قضايا

نقد مقولات الشك والحقيقة

مقولة يرددها الكثيرين الشك يؤدي الى اليقين ولا توجد يقينيات واكيدات ، تُصاغ تلك المقولات في حماس واندفاع ويتم ترديدها بصورة ببغاوية حتى اني كنت من ضمن المرددين لها وكنت اقتنعت بها وباعتقادي انها انما تنبع وتعبر عن حالة وجدانية تتمثل في تغير المواقف والالتزامات الفكرية نتيجة لتطور فكر الانسان ونمو وعيه او حتى ارتكاسه وتراجعه ما يجعل الانسان يعتقد ان الحقيقة في تغير دائم وان الشك مفتاحها.

و الحقيقة ان مقولة ان الشك الدائم في البحث عن الحقيقة يمكن ان نعبر عنه بصورة اخرى بموضوعة التساؤل الذي لا يكف

فالتساؤل يجعل الحقيقة في ثراء واغتناء ويمنحها  افاقاً جديدة.

التحولات والمراجعات الفكرية تمثل وجهاً من وجوه البحث عن الحقيقة وتراجعاً عن افكار كانت بمثابة الثوابت.

ان الاخذ بمقولة الشك الدائم وعدم ثبوت الحقيقة وان الحقيقة في صيرورة دائمة هو بمثابة الوقوف على ارض رملية تغوص بالانسان كلما تحرك وحاول التملص منها .

ان ذلك يعني انك حين تعتقد انك تمسك بالحقيقة فأنك في ذات الوقت لا تمسك بها وهذا يعني انك ستقضي عمرك في البحث عنها ولكنك طبقاً لهذا الفهم لن تجدها لانها سيالة كما يصفها البعض.

ترى ما هو المنبع لهذه الافكار عن الحقيقة والشك

بأعتقادي ان رحلة كل انسان بما هو فرد في البحث عن الحقيقة تواجه الكثير من العقبات والتحولات والتغيرات ووضوح وغبش وانسداد وانفراج وتقلبات شتى وهكذا وهذا ما يجعل الانسان يخضع لنتيجة ان الحقيقة لا يمكن ان تُنال وان الحقيقة تكمن في الشك لأن التقلبات والتحولات تلقي بظلالها على نفسية الباحث وتؤثر في وجدانه وتجعله يعتقد ان الحقيقة لا تُنال ما دام لم يستطع نيلها وما دام يعيش كل يوم كشفاً جديدا يغير قناعاته ويدكدك مبادئه.

الحقيقة الوحيدة التي تصمد خلال هذه العملية هي ان الشك هو ركن الحقيقة الركين واسها العميق فلا يمكن لمدارك انسان ان تمس الحقيقة ما دامت سيالة متغيرة.

فمثلاً حين تملي ورقة ما وتعود اليها بعد يوم مثلاً ستغير فيها ولو عدت اليها بعد اسبوع ستغير فيها وهكذا ستكون هذه المسودة مستمرة التغير والتبدل ما دام الانسان حياً ، ان ذلك يكشف ان الحقيقة ليست سيالة ومتغيرة بل ان ذلك في عمقه عائدٌ الى آلية التفكير التي تعتمل في عقل الانسان وآلية الادراك المعقدة وهي بأعتقادي تمر بمراحل عديدة هي

  • • الُمدرك
  • • آلية الادراك
  • • عملية الادراك
  • • نتيجة الادراك

ان اي خلل في واحدة من هذه المراحل يمكن ان يؤدي الى خلل في النتيجة وبالتالي في الحقيقة التي نتوصل لها

لا يمكن اغفال العوامل الكثيرة جداً التي تؤثر في مجمل عملية الادراك وتجعل من الوصول الى يقينيات وجزميات امراً متعذرا او شبه متعذر

فألعوامل النفسية وفقدان وضعف الحواس ونقص وضعف المعطيات وغيرها كلها تؤثر في هذه العملية وتعطي نتائج مشوهة وبعيدة ربما عن الحقيقة.

ان اسوأ اشكال المعرفة التي قد نصل اليها هي تلك التي لا تعترف بالحقيقة وتجعل منها خيالاً محضاً لا وجود له .

الحقيقة هي انك لا تستطيع ان تحاكم اي انسان الا في ضوء نظرية المعرفة التي يؤمن بها ويتوثق بها في ادراكه .

باعتقادي ان عملية البحث عن الحقيقة لا تعني الشك الدائم في قبال اليقينيات والجزميات بل انها عملية ال(تساؤل) الدائمة التي تغذيها الروح الساعية نحو الكشف والاستكناه الموجودة في عمق النفس الانسانية هناك حب استطلاع وحب كشف فالانسان تائقٌ للتعرف ولا يهدأ له بال حتى يعرف ، ان هذا التأول باعتقادي افضل من مقولة الشك الدائم وأدق منها.

كما ان الحقيقة ليست ذات وجوه كما يعتقد البعض بل ان الحقيقة يمكن وصفها بأنها على شكل طبقات البعض يزيح طبقة واحدة والاخر يزيح اثنتين وهكذا كلما ازحنا طبقة تبدت الحقيقة اكثر دقة وانصع بياضاً واكثر وضوحاً من الطبقة السابقة ولذلك نجد هذا التعبير في فهم القراءن اذ يرد في النصوص ان للقراءن سبعة بطون وينبغي الالتفات هنا الى ان اي بطن او طبقة كما عبرت ستحجب عنك البطن او الطبقة اللاحقة لها لهذا تبدو الحقيقة متغيرة ولهذا تبرز الاختلافات في الرؤية فمقولة ان الحقيقة ذات وجوه متعددة لجوهر واحد ليس صحيحاً تماماً في ضوء هذا الفهم.

اتذكر موقف جميل استوقفني كثيراً اذ كان من عادتي ان اصعد الى سطح المنزل لاتأمل الغروب واصور مناظر السماء الجميلة في بعض الاحيان ولقربنا من المطار كان منظر الطائرات يجذبني في بعض الاحيان وذات مرة صورت منظراً تظهر في الطائرة صغيرة جداً بحيث انها لا تظهر للمشاهد العادي وادركت حينها انك يمكن ان تصف الصورة كما تراها ولكنك ستغفل امر الطائرة لأنك لا تراها لصغرها ، اقتربت بعد ذلك عدة خطوات بأتجاه مشهد الغروب الذي صورته ولاحظت وجود حشرات صغيرة جدا تطير بصورة دائرية حول شيء ما وكانت تلك الحشرات يفترض ان تكون في افق الصورة اي انها ينبغي ان تظهر في الصورة التي التقطتها الا انها لصغرها لم تستطع كاميرا الهاتف التقاطها

ما يعنيني من ذلك كله ان هناك ما هو ادق من الطائرة لم تظهره الصورة مع انه موجود فالحقيقة فحين يصف شخص ما صورتي بأنها تظهر غروب الشمس مع شيء من الغيوم فأنه يكون محقاً

في حين ان من يضيف وجود جسم صغير او طائرة في الافق سيكون محقاً ايضاً ولكنه ادق من سابقه

اما من يرى تلك الحشرات في الصورة على صغرها البالغ سيكون اكثر دقة من الاثنين السابقين من دون ان يكون السابقين مخطئين.

 

اياد الجيزاني

٩-١١-٢٠١٨

 

في المثقف اليوم