قضايا

فلسفة الحياد في المجتمعات العربية

مهدي الصافيتاريخ الامم والمجتمعات والشعوب، وحكمة الله عزوجل في ارسال وبعث الانبياء والرسل لهم، تؤكد بأن الخالق سبحانه وتعالى لا يترك للبشر حرية الاختيار بالوقوف على الحياد في المنطقة الوسطى، اما مع محور الخير او الشر، قال تعالى في سورة المائدة (اية٢٤)

{قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، اما فلسفة تحديد ايهما يمثل حقيقة الخير المطلق، اوان بعض المواقف تعد جزء من العمل الاخلاقي والانساني الصالح، وكذلك اعتبار الامور والقضايا الملتبسة ومجالات الشك بينها وبين محور الشر واضحة، وبين مايمثل شر مطلقا يشكل تهديدا صريحا لحياة الناس والكون عموما، ترجع الى البيئة والاديان والطوائف والموروثات وثقافة المجتمع، ولكن قطعا لن يكون هناك أية فلسفة اوحجج عقلية او منطقية مقبولة يمكن ان ترجح كفة الحياد السلبي، على اعتبار ان الحياد الايجابي احيانا، وكما هو معمول به في الانظمة الديمقراطية والجمعيات والمنظمات الدولية يمثل الامتناع والمقاطعة عن اعطاء الاصوات، لمنع تنفيذ امر او اصدار قرار ما، وهي بالتالي اقرب للموقف الرافض منه عن الحياد، علما ان غالبية الشعوب الغير متحضرة (وقسم منها المتحضرة لكنها شعوب كسولة وقادمة من خلفيات وبيئات وانظمة سياسية شمولية سابقة، كدول المعسكر الاشتراكي او الدول النامية والناشئة) هو الوقوف بمنطقة الحياد خوفا من البطش او ظاهرة قطع الارزاق، وصعوبة تحمل المسؤولية او تبعات الميل الى احد المحورين (محور الخير اوالشر)، ولكن يبقى السؤال المهم في هذا البحث المختصر:

 هو هل تستطيع الامم الشعوب التي تزداد فيها نسبة الواقفين في منطقة الحياد ان تنجز شيئا مهما لها ولبلدها وللانسانية جمعاء، لا نعتقد ذلك ابدا لانها تتعارض تماما مع حكمة الخلق والتكوين وضرورات الحياة وتطورها الحضاري المستمر، بل ان الله عزوجل وكما ورد في القران الكريم يحاسب القاعد والمتقاعس والمتخاذل والمنافق والكاذب والفاسد الخ.

امر الحياد امر مهم جدا اذ تارة يعد في مجتمعاتنا ثقافة وجزء من الحالة السلمية (تجنب المشاكل والابتعاد عنها، وهي ليست كذلك مطلقا)، وتارة اخرى تعبر عن حالة من الترفع والاستنكار والرفض، كلا الحالتين لاتمثلان حلا يمكن الاعتماد عليه في الخلاص من الازمات والتوترات، وحالات الفشل السياسي او الاجتماعي، وازمات التراجع الثقافي وحتى الاخلاقي والديني، وقد كانت على سبيل المثال انتفاضة١٥شعبان عام١٩٩١بعد تحرير الكويت في العراق، ظاهرة الحياد العربي السني الواسع، وكذلك نسبة محدود من المكون الشيعي عن المشاركة الواسعة لاسقاط نظام دموي دكتاتوري فاشل، تسبب بالعديد من الكوارث الانسانية والاقتصادية والاجتماعية فضلا عن الامنية والعسكرية، بقي الشعب بعدها يسدد تبعات ذلك الحياد السلبي، المزيد من الانفس والاموال جراء تلك المواقف السلبية السيئة، التي لم ينجوا منها الا القليل، وهكذا هي دورة الحياة لاخيار اخر فيها غير المشاركة الفاعلة في بناء اسس الحياة الامنة المستقرة...

جاءت ثورات الربيع العربي بعد اسقاط نظام صدام عام٢٠٠٣، تحررت اغلب الشعوب العربية من قيود الانظمة الشمولية الفاسدة، لكنها لم تتحرر من ثقافة النأي بالنفس عن الانخراط الفعلي المباشر في بناء عملية سياسية ديمقراطية جديدة، بقيت ثقافة الحياد فاعلة في المجتمعات العربية، على ان الشعب العراقي كان من اسوء الشعوب في مجال التخلي عن تبني وتحمل مسؤولية بناء نظام ديمقراطي حقيقي، تعرض هذا البلد الى عمليات اجرامية وارهابية وسياسية فاسدة، وتحولت الديمقراطية فيه الى دويلات طائفية واثنية وفئوية ومليشياوية وقبلية عشائرية، الكل تخلى عن مسؤوليته التاريخية في اعادة توحيد المجتم، ع الذي فككته ودمرته ومزقته الحروب والازمات السياسية والاقتصادية المتكررة، كانت صورة وتأثير الحياد السلبي كبيرة جدا عبر تراجع غالبية الشعب وقوته الروحية الممثلة بالمرجعية الدينية الرئيسية عن المشاركة في عملية اصلاح الدستور والنظام السياسي برمته، لم تستغل العديد من الفرص المتاحة للاصلاح، اهمها ماحصل بعد اندلاع احداث البصرة الاخيرة (الانتفاضة الشعبية العفوية في اعقاب ازمة ملوحة مياه شط العرب)، التي اعقبت الانتخابات البرلمانية الفاشلة ٢٠١٨، اذ سمح هذا الحياد بعودة اسلوب ونهج المحاصصة والتوافق السياسي حول توزيع المناصب الحكومية من مقاعد الرئاسات الثلاث والوزارات والسفارات والوكلاء والندراء العامين والهيئات المستقلة (شكليا) الاخرى، ومن المعيب ان لايبقى من هذا الشعب من يعارض هذا النهج التخريبي المبرمج الا نسبة قليلة منه (اغلبهم من معارضي نظام البعث البائد ممن لم يشارك في العملية السياسية بعد٢٠٠٣او استبعد قسرا من عملية اعادة بناء الدولة والعملية السياسية)، اما غالبية الشعب لازالت تنظر الى مايقوله المرجع الاعلى او زعيم القبيلة او العشيرة، مع انهم دخلوا في حقب وازمنة وفترات سياسية مظلمة قل نظيرها في عالمنا المعاصر، جرفت فيه الاراضي الزراعية، وقطعت مصادرالمياه، وسرقت بعض الاراضي الحدودية مع دول الجوار (سواء كانت عبر دفع الرشاوى او الفساد وقلة الخبرة والكفاءة في تلك المسائل المعقدة)، وكان اخر تلك الهجمات الارهابية الخارجية والداخلية(العملاء والخونة والفاسدين) تعمد الاضرار بالثروة السمكية المهمة للبيت والفقير العراقي، فمرض الفساد السياسي لايترك شيئا سليما يمر به، بل يكون كالطوفان الذي يبتلع كل شيء امامه، لايمكن ايقافه الا بتحمل غالبية الشعب المسؤولية التاريخية الكاملة في مواجهته، وبمساعدة النخب الوطنية والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية في قيادتهم نحو صد هذه الموجات الكارثية المتصاعدة، لكي يبقى الامل عندهم بالله عزوجل قويا ثابتا متماسكا في محاربة قوى الشر والتخريب والفساد والارهاب، ليبقى كل انسان حر شريف ثائرا مادام هناك نظام سياسي فاسد يتحكم به وبشعبه وثروات وطنه، لايهدأ له بال، ولاتبرد ثورة غضبه، الا بتحقيق دولة الحريات والحقوق والعدالة الاجتماعية والنزاهة والازدهار، بأيجاد نظام سياسي كفوء لايضخ للناس ثقافة اليأس والاحباط والكسل، بل يعطيهم الثقة بأنفسهم من اجل بناء مجتمع الرفاهية الانساني....

الحياد افة خطيرة يفقد فيها الانسان المسلم او الصالح زمام المبادرة في الاصلاح والتغيير، ويخسر معها الحياة والاخرة، فمن تكون حياته سلبية في الدنيا، لايضمن ان يكسب شيئا في الاخرة، حتى لو كان مسلما ملتزما بالطقوس والشعائر والعبادات الدينية، وقد وردت في القران الكريم العديد من الايات التي تذم المسلم او العبد القاعد(المحايد او المتخاذل او الجبان)..

{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ

أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴿١٦٨ آل عمران﴾}

{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ

 وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً

- ﴿٩٥ النساء﴾}

{َفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى

- الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿٩٥ النساء)}

{لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ

- مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴿٢٢ الإسراء﴾}

{إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّة

- فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴿٨٣ التوبة﴾

ان الوقوف في المنطقة الوسطى بين الحق والباطل او بين الخير والشر قد تعني انك تقف مع الاقوى والاكثر بأسا، ولهذا عندما يكون الشر والفساد والانحراف طاغيا في المجتمع يصبح الحياد اقرب للكفر بالاخلاق وبالانسانية وبالحباة عموما قبل ان تكون كذلك في الدين والايمان والمعتقدات بالله عزوجل وكتبه وانبياءه ورسله...

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم