من المطلق الإلهي ميدانا لتأمل الحرية الإنسانية واضطرارها المجبور، حاولت من خلال نماذجها المتنوعة صياغة الأسلوب المناسب في إدراك علاقة "الحقيقي" و"غير الحقيقي" في التاريخ. بهذا المعنى يمكن النظر إلى الرؤية الماركسية عن الحقيقي وغير الحقيقي في التاريخ على أنها امتدادا لتقاليد الوجوب المتسامي. إلا أن وحدانيتها المادية حددت هذا المعنى وربطته بقيم التحولات المادية والتطور الطبيعي للتاريخ لا بمفاهيم الروح الأخلاقي. أنها أرادت التأسيس للأخلاق المتسامية من خلال تذليل "أخلاقية الطبيعة". ومن الممكن العثور في ذلك على صدى الفكرة القائلة بضرورة رجوع الإنسان إلى فطرته الأولى، بمعنى تذليل "الطبيعي" فيه من خلال الاستناد إلى الطبيعي نفسه، أي الإبقاء على الملكية ولكن من خلال تذليل طابعها الخاص. وهو بقاء يفترض فناء الملكية الخاصة بوصفها المبدأ الشامل في الحياة المادية والروحية للإنسان. وإذا كانت هذه النتيجة تبدو للوهلة الاولى بعيدة المنال، فليس ذلك إلا لقصور النفس الإنسانية وضعف قدرتها على تذليل نفعيتها (أو غريزتها الحيوانية). وهي إشكالية سوف يكشف التاريخ اللاحق عن هويتها "الثقافية" لا "الطبيعية". ومن الممكن القول هنا بان الاحتمال الإنساني العميق في الفرضيات الماركسية ومحاولة تطبيقها في الرؤية العملية للبلشفية تبقى في جوهرها من بين أهم وأعمق الإبداعات الفكرية والعملية في القرن العشرين. ولا يغير من ذلك "سقوطها" المرحلي. إذ أن قيمة الفرضيات التاريخية الكبرى لا تقوم في ما إذا كانت قابلة للتنفيذ أم لا، بل فيما تنوي فعله وتريد قوله أولا وقبل كل شيئ. و ما عدا ذلك فمجرد تاريخ! 

وشكلت هذه الأفكار المتراكمة في الرؤية الماركسية منذ إرهاصاتها الفلسفية الأولى مرورا بكتاب (البيان الشيوعي) وانتهاء بكتاب (الرأسمال) المقدمة النظرية الكامنة للثورة الشاملة باعتبارها إصلاحا، وللإصلاح باعتباره ثورة دائمة. وإذا كانت الثورة الشاملة قد اتخذت في بادئ الأمر صيغة الثورة العالمية، بينما اتخذت الثورة الدائمة صيغة الفعل المتوجه صوب "التاريخ الحقيقي"، فان التجسيد العملي لهذه الأفكار في البلشفية لم يكن تحجيما لها بقدر ما كان استجابة واقعية وعقلانية لما في التقاليد الثورية للاشتراكية الديمقراطية (الأوربية) بشكل عام والروسية منها بالأخص. فالجوهري بالنسبة للينينية ليس الصيغة النظرية الدقيقة للماركسية، بل فرضياتها الكبرى واحتمالاتها المتجددة. مما أعطى للينينية مرونة عملية هائلة وأبقاها في نفس الوقت ضمن حيز الاستيعاب الثوري للتقاليد الروسية. لهذا واجهت اللينينية إمكانية الانتقال إلى الاشتراكية عن طريق السلم والعنف. فالسلم والعنف بالنسبة لها مجرد أشكال ومظاهر للثورة بوصفها تحولا شاملا للوجود الاجتماعي السياسي والاقتصادي للأمة. فقد نظرت اللينينية إلى الثورة نظرتها إلى أسلوب ضروري للتسريع في بناء المجتمع الإنساني دون انتظار "حتميته" المتراكمة في الحاضر والمستقبل. ولم يكن ذلك تقديما للإرادية أو سقوطا في أحضانها أو انهماكا بالمستقبلية واستعجال آفاقها. على العكس! لقد كان ذلك إدراكا خاصا للعلاقة الواقعية والواجبة بين الحرية والضرورة، والواقع والمثال، وتحديد النسبة "المتذبذبة" لهذه العلاقة في العمل السياسي. الأمر الذي جعل اللينينية "ماركسية القرن العشرين". بمعنى تحويلها الروح الثوري للماركسية إلى روح الثورة الروسية. وبهذا تكون قد وضعت الروح الثوري للماركسية في ثورية العمل، وتركت للعقائديين مهمة الجدل حول ما إذا كان ذلك انحرافا أو ابتعادا أو تمثلا لحقائق الماركسية ومبادئها. كما مارست ذلك تجاه من بدا لها منحرفا أو مبتعدا أو مبتذلا لحقائق الماركسية ومبادئها. وقد كان ذلك جدلا له صداه وأثره التاريخي والمعنوي حتى في الموقف من ماهية الثورة والإصلاح في روسيا القرن العشرين.(يتبع...)

***

ا. د. ميثم الجنابي

.....................

تطرح هذه القضية بدورها مهمة تجاوز العقائدية بالشكل الذي يذلل إمكانية تحولها إلى مبادئ ثابتة. بمعنى تذويب عناصر العقيدة في الرؤية السياسية المتجددة والمتبدلة والمتغيرة لا جعلها أيديولوجية ملزمة. وهذا يستلزم بدوره تحرير الأحزاب من الأيديولوجيات المقننة، والتمسك بمبادئها العامة فقط. فبقاء الأحزاب السياسية كقوى سياسية فاعلة يشترط عدم تقيدها "بمنهجية" أيديولوجية صارمة. وذلك لان ميدان فعل الأحزاب خال من المنهجيات، إضافة إلى صعوبة بل واستحالة حد المنهجية بمعايير السياسة. أما الإلحاح والانهماك في التنظير لها والجهاد المبدئي من اجلها فانه لا يؤدي إلا إلى صنع منهجيات القمع المباشر وغير المباشر والهمجية المكتفية بذاتها.

وهو صراع لم ينته بعد، حيث اتخذ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي شكلا جديدا ولكنه بقي في محتواه كما هو. فإذا كانت الثورة البلشفية في روسيا قد ذللت في بداية القرن قيمة الإصلاحية الليبرالية، فانها برزت في نهايته كما لو أنها المثال الأسمى للبديل الإصلاحي. أنها حاولت استقطاب التاريخ الروسي بالشكل الذي تصادر به روحه الثورية والديمقراطية. مما جعلها تمارس في ظاهرها وباطنها اشد النماذج تزييفا. وهو تحول مرتبط بطبيعة وصولها إلى السلطة وأسلوب استحواذها على الثروة (الوطنية). فقد كانت ليبراليتها في الواقع الصيغة "الدستورية" لطفيليتها وهامشيتها الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية. وهي مقدمات أدت في ظل التبدل النوعي للوجود الاجتماعي التاريخي للدولة والأمة، الاقتصاد والتكنولوجيا، الثقافة والأيديولوجيا في روسيا على استفحال تناقضاتها الداخلية، لأنها تحاول تمّثل حالة لا تاريخ فيها. لهذا استقطب في "أيديولوجيتها" مختلف المشارب من ملكية وجمهورية، وفاشية وشيوعية، ونصرانية وإلحاد، واستهلاك وتقشف، أي كل ما لا يمكن استيعابه، لأنها لا تعرف قيمة ومعنى الانتماء الصادق للتاريخ القومي. إذ لا تاريخ قومي (روسي) فيها ولها. من هنا، لم تعرف شيئا غير الشتيمة والتقبيح والتحريم والتجريم، أي كل ما أدى إلى نخر وجودها الذاتي.

 

في المثقف اليوم