قضايا

الذكر.. ومسألة المصير الإنساني

مجدي ابراهيممهمُّ جداً بيان السبب الذي من أجله سطرت هذه الكلمات، ومهم كذلك تحديد الدافع الذي دفعني للكتابة في موضوع هو مع جلالته ورفعة قصده لا يعدُّ مثيراً للكتابة؛ لأنه معهود واضح وضوح الشمس في ضحاها، لكن الكتابة فيه هى أولى عندنا من الكتابة في غيره، وبخاصّة إذا كانت الكتابة عنه من جانب بعض الاتجاهات السلفية المتحجّرة تحمل بخساً يظهر فيه الظلم لأولئك الذاكرين. أول الأسباب التي تبدو لنا ظاهرة هي تقليد بعض الباحثين من شبابنا لما جاء في مصنفات المدارس السلفية المتشددة باعتبار الذكر، والذكر المُفرد منه، غير مأمور به شرعاً، وأن الكثرة منه بدعة ليس لها أساس ترتكز عليه، وأنه هدر لا معنى له مع إن لفظ الجلالة (الله) علم غير مشتق، فلا يسمى به بشر، ولا يثنى ولا يجمع، ولا يوصف به أحد غير الله جلّ وعزّ، وكل اسم أو صفة ترجع إليه، حتى جزم الكثير من العارفين إنه اسم الله الأعظم، فلا يتأتى لأحد أن يقول إنه لا يفيد معنى فهو هدر بلا معنى! فهذا زعم خاطئ وقح، فلن يكون اسم الله هدراً أبداً، ولن يكون الذاكرون له ممّن لهجوا به هم ضلال المتأخرين.

لقد كان ولا يزال ذكر الاسم المفرد (الله) له ثمرته عند أهل التزكية والتطهير، لذلك دافعوا عنه. ولكن ابن تيمية (ت ٧٢٨) وأضرابه، لم  يذوقوا منه شيئاً، وقفوا عند شكله وحرفه وعنوانه، فلذلك هاجموه وهاجموا من يذكرونه، مع تقرير إن الاسم المُفرد ظاهراً مثل (الله، الله) أو مضمراً مثل (هو، هو) ليس بمشروع في كتاب ولا سنة ولا هو بمأثور عن أحد من سلف الأمة ولا عن أعيانها المقتدى بهم، وإنما هو من ضلالات المتأخرين كما قرّر ابن تيمية في مجموع فتاواه.

وعلى فرض صحة كلام ابن تيمية، فإن استحداث ذكر غير مأثور هو من جنس المأثور، ليس فيه حُرمة ولا بدعة. إذا كان هذا يحدث في الصلاة التي هى فرض، فما بالك بخارجها؟ فقد أخرج البخاري في صحيحه عن رفاعة بن رافع الزرقي قال:" كنّا يوماً نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلمّا رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده، فقال رجل: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلمّا انصرف قال من المتكلم، فقال الرجل أنا يا رسول الله، قال صلوات الله عليه، رأيتُ بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيّهم يكتبها أوّل".

كان هذا هو السبب الأول الدافع للكتابة في موضوع الذكر وتجليات المصير الإنساني، أمّا السبب الثاني فهو تقليد الباحثين أيضاً لجملة من آراء بعض المستشرقين الذين عدّوا الذكر في الإسلام، وخاصّة لدى الصوفية، نزعة عملية لا تمت إلى الفلسفة النظرية بصلة، وإنه مجرّد دروشة ليس إلّا؛ فكان أن درس المستشرق سبنسر تريمنجهام في كتابه " الفرق الصوفيّة في الإسلام"، موضوع الذكر فقال بعد كلام طويل: يمثّل الذكر جوهر الممارسة الصوفية منذ تطورها في القرن الثاني الهجري، وتعنى كما وردت في القرآن الكريم عبادة الله. يرى المستشرق تريمنجهام أن كلمة (ذكران) التي استخدمها السّريان بالمعنى ذاته، فكأنما الذكر ليس موصولاً بالأمر الإلهي كما جاء به القرآن! هذا فضلاً عمّا ينقسم إليه الذكر في رأيه إلى ذكر صامت أو خفي وذكر جلي مع تحوّله تدريجياً من ممارسة صوفية تعبديّة تأملية إلى طقس جماعي يشترك فيه أبناء الطريقة الواحدة.

عندي أنه، ليس هنالك غضاضة في رأي المستشرقين فيما لو راحوا يخرّجون آراءهم بعيدة عن المعنى المقصود، تلبية لأفكار في أدمغتهم موجّ

هة، إمّا من طريق الخطأ أو من طريق سوء النية أو سوء التأويل، ولكن الغضاضة كل الغضاضة فيمن ينكر الأصول أو يتعمد إنكارها وهو يعلم حقائقها أو يدّعي العلم بها، ولكنه يكابر ليشوه قيمة أو يطمس معنى بهدف الظلم والإنكار والتجديف .. وفي الحديث الشريف (لا تُجدّفوا بنعم الله).

إنّا لنصادف تعسف المتعسفين دوماً ممّن حكموا بعقولهم القاصرة في التخريج كون ذكر الله المُفرد دروشة لا أساس لها من الصحة، وصحة فيها من الشرع، ولكنه من مبتدعات الحياة الشعبية التي تقترن بالفلكلور، ولا تقترن بسند شرعي يتأسس عليه. مع أن الذكر واردٌ في الكتاب الكريم ومعزز فيه تعزيراً ليس يمكن بحال القدح فيه إلا أن يكون القدحُ تجديفاً لا يعوّل عليه. وقد ذكرت عبارة (اسم الله) في القرآن أكثر من (١٩ مرة) أكثرها يُراد بها ذكر الاسم المفرد الذي اعتبره ابن تيمية وأضرابه هدراً بلا معنى. وبديهيُّ أن الذاكر الله مثلاً باسمه الرزّاق ملاحظ إن هذا الاسم أحد جزأي جملة خبرية تقديرها (الله الرزّاق) فالاسم المجرّد خبر لمبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ لخبر محذوف،  كما يجوز أن يكون مفعولاً لفعل محذوف تقديره أذكر الإله الرزّاق. وقد يكون الذاكر ملاحظاً ياء النداء، فيكون الاسم المُجرّد منادى حذفت منه يا النداء، هذا إن لم يكن قد نطق بها فعلاً. وفي الحديث كان، صلوات الله وسلامه عليه يقول:" الله، الله، الله ربي لا أشرك به شيئاً"، فهو يذكر الاسم المفرد ولم يعترض على هذه الرواية سلف ولا خلف.

وكان سيدنا بلال يقول:" أحد، أحد"، وهو يذكر الاسم المفرد ولم ينكر قوله رسول الله. وورد في الحديث الشريف إنه صلوات الله عليه قال:" لا تقوم الساعة حتى لا يُقال في الأرض، الله، الله". وفي رواية " لا تقوم الساعة على أحد يقول الله، الله". وفي القرآن الكريم (قل الله)، (ليقولن الله) مكرّرة. والله تعالى يقول:" وأذكر اسم ربك وتبتّل إليه تبتيلاً " . "وأذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً". والله يقول:" ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها" ، والدعاء ذكر، والذكر دعاء، وكلاهما يشتمل ترديد اسمه على الحضور مُفرداً ومجرّداً. والله تعالى يقول:" قل أدعو الله أو أدعو الرحمن أيّاما تدعو فله الأسماء الحسنى"، أي أذكره باسمه تعالى (الله) أو اسمه (الرحمن) أو غيرهما من أسمائه الحسنى، وكلها أسماء مُفردة مُجرّدة لا تحتاج الدعوة بها إلى تعسف غير مقبول. والله تعالى يقول:" سبح اسم ربك الأعلى" ، يعني قدّس اسم ربّك عن النقص في الزمان والمكان والإمكان والحال والمقام والأفعال (وتبتّل إليه تبتيلاً) والتبتّل يعني غاية الانقطاع، وغاية الأدب مع الله ظاهراً وباطناً، غاية التجرُّد والصفاء والإخلاص. والتبتل أمرٌ إلهي، والانقطاع إلى الله أمر إلهي، لا يحوز أن يقدح فيه قادح بكلام أخرق ممجوج.

الذكر منشور الولاية، ما في ذلك شك. والقدح فيه قدحٌ في الولاية نفسها وبعدٌ عن طريق الله. الذكر روضة علوية مباركة من رياض المعرفة والتحقيق لا يُستغنى عنه بحال، ولا يمكن أن يستغنى عنه لأنه وسيلة الاتصال بالحق، فلن يأتي المرء بشئ في طريق الحق أفضل ولا أقوى من ذكر الله في جميع الأحوال.  الذكر وسيلة عملية مباشرة لتحقيق الولاية، هو القنطرة التي يعبر منها العبد إلى هذا الميدان الروحي الفريد. غير إنه مع تلك الأهمية البالغة قد لاقى صنوفاً من أوجه الاعتراض، جعلت الذكر وبخاصة (الذكر المُفرد) منه، عرضة لأسخف الاتهامات الباطلة كونه معاملة مع المحبوب.

فلئن كنّا ذكرنا جانباً من سخافة المعترضين، فلنذكر تباعاً جانباً من طمأنينة الذاكرين ممّن والاهم الله بذكره وعزّهم على الدوام بولايته، فكانوا بحق مصابيح الدّجى تنير سُدف الظلام للمحجوبين.

فممّا رواه أبو نعيم في (حلية الأولياء) عن الوليّ الخفيّ نقلاً عن مالك بن دينار؛ وهو من ثمار الذكر ونشدان المعيّة مع الله، إنه قال: (دخلتُ البصرة يوماً فوجدت الناس قد اجتمعوا في المسجد الكبير يدعون الله من صلاة الظهر إلى صلاة العشاء لم يغادروا المسجد فقلت لهم ما بالكم؟ فقالوا: أمسكت السماء ماءها وجفّت الأنهار، ونحن ندعو الله أن يسقينا فدخلت معهم، يصلوا الظهر ويدعون، والعصر ويدعون، والمغرب ويدعون، والعشاء ويدعون، ولا تمطر السماء قطرة،

وخرجوا ولم يستجاب لهم، يقول: ثم ذهب كل منهم على داره وقعدت في المسجد، ولا دار لي، فدخل رجل (أسود) (أفطس) أي صغير الأنف. (أبجر) أي كبير البطن. (عليه خرقتان) ستر عورته بواحدة وجعل الأخرى على عاتقه.

فصلى ركعتين ولم يطل، ثم ألتفت يميناً ويساراً ليرى أحداً فلم  يرانى فرفع يديه إلى القبلة وقال:

إلهي وسيدى ومولاي، حبست القطر عن بلادك لتؤدّب عبادك، فأسألك يا حليماً ذا أناه، يا من لا يعرف خلقه منه إلاّ الجود أن تسقيهم الساعة، الساعة، الساعة.

يقول مالك: فما أن وضع يديه إلّا وقد أظلمت السماء، وجاءت السحب من كل مكان فأمطرت كأفواه القرب. فعجبت من الرجل، فخرج من المسجد فتبعته فظل يسير بين الأزقة والدروب حتى دخل داراً فما وجدت شيئاً أعلّم به الدار إلا من طين الأرض، فأخذت منها وجعلت على الباب علامة؛ فلمّا طلعت الشمس تتبعتُ الطرُق حتى وصلت إلى العلامة، فإذا هو بيت نخاس يبيع العبيد. فقلت: يا هذا إني أريد أن أشترى من عندك عبداً، فأراني الطويل والقصير والوجيه؛ فقلت لا لا أما عندك غير هؤلاء؟

فقال النخاس ما عندي غير هؤلاء للبيع.

يقول مالك: وأنا خارج من البيت وقد آيست، رأيت كوخاً من خشب جوار الباب فقلت هل في هذا الكوخ من أحد؟

فقال النخاس من فيه لا يصلح، أنت تريد أن تشترى عبداً، ومن في هذا الكوخ لا يصلح.

فقلت أراه ..!

فأخرجه لي فلما رأيته عرفته. فإذا هو الرجل الذى كان  يُصلى بالمسجد البارحة.

قلت للنخاس أشتريه، فأجابني لعلك تقول غشني الرجل هذا لا ينفع في شئ، هذا لا يصلح في شيء؛ فقلت أشتريه فزهد في ثمنه وأعطاني إيّاه. فلمّا استقرّ بي المقام في بيتي رفع العبد رأسه إليّ وقال يا سيدى لم اشتريتني؟

إن كنت تريد  القوة  فهناك من هو أقوى منى. وإن كنت تريد الوجاهة فهناك من هو أبهى منى. وإن كنت تريد الصنعة فهناك من هو أحرف مني فلم اشتريتني؟

قلت: يا هذا بالأمس كان الناس في المسجد، وظلت البصرة كلها تدعو الله من الظهر إلى ما بعد العشاء، ولم يستجب لهم.

وما أن دخلت أنت ورفعت يديك إلى السماء ودعوت الله واشترطت على الله حتى استجاب الله لك وحقق لك ما تريد.

فقال العبد لعلّه غيرى وما يدريك أنت، لعله رجل آخر.

فقلت، بل هو أنت. فقال العبد أعرفتنى؟ فقلت نعم.

فقال اتيقنتني؟  فقلت نعم. فيقول مالك: فوالله ما التفت إليّ بعدها. انما خرّ إلى لله ساجداً فأطال السجود فانحنيت عليه، فسمعته يقول: (يا صاحب السّر إنّ السّر قد ظهرا ... فلا أطيق عيشاً على الدنيا بعدما اشتهرا) ففاضت الروح الى بارئها (أ.ه).

هذه الولاية الخفية لا يقررها شئ في قانون الطريق إلى الله قدر ما يقررها الذكر، ولا يحجبها عن البصائر حاجب قدر ما يحجبها العسف التجديف. هنالك يكون الذكر مجلى التجليات المصير الإنساني، واقع يطلبه المقربون ولا يطلبه سواهم ممن عانقوا الأغيار وفارقوا الأخيار.  حقاً .. إنّ الأمل في الناس شؤم وصدود، والأمل في الله عزّ وصمود. يا من تعلقون آمالكم على أشخاص أمثالكم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، راجعوا سرائركم مع الله بل راجعوا عقائدكم، فإنه قد أصابها التلف من جرّاء معانقة الأغيار. اللهم أجعلنا من عبادك الأتقياء الأنقياء الأخفياء.

ليس من شك عندنا في أن (السكن في الدنيا يحتاج إلى فكر، والسكن في الجنة يحتاج إلى ذكر، وقد شغلنا الفكر عن الذكر. حتي إذا مضت علينا لحظات لم نذكر الله فيها، فلنبادر إلى إيقاظ هممنا واحياء قلوبنا ولو بتسبيحة أو استغفار؛ فالغفلة داء، وذكر الله هو الدواء، فكلما طهر القلب رق، فإذا رق راق، وإذا راق ذاق، واذا ذاق فاق، واذا فاق اشتاق، واذا اشتاق اجتهد، واذا اجتهد هبّت عليه نسائم الجنة).

وينبغي أن يُعلم هنا أن ذكر الله جلّ وعلا ليس هو مجردَ التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير وكفى. نعم هذا من المؤكد هو  أجلّ الذكر وأفضله، لكن ذكر الله عز وجل ليس منحصراً في هذا وكفى، بل يتناول أنواعاً مهمّة جاء تبيانها وإيضاحها في كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وكلها داخلة في الذكر لله، وهى في الجملة ترجع إلى أربعة أنواع:

أمّا النوع الأول في ذكر الله فهو إنشاء الثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ثناء وتمجيداً وتقديساً وتنزيهاً على الدوام بغير انقطاع، ومن ذلك الكلمات الأربع التي وصفهن عليه الصلاة والسلام بأنهن أحبّ الكلام إلى الله، وقال في حديث آخر: لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحبّ إلي ممّا طلعت عليه الشمس، وكل ذكر مأثور وثناء وارد في القرآن والسّنة على الله، فهو داخل في هذا النوع.

النوع الثاني: الإخبار عن الله تبارك وتعالى بأحكام أسمائه وصفاته، فهذا ذكر لله تعالى وأي ذكر، ذكر لله تعالى عظيم: أن تذكره سبحانه بذكر أحكام أسمائه وصفاته، فالإخبار عن الله بأنه يسمع ويرى، يسمع أصوات العباد، ويرى أعمالهم، ويعلم أحوالهم، وأنه يقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات، وأنه أرحم بالناس من آبائهم وأمهاتهم، وأنه يغفر السيئات، ويقيل العثرات، ويجبر الكسير، ويغيث الملهوف إلى غير ذلك من الإخبار عنه جلّ وعلا، فكل ذلك ذكر له سبحانه. وبهذا نعلم أن كتب العقائد المؤلفة على نهج أهل السّنة كلها كتب ذكر إذا صحّت النية وتمت وحدة القصد، فهي ذكر لله بمعرفته، ومعرفة عظمته ومعرفة جلاله وكماله ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فكل ذلك داخل في ذكر لله تبارك وتعالى .

النوع الثالث: ذكر الله سبحانه بذكر أمره ونهيه والإخبار عنه جلّ وعلا، بأنه أمر بكذا ونهى عن كذا وأحلّ كذا وحرّم كذا ورضي هذا وسخط ذاك، فكل ذلك ذكر لله جلّ وعلا. قال عطاء الخراساني: مجالس الحلال والحرام مجالس ذكر لله، كيف تصلي، كيف تصوم، كيف تحج، كيف تبيع وتشتري، كيف تنكح وتطلق، وأشباه ذلك كل ذلك ذكر لله بذكر أمره جلّ وعلا ونهيه، وبهذا نعلم أن الكتب المؤلفة في بيان الأحكام وفقه الشريعة وبيان الأعمال وفروع الأعمال كل هذه الكتب ذكر لله جلّ وعلا فمذاكرتها ومدارستها وتعلم الأحكام الواردة فيها كل ذلك من إقامة ذكر الله جلّ وعلا.

فالعلم في حد ذاته إن هو إلا ذكر لله سبحانه.

النوع الرابع: ذكر الله سبحانه عند أمره ونهيه، وهو الأهم، وهو الأقدر لمواجهة القواطع والأغيار؛ فذكره جلّ وعلا عند أمره لتفعل المأمور، وذكره عند نهيه لتترك المنهي وتجتنبه، وهذا النوع من الذكر يبيّن خللاً يقع فيه كثير من الناس ألا وهو أنهم يذكرون الله بذكر أمره ونهيه فيعلمون أنه أمر بكذا فلا يفعلونه، وأنه نهى عن كذا، فيقترفونه، وذلك لقلة وضعف ذكرهم لله عند أمره ونهيه سبحانه، فإذا قام بقلب المسلم ذكر لله تعالى عند الأوامر والنواهي، يعظم إقباله على الله طاعة وتذللاً وخشوعاً وخضوعاً وانقياداً وامتثالاً. وحظ العبد من ذلك بحسب حظِّه من الذكر لله جلّ وعز؛ فهذه أنواع أربعة لذكر الله مبيّنة في كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وكلها من إقامة ذكر الله، فمن ذكر الله بها فقد أتى بأفضل الذكر وأعظمه وأجلّه.

قد يُقال: ما الجديد في هذا كله، وهو معروف مُتاح للجميع؟

بالطبع هو سؤال وجيه، لأن ذكر الله في الحقيقة واستشعار البقاء في المعيّة الإلهية يعني مواجهة المصير الإنساني في نفس وقلب وعقل الإنسان الذاكر، فلا يؤخذ في الاعتبار أن الحديث عن الذكر مجرّد عرض طارئ بل هو مصير للمواجهة قادم، يكتشف فيه المرء حقيقته الأصيلة بعد عناء الكدح، فالوجود الإنساني برمته كادح إلى الله فمُلاقيه، ولن يتمّ كدحه، وهو خالي الوفاض من وسائل التقريب في مواجهة المصير.

الذكر إعانة على مواجهة المصير الإنساني بثقة في الله سبحانه، وهو من أعظم الوسائل النافعة على قطع الطريق إلى الله، وعلى إنارة المضيء فيه بتوفيق الله وعونه وكلاءته. فإذا كانت مصائرنا معلقة على أنفسنا، فليس من طاقة لنا على الإطلاق بمعرفة تلك المصائر إلّا أن يكون الوهم هو المعرفة، ويكون الظن وسيلة إليها بلا يقين في المعرفة مأجور مشكور.

إمّا إذا كانت مصائرنا مُعلقة على الله، فمواجهتها بالذكر تكشف عن ثقتنا بالخالق جلّ وعز، وتربي النفس الإنسانية في حضرة المعيّة الإلهية، فمن عرف نفسه عرف ربّه كما جاء في الخبر المشهور، ولن يعرفها بدايةً وهو معطلٌ عن الذكر، جاهلٌ بتطبيقاته العملية؛ إذ ذاك تعطي المواجهة لنا الوسيلة التقريبية التي تدفعنا إليه من طريق الكدح في لقياه.

لست تعرف قضاء الله وقدره ما لم تكن قد جرّبت حلاوة المعاملة معه، واختبرت صدق المعرفة به، فمن المستحيل أن يذهب لغيرك شئ قد كتبه الله لك، فليطمئن قلبك إلى قضاء الله فلا تحسد ولا تحقد، ولتعش بقلب أبيض نقي ونية صافية خالصة، ولتكن مع الله ليكن الله معك.

اللهم إنّا نسألك التقريب من عمل الصالحين، لنكون في معيّتك على الدوام بغير انقطاع، يا أرحم الراحمين أرحمنا، وعافنا، وأعفو عنّا، واهدنا، وأرزقنا، وأرفعنا، وأجبرنا، وأكرم نزولنا وأنصرنا على من عادانا، وأجعل كيد الكائدين في نحورهم، ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا، ولا مبلغ علمنا، وأقدرنا على تحمُّل الأذى من سفهاء الآدميين.

اللهم كن لنا ولا تكن علينا، وانزع الشر من نفوسنا، ووالينا لنواليك، وتوب علينا لنتوب ممّا يقطع الطريق عنك.

اللّهم أرفع عنا بلاء الحقد والأنانية ومحبّة الذات، واحجب النقص عن أعمالنا وخواطرنا وأفكارنا وكل ما يحيط بنا من عمل أو قول. اللهم زكينا بك، وقوّمنا بالفكرة فيك، واشغلنا بك عمّن سواك، وهذّب نفوسنا بمقتضاك، وأجعل أعمالنا رهينة بوحدة قصدك.

ربي أنعمت، فزد ..

ربي أنعمت، فزد ..

ربي أنعمت، فزد.

وصلوات الله وسلامه وبركاته على خير خلقك سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم