قضايا

شروق الشمس بعد كسر المرآة

علي المرهج

لا شك أن غروب الشمس بكل ما فيه من (وحشة) وخشية من قادم نجهله، وبكل ما فيه من تنهد وشعور بحسرة تشعر بها وكأنك غادرت يومك.

زمن الغروب فيه ما يشي بأنك مُقبل على سكون الليل، وفي الليل هدوء وتأمل عند من يريد مُغادرة صخب النهار، ولكنه عند الطامح للحياة والعيش في ملذاتها علامة تُنذر بوداع ربما يكون الوداع الأخير، ويخشى مثل هؤلاء أن يناموا الليل بعد غروب فلا يستيقضوا.

أما عند الحالمين ببزوغ فجر جديد وحياة مليئة بالمحبة ليس فيها خوف من وداع بقدر ما فيها من توق للُقيا حبيب، فسيكون لشروق الشمس معنى، سواء في مغادرتهم لدُنيا الواقع بكل ما فيه من زيف، أو في يقضتهم في دُنيا هذا الواقع ليكونوا رسل المحبة فيه وناثري (الهيل) كي يكون عطر التواصل في تنشقه ليُزيل زُفرة العيش الأليم.

إن كان في الغروب توجس للنفس عند أصحاب الملذات من وداع الحياة في الموت، لأنهم يظنون أن في وداعهم لدنياهم لُقيا لحزن أبدي لا تستريح به أنفسهم من فرط نسيانهم لبشرية غيرهم ونُكران حقوق المُغايرين لهم، لأنهم لا يرون سوى أنفسهم وكل الآخرين إنما هم أعراض لاستكمال تصور أناهم وجوهريتها!.

كثيراً ما نجد من الذين لا يرون سوى أنفسهم على أنهم أس الوجود والآخرون هوامش في مركزية وجودهم يتلذذون في حرمان المُحيطين بهم من الشعور بوجودهم بمعزل عن (الأنا) المركزية، فلا حياة للهوامش ولا وجود لأطراف يستحقون أن يعيشوها بشرف مُغاير لحياة (الأشراف) = (الأسياد)  الذين أسرفوا في طُغيانهم فنسيوا أن هؤلاء(الهوامش) قد خلقهم الله من ذات الطينة أو النطفة، فكيف بمخلوق ينسف مرام الرب في تصييره للوجود على أنه (ديالكتيك) تكمن أصالته في حوارية النقائض، فلا يعرف الشخص ذاته ولا يشعر بوجوده الحقيقي إلَا بوجود ضده، فلا وجود لمركز خارج وعينا بوجود (الهوامش)، فلا مركزية للمركز في حال غياب الهامش أو إنعدام وجوده.

إن كل وعي (أنوي) يتجوهر خارج وجود الآخر أو مسخ حضوره، ومحاولة تصيير المركز (الأنا) لـ (الآخر) وكأنه ظل له، إنما هو (وعي مُزيف) فيه خسارة للذات أكثر من نزوعها للكسب، فجعل المُختلف في وجوده مُطابقاً للأنا في الفهم والتعقل، هو فعل نرجسي مرضي لا يختلف كثيراً عن من يقف أمام المرآة فلا يرى إلَا نفسه، ولأنه من يمتلك سلطة التوجيه في الترهيب والترغيب، فسنجد أنه لا يرى في المرآة سوى إنعكاس رؤيته للحياة، حياته هو، ليجعل منها شبيهة بالمرآة دُنيا الخاسرين بعد مرور الزمن.

في هذه المرآة لا يرى النرجسي سوى صورته، وفي الحياة هو قادر على وضع نظم وقوانيين للطاعة يجعل الآخرين مرآة له ليجعل من صورة الحياة التي يعيش ويعيشها من معه لا تغيير فيها ولا خروج عن أطر صنعها هو، فلا تكون هُناك قيمة في حياة الجماعة التي تتماهى مع الفرد بقدر ما ستكون صورة من صور الإمعان في تأكيد تضخم الأنا التي جعلت من المرآة تبدو وكأنها تعليم واتقان لعوالم التقليد والاتباع!.

هذه المرآة تعكس صور الجمال والقُبح بحسب الناظر، فإن كان ذلك الناظر هو من يمتلك المرآة فلا يُشاركه فيه أحد، فستجده لا يرى في صورة المرآة غير ما يبتغيه من نزوع مرضي لا يرى سوى تضخم (أناه) ومظاهر السُخف عند مُريديه أو مُتملقيه في الوقوف أمام المرآة مُحنطين يتخذون لأنفسهم موقعاً يرسمه لهم (ربهم الأعلى) ويدعوهم للإنضباط وتصنع الوقوف خارج رغباتهم وهم يمتثلون لأنهم لا يمتلكون القدرة في التعبير عن الرفض بقدر ما يخزنون من وعي تراثي يدعوهم للتماهي مع مُحددات (الكاريزما) في الوقوف أمام المرآة وفق تصوراته للتماهي مع الحدث على أنه من مُقتضيات ترسيمات الجمال في الشخص والوقوف أمام المرآة.

لكن لو كان هذا الشخص الذي ينظر للمرآة مزهواً بنفسه، وقبل بوجود آخرين في مشهدية الرؤية داخل فضاء إطار المرآة، فستكون الصورة لوحة للتعبير عن التنوع والاختلاف وكسر لكاريزما الذات، وإن أظهر من هم في مشهدية صورة المرآة أنهم من المُعجبين بصاحبها!.

إن وجود آخر أو أكثر في مشهدية الصورة المرآوية إنما هو كسر لنمطية الوجود الكارزمي.

تصور أنك في حال ترتيب الصورة في المرآة مع آخرين وقد سولت نفس فرد منهم كسر المرآة وتشظيتها، فالحدث سيكون (دراماتيكياً) حتماً، وستكون شظايا المرآة صوراً من لا صورة له.

كسر المرآة فيها كشف وتعرية للأنا المُتضخمة المزهوة وخروج عن نمطية التصور الدارج في وقوفنا أمام المرآة.

لا يكشف تشظي المرآة عن نزوع الأنا المُتضخمة فقط، بل يكشف عن خيبات الجمع في نسيانه لنزوع الأفراد الذين كونوه.

في كسر المرآة نزوع نحو وداع غروب الشمس و العمل على صناعة الذات بحضورها مع الآخر في انتظار الشروق كي نرى بهاء الدُنيا بكل ما فيها من تمظهرات وتنوعات، بعضنا يقبلنا وآخر يرفضها، ولكنها هي ذي الحياة، تبدو أجلى بتشظي المرآة وإنبلاج الصبح في شروق الشمس.

  

  د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم