قضايا

الحُسين ثائراً.. الحُسين ملكاً

علي المرهجرغبت بعد طول فراق بلقاء الحُسين الثائر، فطلبت من بعض أصدقائي الكربلائيين بعد أن دعوني للمشاركة في جلسة حوارية حول علاقة الفلسفة بالواقع في المُلتقى الفلسفي بكربلاء، وبعد استكمال الحوار تمكنت من زيارة الإمام الحُسين لا تبركاً وهو من يستحق أن يُتبرك به، ولكن لفضول عندي لمخاطبته بعد مرور الزمن ووجود من يدَعون وصلاً به على دكة الحُكم!، فأقول له هل ترتضي أن تُحيط بك الأسوار وكـأنك ملك، فصوّرك الباغون وصيروك وكأنك سُلطان جائر لا ثائر من أجل إنصاف المُستضعفين والفقراء؟!، وسأسألك عن "سدنة" و "وعاظ" يتخذنوك وسيلةً لتجهيل "عيال الله"!، وسأسألك هل أنت راض عما يفعله من يدّعون أنهم يتبنون قضيتك فيغتنون هم بها ويزدادون مالاً ويفتقر "عيال الله" فيزدادون فقراً؟.

إنهض سيدي وقض مضاجع المُنافقين الأفاقين والدجالين من الذين حرموا (أبناء الخايبة) لذة العيش بفقرهم، فزادوهم ألماً وقهراً وسفكاً لدمائهم.

إنهض واستعد قوى الرفض الكامنة في وجودهم الفطري ولكنهم خنعوا واستكانوا لا لضعف فيهم بل تقديراً لك وشغفاً بمحبتك لأن الأفاقين يُتقنون اللعب على عواطفهم واستثمارهم لقضيتك!.

كُنت أذهب للزيارة بأوقات مُتباعدة قبل 2003، فأنا لم أكن يوماً من الذين يهيمون بتقديس الأمكنة والأشخاص، بقدر ما أهيم بتقديس المواقف، والحُسين موقف رفض وفعل وكلمة حينما قال قولته الشهيرة "هيهات منَا الذلة"، و "مثلي لا يُبايع مثله" مُخاطباً الملك الأشر.

حينما زرت الحُسين من قبل وجدته مثلي ومثل ملايين الفقراء يتضور جوعاً فعشقته، فحينما تدخل لضريحه تدخله من دون تفتيش ولا حمايات تُحيط بالضريح ولك أن تُصوَر ما ترغب به من معالم الضريح، ولك أن تُجالسه وتُحاوره وتُسائله عن قيمة ما فعل من جهة قبولك لفعله أو رفضه، ولكنك اليوم تدخل على ملك، لم يكن الحُسين ليرتضي أن يكون كذلك.

دّع كل ما تحمله في خزانات وعليك أن تمر بسلسلة من سيطرات التفتيش، وحينما تدخل الضريح تجد أنك بعد جهد جهيد قد وصلت لكن وصولك بكد وتعب ومعاناة تمر بها ليتفحصك الشرطة والجندر قبل الدخول لتُفقدك حميمية التوق والشوق للقاء حبيب كل تاريخ تكوينك بمحبته تجذر

 

حسبت أنني أزور ملكاً أحاطوه سدنته بأسيجة لا يرتضيها، فهو ابن الخيمة والصحراء وإذا بيَ أجد أن الأواوين قد كثرت والسقوف قد زُركشت، وفي الحضرة أشخاص يحملون أجهزة النداء الصوتي وأكثر، مُدججون كأنهم يحمون سلطاناً حياً لا ثائراً يتخذ من ثورته إصلاحاً لمُجتمع أغبر يهيم بالرمز ويلطم على الصدر والخدين وينتشي ويتخدر، وتلك غاية حُكامنا ويعملون على تكريسها وأكثر.

تمعنت كثيراً في سقوف أواوينه الجديدة فوجدتها زخرفة لونية وخطوط لا مهارة لتشكيل حروفي فيها يُخبرنا عن قضية الحُسين بوصفه عبرة، بل هي زخارف يمل الناظر لها من فرط ما فيها من تداخل يُفقدك التركيز على المحتوى، وكأنني شعرت أن بعض من صُنَاعه قد وقعوا تحت تأثير رسومات (مايكل أنجلو) في تحويل السقوف إلى لوحة فما قدروا، بل فشلوا، لأن في رسومات (أنجلو) محتوى وتعبير عن قضية، وكننا همنا في الرسم والزخرفة فضيعنا المُشاهد وضاعت القضية!.

يذكر المستشرقون أن المُسلمين والعرب أصحاب رؤى صوفية، ولكنك حينما تدخل ضريح الإمام الحُسين إنما تُبهرك الصناعة والحرفية وغلبتها على الرؤية الصوفية بأبعادها الروحية والجمالية، فقد وجدت قامات من رخام بطراز روماني بلون (ماروني) وكل الزخارف والخطوط تغلب عليها الزرقة!. أظن أنه خرق للنسق اتساقاً مع نمط التشكيل المابعد حداثي!.

أما الإضاءة فقد غلب اللون الأحر (القاني) عليها، وأظن أن من وضعها يروم إخبارنا بأن رؤيته لتشكيله اللوني هذا إنما هي تعبير عن "انتصار الدم على السيف"، ولكنه لم يعي إيحاءات اللون الأحمر ودلالته التأويلية الأخرى!.

إنها لغة الفنان العاجز عن إيجاد صيغ للتعبير تخترق النُظم والأنساق المعهودة في التشسكيل اللوني ومحاولة الكشف عن تعبير لوني آخر يجعلنا خاشعين مُتبتلين نشعر بقيمة القضية وجلالها بتفريق ذكي بين "الجليل" و"الجميل" بعبارتي الفليلسوف الألماني (إيما نويل كانت)، ففي تحسسي للون شعرت بعض الشيء بجمالها وإن تعددت في مُشاهدتي لها إيحاءاتها، وكُنت أتمنى أن يوجد فنان قادر على صناعة إضاءة بتشكيل لوني "جليل" لا جميل، يبعث في نفوس الزائرين الخشوع.

لا أروم الإطالة وعندي الكثير ولكنني عجبت لمن زار الإمام ولم يلحظ أنه لم يزر إماماً ثائراً إنما يزور ملكاً!.

وكنت قبل الآن أجد الحُسين ملاذاً بعبارة عبدالرزاق عبدالواحد في أسواره يحتمي الفقراء، ولكن "السدنة" أحاطوا به فجعلوا بينه وبين أصحابه حُجاباً وجعلوا من أنفسهم أسياداً.

 

د. علي المرهجح

 

 

في المثقف اليوم