قضايا

العقل وقلة العقل

محمد العباسيما هو العقل.. ومن هو العاقل؟ كيف نحكم على بعض البشر بقلة العقل أو نوصمهم بالجنون؟ ما هو الميزان الذي به نقرر أن فعلٌ ما ضرب من الجنون؟ أو أن فعل آخر لدليل على قمة العقل والذكاء؟ حتى بتنا نرى أن بعض المعلمين يرون فيمن يحفظون المناهج من "الشطار" الأذكياء.. وأما من "يحاجج" ويشغّل عقله ويناقش فهو مزعج عاصي لا يفقه شيئاً!! وهنالك البعض من محاضري الجامعات ممن لا يرضون بأي نقاش أو أية آراء قد تتحدى سطور الكتب التي يعتمدونها في دروسهم.. فيقتلون النوابغ من طلبتهم بسبب غرورهم وجهلهم باصول التعليم والتحصيل وأسس النقاش ولا يتقبلون التفكير "خارج الصندوق" .

بصراحة .. لنتذكر كم عالماً في تاريخ البشرية كان يراه الناس معتوهاً فقط لأنه كان يرى الأمور في غير سياق رؤية عامة الناس من حولهم.. فهل الحكم بقلة العقل مجرد نزعة مجتمعية لكل ما يخالف إتفاقهم.. كما المثل القائل بأن "العاقل بين المجانين .. مجنون"؟!! لنتذكر كيف نفعت علوم وكتب المسلمين الأوائل في إجهاض الجهالة المفروضة على أوروبا في عصور الظلام.. حين كانت الكنائس عندهم تحرم الناس من العلم والتنوير.. وتحرق العلماء على الصلبان باسم الدين وتنعتهم بتهم السحر والشعوذة.. ثم إنقلب الأمر وتغيّر الزمان وباتت بعض الحضارات الإسلامية تخشى المتعلمين والعلماء.. باتت تمنع التعلم وتفضل الجهل والجهلاء.. باتت تحارب كل فكر وتراه كفراَ وخروجاً على الملة !

أنا أرى أن الحكم بالعقل وقلة العقل أو كيفما كانت النعوت، كثيراً ما يكون مبنياً على إختلاف الزمان والمكان والمجتمع والدين.. فمثلاً لو شاهدنا رجلاً في عز البرد والشتاء يرتدي معطفاً من الصوف لن نلتفت إليه بالمرة.. لا نوصمه بقلة العقل أو العته.. لكن لو وجدنا نفس الشخص مرتديا ذات الملابس الشتوية في عز الصيف.. لضحكنا عليه.. لوصمناه بكافة النعوت المرتبطة بقلة العقل والجنون.. فقط لأن الزمان مختلف.. الموسم مختلف.. رغم أنه نفس الشخص وبنفس الثياب!! لا نتوقف للحظة لسؤال أنفسنا عن السبب أو الهدف.. بل نحكم بحكم عاداتنا وتوقعاتنا نحن.. ففي البحرين مثلاً لا نرتدي "الشماغ" إلا في الشتاء ونضحك على من يرتديه في الصيف.. بينما عند أهلنا في السعودية والأردن قد نراهم يرتدون الشماغ في كل موسم.. فالحكم الذي نحكم به هنا لا ينطبق عليهم بالضرورة هناك .

لو كنا في دولة أفريقية.. لنقل مثلاً في نيجيريا.. ثم رأينا شخصا عاريا تماماً يتمشي أمامنا.. يكون الأمر طبيعياً ومقبولاً ولا يستهجن فعله أحد.. لكن إذا غادر شخص منزله في دولنا شبه عار ولا نقول عاريا تماماً كما في أفريقيا.. لنعتناه بكل أوصاف الجنون.. هذا إذا لم يتعرض للمطاردة والضرب والإهانة.. بل وحتى للقبض عليه بتهمة الفعل الخادش للحياء.. وقد شهدت أناس عراة في "جوبا" في جنوب السودان.. كما قد نشهد نساء عاريات الصدور في قرى جزيرة "بالي" في أندونيسيا.. وهنالك الكثير من القبائل الأفريقية والأمازونية ممن يعيشون عراة بين الأدغال.. أي أن الحكم مرتبط بإختلاف المكان والثقافة والعادات المتفق عليها مجتمعياً !

بعض الرياضات العنيفة لا يمكنني أن أصفها إلا بالجنون والوحشية الكامنة عند الإنسان المحسوب علينا "متحضراً".. الملاكمة والمصارعة والألعاب القتالية الأخرى ليست سوى مترسبات للهمجية الغابرة.. فكيف يستمتع بعض البشر بمشاهد الضرب والقتال والدماء؟ كيف لهذه الأمم التي تعتبر نفسها متحضرة ومتطورة لا تزال تمارس وتستأنس بهكذا ممارسات؟ أليس جنوناً أن نحيا في القرن الواحد والعشرين ولا نزال نرضى بما كان يمارسه الرومان قبل مئات السنوات؟.. أليست مصارعة الثيران جريمة ضد الحيوانات المسكينة؟ أليس قتل الأسود والنمور والصيد الجائر في أفريقيا لحيوانات معرضة للإنقراض جريمة وضرب من الجنون؟ ثم نجد ذات الدول التي يمارس أفرادها هذه التجاوزات تنتقدنا نحن العرب بسبب سباقات الإبل والخيول.. وتخرج علينا ممثلة الإغراء السابقة "بيرجت باردو" مدافعة عن الحمير.. ولا تتأثر للحظة عن المجازر ضد البشر.. جنون ما بعده جنون.. بل "حمورية" رعناء (مع الإعتذار للحمار)!!

و عندما نذهب للدول الغربية نرى الشواذ عندهم متعانقين في الطرقات.. نرى الشباب والشابات يتبادلون القبلات في الحافلات والمجمعات التجارية وفي أروقة الجامعات دون خجل.. بل قد نرى في الصيف النساء مستلقيات على الحشائش عاريات الصدور.. بل وعاريات تماماً على بعض الشواطئ الرملية في اليونان وإسبانيا وفرنسا.. بل ولدي الكثير من هذه الدول أندية للعراة وشواطئ للعراة وشوارع وبيوت ومباني مخصصة لممارسة الدعارة المقننة بتراخيص رسمية.. لكن أي مشهد من هذه المشاهد لن يكون مقبولاً في بلادنا بحكم الدين والعادات والتقاليد.. وسنحكم عليهم جميعاً بالدياثة ونعوت الكفر والجنون من منطلق ديننا وثقافتنا.

و الغريب أن في الغرب من منطقهم هم يحكمون علينا بكافة الأوصاف والنعوت حينما يرون المسلمات المحتشمات المتوشحات بالعباءات السوداء.. وترعبهم مناظر "المتبرقعات" في شوارع الدول الأوروبية.. في "الشانزليزيه" في باريس أو "الطرف الأغر" في لندن.. الحكم مرتبط باختلاف الدين ومفهوم الحريات الشخصية .. الحرية عندهم أن تتعرى المرأة كما تشاء وألا تتعرض للمضايقة.. بينما أن تتستر المسلمة فهذا بالنسبة لهم إنتقاص لحقوقها وحريتها الشخصية.. فنحن بالنسبة لهم إرهابيين ورعاع مجانين!! فمن فينا هو المجنون وصاحب قصور في الفكر؟

المجالات التي تتعلق بالدين قد يكون من المحظور علينا مناقشتها كثيراً.. لكن الأمور الأخرى عادة يمكن مناقشتها والبت فيها بشكل أو بآخر.. ويبقى الأمر مرهوناً سوى شئنا أم أبينا بالحكم من منطلق توقعاتنا وعاداتنا التى تفرض علينا مسارات أفكارنا وأحكامنا على الآخرين.. وقد يبقى عقلائنا مجانين عند الأخرين.. وعقلائهم مجانين عندنا.. ولن نتفق إلا فيما ندر !!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم