قضايا

الثقافة المعرفية وأهميتها في الحوار والتطور الفكري

محمد العباسيالثقافة.. كلمة أو تعبير يردده الكثيرون، ولكل شخص مفهوم مختلف لماهية "الثقافة".. فالكلمة لم تعد تعني للجميع ذات المعنى.. بل تكاد تكون من أكثر المصطلحات استخداما في الحياة المعاصرة، لكنها من أكثر المفاهيم صعوبة على التعريف.. في حين يشير المصدر اللغوي والمفهوم المتبادر للذهن والمنتشر بين الناس إلى حالة الفرد العلمية الرفيعة المستوى، أي المستوى المعرفي، أي كقياس للمستوى العلمي، أو حتى مستوى القدرة على الدخول في المناقشات والسجال والولوج في حيثيات شتى المواضيع المتنوعة بثقة ومنطق سليم.

في مقابل ذلك نجد البعض يحدد استخدام هذا المصطلح كمقابل لمصطلح (Culture) في اللغات الأوروبية.. وهي تعني حالة اجتماعية شعبية، أكثر منها حالة فردية.. فوفق المعنى الغربي للثقافة: "تكون الثقافة مجموعة العادات والقيم والتقاليد والتراث والفلكلور وحتى القوانين المجتمعية التي تعيش وفقها جماعة أو مجتمع بشري، بغض النظر عن مدى تطور العلوم لديه أو مستوى حضارته وعمرانه." (موقع: المعرفة)

و أنا هنا أود أن أركز على مفهوم الثقافة المعرفية.. ولا أعني بذلك المستوى العلمي بالضرورة، وإن كان في أحيان كثيرة أثر واضح للتعليم على تكوين مستوى أرفع لدى عامة الناس ثقافياً.. فلا يمكننا أن ننكر أن المتعلم يكتسب الثقافة بشكل عام من خلال سنوات الدراسة والقراءة والإحتكاك بأقرانه من المتعلمين، لذا يتبادلون في نقاشاتهم المتخصصة والعامة شتى النظريات والأفكار والتحليلات التي بطبيعة الحال تؤدي إلى المزيد من وجهات النظر وتفتح أطر جديدة لرؤية الأمور من زوايا شتى.

البعض قد يحصر الثقافة في الجوانب الأدبية والفنية.. فتصبح الثقافة مرادفة للقدرة الإبداعية والكتابية من شعر ونثر ومقالات ودراسات.. وقد تكون هذه الرؤية صائبة في هذا التحليل، بالذات لأننا في أوطاننا نجد وزارات وهيئات للثقافة، تُعنى بهذه الجوانب الإبداعية من فنون الكتابة والأنشطة الموسيقية وإقامة المنتديات والمعارض والاستعراضات، بما فيها معارض الكتب والفنون الجميلة.  غير أن هذه الاهتمامات لا تدل بالضرورة على المستوى الثقافي المعرفي لدى كل المشاركين من منطلق محدد، بل تعكس قدرات فنية ومواهب واهتمامات متخصصة.. وليس شرطاً أن يكون المتخصص في مجال ما ذو ثقافة معرفية عامة.

أنا شخصياً أرى الثقافية كونها حالة "روحية" أكثر منها "مادية".. أرى أنها تعكس المستوى الفكري أكثر من المستوى العلمي أو التخصصي.. وأرى أن الثقافة تعكس أمراً وجدانياً ورؤية منفتحة لشتى المعارف الإنسانية وقدرة ايجابية للتحليل المنطقي للأمور بعيداً عن التعصب لأفكار محددة، بالذات تلك المتعلقة بالمواضيع الدينية والمذهبية والطائفية والقبلية التي تحصر الفكر في أطر ضيقة قد تَحُّد من حرية التفكير وتقّبل الآخرين والإستئناس بالأفكار المختلفة.. فبينما يحدد البعض مفهوم الثقافة على مجال المعاني والقيم، ويعتبر أن الحضارة نتاجاً للتقدم العلمي والتقني وربما حتى العمراني، أرى أن المفهوم الثقافي هو عكس ذلك.. فهي المعاني والقيم التي يضفيها الإنسان على الجانب المادي من مظاهر التطور، أو أنها التأويل الإنساني في صورة معانٍ وقيم، في الفلسفة وحرية الفكر وعدم التقيد في الأطر الضيقة للقواعد المجتمعية والعقائدية.. أو كما يقول المفكر الألماني "ماكس فيبر": "الثقافة هي عملية تراكمية تُعزى أساساً للطبيعة أكثر من عزوها للإنسان".

قد يفسر البعض الثقافة الإنسانية بأنها عملية تتكون وتتطور في أحضان المجتمع من زاوية مفهومها التقني، وتتضمن سمات للسلوك المعيشي او التعايشي الدنيوي اللازم للحياة اليومية مثل اللباقة الإجتماعية (الإتيكيت)، وطباع وعادات الأكل واللباس وأصول الضيافة وقواعد التعامل بين الناس والإحترام المتبادل، وما إلى ذلك من فنون المجتمع المهذبة.. ومن هذا المنطلق نجد من يحكم على كل من يتبع عادات مخالفة بأنهم يفتقرون للثقافة أو بأنهم من الهمج الغير مهذبين.. وغير ذلك من صفات سلبية.. بينما الأوجب علينا أن نتذكر ونعترف بوجود كم من المعرفة لا تشترك فيه كل المجتمعات الإنسانية في أي وقت ولا يشترك فيه كل الأفراد في أي مجتمع، أي أن هذا الكم المعرفي يكون مقصوراً على أفراد معينين في أوساط إجتماعية معينة وبالتالي فهم في أغلب الأحيان يشكلون كماً ضئيلاً في مجموعهم، إلا أنهم رغم التفاوت جزء من الثقافة الإنسانية.

و يقول الأستاذ الدكتور "سعيد إبراهيم عبدالواحد" أن الثقافة نسبية.. فالعادات والسلوك التي تعتبر خطّاءةً في ثقافة ما، قد تكون مقبولة كلياً أو ربما مُمتدحة ومُحببة في ثقافة أُخرى.. وأن غالبية علماء الأنثروبيولوجيا ينظرون إلى الثقافة الإنسانية نظرة نسبية (كل شيء في الدنيا نسبي وليس هناك شيئاً مطلقاً).. وأن المفهوم بأن كل الثقافات هي نُظم مرتبة ومن خلالها تكون التقاليد الإجتماعية والمؤسسات منطقية في معانيها الخاصة.. وبهذا يمكن رؤية إيمان الهندوس مثلاً بعدم أكل لحوم البقر وضمان معاملة خاصة للأبقار، يمكن رؤيتها على أنها وظيفية ومنطقية.. وهذا ليس فقط في إطار التقاليد الدينية للأبقار المقدسة، ولكن أيضاً في سياق الفائدة المرجوة من البقرة كحيوان جر للعرات والمحاريث وكمصدر للروث من أجل التسميد والوقود.. ويضيف بأن غالبية علماء الإنسان يقرون كذلك بأن الثقافات البشرية تتضمن في بعض الأحيان عادات وقيم مضادة للرفاهية الإنسانية.

و يشرح موقع (شبكة فلسطين للحوار) مفهوم الثقافة على أنها مجمل المعارف التي تتأثر وتؤثر في عقيدة البشر وسلوكه.. وقد يسميها البعض بمصطلح "الفلسفة" ويختصرها في مجالات علم النفس والإقتصاد والإجتماع وتفسير التاريخ والآداب، وأن كل ما يتأثر بالرأي أو النقل فهي ثقافة.. لأنها تؤثر في تكوين النفسية البشرية.  بينما يمكن إعتبار العلوم الأخرى كالطب والهندسة والفيزياء والرياضيات مثلاً على أنها مجالات متخصصة وذات أدوار محددة، وقد لا تفتح المجال واسعاً لعامة الناس بالمشاركة الوجدانية في أغوارها ومناقشتها والإدلاء بدلوها في حثياتها.

و يشرح الدكتور "طارق عبد الرؤف عامر": "لقد أصبح موضوع الثقافة محل اهتمام كثير من المهتمين في العلوم الإنسانية وهناك من يرى أن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشتمل علي المعرفة والعقائد والفنون والقيم والعادات التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع.. وهناك من يرى أن الثقافة عبارة عن تنظيم يشمل مظاهر لأفعال وأفكار ومشاعر يعبر عنها الإنسان عن طريق الرموز أو اللغة التي يتعامل معها.. وبهذا المعنى تكون الثقافة عبارة عن تاريخ الإنسان المتراكم عبر الأجيال.. وهناك نظرات أخرى كثيرة منها من يرى أن الثقافة صفة مكتسبة أو أنها كيان مستقل عن الأفراد والجماعات.. على أن تلك المفاهيم جميعها تدور حول معنى واحد، وهو أن الثقافة كل مركب من مجموعة مختلفة من ألوان السلوك وأسلوب التفكير والتكامل والتوافق في الحياة التي اصطلح أفراد مجتمع ما علي قبولها فأصبحوا يتميزون بها عن غيرهم من باقي المجتمعات ويدخل في ذلك بالطبع المهارات والاتجاهات التي يكتسبها أفراد المجتمع وتتناقلها في صور وأشكال مختلفة أجيال بعد أخرى عن طريق الاتصال والتفاعل الاجتماعي وعن طريق نقل تلك الخبرات من جيل إلي جيل وقد يتناقلونها كما هي أو يعدلون فيها وفق تغير الظروف وحاجتهم ولكن الجوهر يبقى كما هو". (موقع: آفاق علمية وتربوية)

أما علماء الدراسات اللغوية فينادون بضرورة اكتساب لغات أخرى إلى جانب اللغات الأم لفتح أبواب التبادل المعرفي والثقافي بين البشر.. فكسب الثقافة بحاجة على الاطلاع على الثقافات الأخرى.. ومن منطلق تخصصي في مجال "سيكولوجية تعلم اللغات"، أرى أن نماء الثقافة عند البشر لا بد له من تطوير القدرة على الولوج في عوالم أصحاب اللغات الأخرى والتعرف على أفكار وحضارات الآخرين.. هذا لا يعني بتاتاً أن من يتقنون لغة واحدة يفتقرون للثقافة، ولكن لإتمام التحصيل الثقافي لا بد لنا من الاطلاع على الثقافات المتنوعة.. وجدير بالذكر هنا أن من دلائل الثقافة لدي أرقى المثقفين هو تمكنهم من تحصيل عدة لغات.. مما يفتح أمامهم مجالات النقاش والحوار والتحصيل من أكثر من ثقافة، فبالتالي يثرون علمهم ومعارفهم ونقاشاتهم المستقاة من شتى المصادر.

وإذا عدنا لمفهوم الثقافة على أنها قدرات معرفية وذهنية، سنرى المنطق في هذا الطرح.. فالثقافة هي عبارة عن مكتسبات معرفية متنوعة يكتسب المثقف من خلالها المعارف التي تعطيه تلك الصفة المتميزة في جل حواراته ونقاشاته.. ولابد للمثقف أن يتميز بالوعي والاطلاع وسعة الأفق ليكون مُقنعاً في أقواله وأفعاله.. وهذا أمر لا يتأتى إلا عبر وفرة الاطلاع والانفتاح وتقبل الاختلاف والثراء المعرفي.. فتعدد الثقافات تعني الانفتاح العام لتقبل ثقافات الغير.. وأحد أهم مصادر إثراء الثقافة هو الإلمام بلغات أخرى والاختلاط بالآخرين للتعرف على الحضارات الإنسانية المختلفة وعاداتهم وتقاليدهم وحتى معتقداتهم مهما اختلفت..  فالثقافة تتميز بكونها مشاركة وجدانية بعيدة كل البعد عن التعصب الفكري ولا تنسجم مع من هم ضد الانفتاح على الآخرين.. فالمثقف لا يكون مثقفاً بتخصصه في علمه فقط أو تعصبه لمعتقده.. ولا أتصور مثقفاً تنحصر أفكاره في زوايا ضيقة عند كل نقاش.

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم