قضايا

احتكار الحقيقة المطلقة

مجدي ابراهيمإنها لبديهةٌ من بدائه الإيمان بهذا الدين السمح العظيم تقرر: إن ليس من حق أحد أن يحتكر الإسلام؛ ولا أنْ يحتكر التعبير عنه؛ ولا أن يحتكر قبل ذلك فهمه بالكلية، ولو أوتي من الحماسة له ما أوتيَّ من علو الجانب واتساع الأفق وبلوغ المرام .

إنه "أبو حنيفة النعمان" هو الذي قال: "علمنا هذا رأي؛ وهو الذي قدِرنا عليه، فإن جاءنا أحدُ بأحسن منه قبلناه".

ومعنى هذا، إنه إذا تجاوز العلم الرأي لم يعد محلاً للنزاع فيما لو جيء بقدرة القادر بأفضل منه، ولم يكن مصدراً من مصادر الخلاف إذا كان في الوجهة أصحّ منه؛ لأن الرأي فيه خاضع لدرجة تفكير صاحبه ومدى ما توصل إليه ممّا استقرت عليه مقاصده، وهو إنه رأى قابل لخلاف المختلفين من الوهلة الأولى.

ثم إنّ الحوار نفسه لبلوغ مثل هذا الرأي يحتاج إلى كفاءة ذهنية لا تعرف التعصب فيما عساه يكون عليه الرأي الخاطئ الذي يحتمل الصواب؛ أو يكون عليه الرأي الصواب الذي يحتمل الخطأ؛ بمقدار ما يحتاج هذا الرأي إلى مثل تلك الكفاءة عينها، والتي لا تعرف كذلك ضروب الانغلاق فهماً للغاية وسلامة في القصد فيما هو مقبل عليه.

وهذه الحاجة الأخيرة هى من ألزم لوازم الضمير اليقظ والوعي السليم؛ لأنها مشروطة بالفعل العملي التجريبي لا يكفي فيها القول فقط حتى إذا ما أنتقل الخطاب ناحية التطبيق رأيت عراكاً وقتالاً يُندى له جبين الشاهدين ..!

وأظنها عبارة صائبة تماماً للسيد "رشيد رضا"، صاحب المنار، كان يرددها بإستمرار حين يرى نزاع المتنازعين وتمسك الأطراف المتنازعة كلٌ برأيه ممّا يؤدي التمسك بالرأي إلى عداء ليس يبقى معه حوار فماذا قال ..؟!

قال:" نتعاون على ما اتفقنا عليه؛ ونتحاور فيما اختلفنا فيه".

فالتعاون على الاتفاق من سلامة القصد والتوجُّه أيضاً. والحوارُ ضرورة واجبة حين يحلُّ الخلاف، وشرطه أن لا يفسد التعاون، ولا يُفرِّق فيما بين المتحاورين روح الودّ والاتفاق.

وعليه؛ فليس من حق أحد أن يدَّعي احتكار الخطاب الإسلامي، ليس من حق الفقهاء أن يحتكروا الإسلام؛ ولا من حق السلفيّة، ولا من حق الشيعة، ولا من حق أهل السنة؛ ولا من حق المعتزلة، ولا الأشاعرة، ولا الإخوان المسلمين، ولا من حق فرقة ولا مذهب ولا طائفة؛ ولا شيء من ذلك كله، ليس من حقه أن يحتكر الإسلام.

وليس من حق الخطاب الديني تفكيراً وتعبيراً إذن أن يحتكر الإسلام .. لماذا..؟!.. لأن أي خطاب يزعم لنفسه أنه يمتلك "الحقيقة المطلقة"؛ ويعبِّر عنها باسم الإسلام هو في الوقت نفسه يُسيء إلى الإسلام من حيث يشعر أو لا يشعر ..!

لكنها الزعامات ما أبشعها !

البحث عن الزعامة .. وعشق السلطة والتسلط .. هما أساس كل الآفات .. الزعامة الدينية طبعاً تتجلى في كل ما يلغط بالدين.

والسلطة شبيهة بالزعامة الدينية تحلُّ في مجالات أخرى من الحياة .. إرهاب الناس للناس، والحكام للشعوب، وابتزاز شعوب لشعوب كابتزاز أفراد لأفراد. أولئك يرهبون بعضهم بعضاً، ويتفنّنون في إرهاب الغير، ويخلقون ظروفاً متاحة للسيطرة والتعالي .

الإنسان، ولو أنه ضعيف، إلا أن هناك طاقة إرهابية غريبة كامنة فيه .. أهمها: إرادة العلو والفساد في الدنيا .. (قد أفلح اليوم من استعلى)!!

لا يملك التعبير الحقيقي عن الإسلام كحقيقة دينية إلهيّة إلا الله، ورسوله - صلوات ربي وسلامه عليه - ، أما المعبِّرون عن الإسلام؛ فهم في الواقع يعبّرون عن مُتوجُّهاتهم: عن أفكارهم، ومداركهم، وأفهامهم؛ عن عقائدهم السياسية والثقافية والأيديولوجية؛ لا عن الإسلام كحقيقة ضخمة وكبيرة؛ هم منحصرون في دائرة الاجتهاد تفكيراً وتعبيراً .

والمجتهد - من هذه الجهة - لا يملك الحقيقة المطلقة وإلاّ لما كان مجتهداً؛ ولا سمىَّ بالمجتهد يصيب ويخطي، ولا يحتكر ما ليس من حقه احتكاره؛ لا الرأي ولا لغة الخطاب، ولا يحجِّر على آراء الآخرين بحال ممّا وسَّعه الله على عباده.

ليس من حق من يملك "خطاباً" عن الإسلام أن يحتكر الإسلام، وما كان الإسلام في مصدريه الكبيرين: القرآن والسّنة يحتكر خطاباً قط .. وبالتالي؛ فالخطاب الديني المُعبّر عن هذين المصدرين في لغة من عنده يملكها سائر الناس، أو لا يملكوها، ليس من حقه في أداة التعبير فضلاً عن طريقة التفكير أن يحتكر الإسلام إلا بمقدار ما يصيب من الحقيقة الكبيرة قَدْرَاً يمتلك فيه هذه الحقيقة، وهو معدوم ..!

 

د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم