قضايا

المجرم الصغير

محمد العباسيهل الإجرام جزء متأصل عند الإنسان.. أم هو سلوك مكتسب.. كما هو التعلم والثقافة.. بل حتى اكتساب القدرات اللغوية؟.. أم هل للعقلية الغير سوية جينات متوارثة؟؟ وهل هي حقيقة علمية أن المجتمعات الفقيرة تنتج المجرمين إما بسبب الحاجة أو نتيجة الافتقار للتغذية السليمة أو غياب التربية المتوازنة.. أو ربما للتفكك الأسري أو انشغال أولياء الأمور بكسب الرزق والغياب الدائم عن متابعة شئون الأبناء؟  كيف يميل أي طفل إلى العنف ويتطور إلى عدوانية عندما يكبر؟!

يعتقد العالم الغربي المبالغ في مسألة حماية الطفولة أن الكثير من السلوكيات الإيجابية منها والسلبية هي بالضرورة مكتسبة.. كالقول أن صفعة بسيطة للطفل قد تترسب في ذاكرته اليافعة وتنضج بشكل سوداوي فيما يلي من العمر.. ولربما كان لبعض أنواع القسوة نتائج سلبية حتمية لأنها في غير مواضعها.. لكن الدراسات على مر الأجيال السابقة لم تتوصل بشكل علمي واضح بأن الإجرام بالضرورة مرتبط بالعنف التربوي أو الأُسري في الصغر.. ربما لأن العلماء لم يتفقوا بعد على تقييم العنف.. بل ربما لأن بعض الانحراف في الكبر قد يكون نتيجة للدلال المفرط في التربية وتغاضي الأُسرة عن أخطاء أبنائهم والدفاع عنهم بغض النظر عن تصرفاتهم بدافع الحب مثلاً.

لكن بشكل عام، هنالك نظريات عدة بين المهتمين بما باتوا يسمونه "وباء العنف".. وهو أن التربية والرعاية السليمة مع جو عاطفي متوازن فيه الكثير من الحميمية سيؤدي بالضرورة إلى تنشئة سعيدة.. وفي المقابل إذا كانت التنشئة قاصرة وتتميز بالحرمان من الأمومة (بالذات) أو تمتاز بعلاقات متوترة، ستؤدي في كثير من الأحيان إلى بعض صور الانجراف نحو الانحراف.. لكن هل الأمر بهذه البساطة؟

بعض الدراسات تركز على وتربط الأمر بالمستوى التعليمي لدى الأبوين.. وبالذات للأم.. ومدى تأثير انعدام الخبرات الحياتية على مسار التنشئة السليمة . بالتالي يمكن اعتبار العنف نتيجة للأمية أو الجهل أو حتى اللامبالاة.. والجهل بالضرورة سيحرم الأبناء من المتابعة والتوجيه وتشجيع الأبناء على التعلم.. وسوء التعليم أو الحرمان منه قد يؤدي إلى الحرمان من التمتع لاحقاً بوظائف ذات مردود جيد وحياة رغدة.. أي تؤدي إلى الفقر والقهر والحاجة والإحساس بالحرمان وربما الدونية.. ومن ثم الحسد والحقد تجاه الآخرين الأفضل حالاً.. وبالتالي ربما تدفعهم للانخراط في ممارسات غير سوية للتعويض عن الشعور بالنقص وسوء الحال وقلة الحيلة.. (فكم صدق شاعر النيل "حافظ إبراهيم" حين قال: الأم مدرسة إذا أعددتها .. أعددت شعباً طيب الأعراق) !!

تخيلوا معي في هذا الشأن كيف سيكون عليه حال أجيال من الصغار ممن حرمتهم الحروب من الدراسة.. وحرمتهم المجازر ومشاهد العنف من براءة الطفولة.. وحرمت الآلاف منهم من الجو العائلي المتوازن وفقدان أحد الوالدين أو كلاهما.. ولكم أن تتنبؤوا بأحوال الأجيال القادمة في عالمنا العربي.. في سوريا والعراق واليمن وليبيا!!

ثم كيف يكون الميل إلى العنف والإجرام ناجم عن التقصير في التربية والتعليم فقط؟.. لأننا نرى نسبة الإجرام عالية في مجتمعات المفروض أنها مستقرة ومتمدنة وتولي الطفولة حقوق ورعاية وحماية لامتناهية.. فالاغتصابات العنيفة مثلاً هي ديدن مجتمعات تتمتع بحريات جنسية أكثر من سواها.. وعمليات السطو المسلح وإطلاق الرصاص في المدارس نراها تكثر في مجتمعات المفروض أنها تمثل الرقي في ثقافتها المجتمعية.. وهي مجتمعات تتشدق بحرياتها وقوانينها ومتابعتها لشئون الناشئة.. حيث تتدخل الدولة كلما شعرت بأن الصغار يتعرضون لأي نوع من الاضطهاد أو سوء المعاملة أو أي نوع من التقصير من جانب العائلة !!

صحيح أيضاً أن بعض الدراسات تحاول كشف أغوار العقلية الإجرامية ومحاولة فك أسرارها للكشف عن النزعة الإجرامية قبل فوات الأوان.. لكنها ذات المجتمعات التي تهدي الولد الصغير ألعاباً كالمسدسات وتسوق للأطفال الألعاب الإلكترونية التي تعتمد في مجملها على العنف.. بل نرى أن أغلب الأفلام الكرتونية هي عبارة عن مطاردات وضرب ومحاولات للقتل.. بل أغلب أفلام الإثارة الغربية تعتمد على الشر واللصوصية وصور الفساد حتى بين رجال الأمن والسياسيين.. ونرى المجرمين أصحاب مال وجاه ويستمتعون بملذات الحياة.. كأننا نزرع في عقول الأطفال رغماً عنهم مبدأ العنف ومخالفة القانون.. كأننا نعزز النزعة الإجرامية وأن الأمور إنما تجري كذلك.. نعلّمهم أن الغلبة في الحياة دائماً للأقوى والأعنف.. وليس للمصلح والشريف والأمين والمثقف!!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم