قضايا

اطلاق الحقيقة ونسبية الافهام

هناك جدل قائم يثار في اوساط المفكرين حول الحقيقة . هل هي نسبية ام مطلقة؟ وهل هناك حقيقة اصلا؟ واذا كانت الحقيقة مطلقة، فهل هي قابلة للادراك والفهم ام لا؟

القول باطلاق الحقيقة له مايبرره ويسوّغه، فنحن - معاشر البشر- نجد في انفسنا نزوعا وشوقا للبحث عن الحقيقة، وهذا النزوع الانساني، وسعي الباحثين وجهودهم ومثابرتهم للوصول الى الحقيقة، يعبّر عن وجود حقيقة مطلقة، والا لكان هذا السعي الانساني الحثيث، وجهود المفكرين والعلماء، بحثا عبثيا لاطائل من ورائه، ولامعنى له.

وبعد التسليم بوجود حقيقة مطلقة، مامعنى القول بنسبية الحقيقة ؟ القائلون بنسبية الحقيقة، لايرون وجود حقيقة، وانما الحقيقة نسبية عندهم، وهي تختلف باختلاف الاشخاص والجماعات والمجتمعات والثقافات، والازمنة والامكنة، والاوضاع والحالات النفسية .

والحق، ان هناك حقيقة موضوعية، متعالية، لاتتعدد، هي التي تحرك شوق الناس باتجاهها، من اجل الوصول اليها، وامتلاكها .اما النسبي والمحدود، والمتغيرالذي يختلف باختلاف الظروف والبيئات فهو افهامنا، ووسائلنا القاصرة للوصول الى الحقيقة.

القول بنسبية الحقيقة ليس جديدا

ليس القول بنسبية الحقيقة القائل بان الحقيقة نسبية تختلف من فرد الى اخر، ومن جماعة الى اخرى، ومن وقت الى اخر " راجع: افاق فلسفية معاصرة، الطيب تيزيني، ص329 "، وليد ازمنة الحداثة، بل هو قديم قال به بروتوغوراس السوفسطائي اليوناني في نقده لاصول المعرفة . يقول الدكتور علي سامي النشار وهو يقرر ماقاله بروتوغوراس والسفسطائيون:

(ان الانسان هو مقياس مايوجد منها (المعرفة)، ومقياس وجود مالايوجد)، ثم اخذ بهذا الشكاك بعد، فطبقوها على الحد، كما طبقوها على نواحي العلم كله، فلم تعد حقيقة من حقائق العلم ثابتة اومستقرة، بل كل شيء - كما يقول - هرقليطس في تغير مستمر) (مناهج البحث عند مفكري الاسلام، ص 191) .

هل القول باطلاق الحقيقة يؤدي الى كوارث انسانية؟

بعض الكتاب المشتغلين بالشان الثقافي يتصور ان القول بكون الحقيقة مطلقة ؛ يؤدي الى الكراهية واقصاء والغاء الاخرين وتكفيرهم . وان القول بنسبية الحقيقة يفتح افاقا واسعة للتعايش والحب، وقبول الاخر، فهل هذا الكلام كلام حق ؟

لابد لنا ونحن نعالج هذه القضية، ان يكون الكلام في دائرتين:

1- الدائرة الاولى: الحقيقة مطلقة ولاتتعدد، وقد عبّر القران عن الحقيقة المطلقة التي لاتقبل التعدد بالحق، يقول الله تعالى:

(وان الذين اوتوا الكتاب ليعلمون انه الحق من ربهم) . البقرة: الاية: 144.

(وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون). البقرة: الاية: 146 .

(ترى اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) . المائدة: الاية: 83.

(الان حصحص الحق) . يوسف: الاية: 51 .

هذه الدائرة هي دائرة الحقيقة المطلقة الموضوعية الواحدة غير القابلة للتعدد .

2- الدائرة الثانية: هي دائرة الافهام النسبية للحقيقة المطلقة، وهي دائرة متعددة، تسمح بالاختلاف وتعدد الاراء، والتعايش بينها .

وهناك طريق حصري موصل الى الدائرة الاولى، اسماه القران الكريم "الصراط"، اما الدائرة الثانية، فالطريق اليها ليس طريقا حصريا احاديا، وانما هناك سبل متعددة توصل اليها، يقول الله تعالى:

(وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).الانعام: الاية: 153 . ويجب حفظ الحدود بين الدائرتين، ولايجوز الخلط والتداخل بينهما، ولاتنزيل احداهما في محل الاخرى . لقد خلط الباحث الايراني الدكتور سروش بين الصراط والسبيل، فقال بتعدد الصراط ؛ في حين ان القران لم يجمع الصراط ؛ لانه واحد، وجمع السبل ؛ لانها متعددة .

ولقد خلط كتاب كثيرون بين الدائرتين، دائرة الحقيقة المطلقة، ودائرة الافهام النسبية المتعددة، فجاءت استنتاجاتهم مضطربة ومشوشة.

هل هناك ملازمة بين القول بالحقيقة المطلقة وعدم التسامح؟

لاملازمة بين القول بالحقيقة المطلقة وعدم التسامح ؛ هذه الملازمة منشؤها الخلط بين الدائرتين، وتنزيل احداهما في محل ومنزلة الاخرى، والقران ضرب امثلة لاوجود فيها لمثل هذه الملازمة الموهومة .

في الدائرة الاولى، لايرى القران للشرك حقيقة وواقع، بل الموقف القراني موقف يدين الشرك، ويقف موقفا مساندا للتوحيد، يقول الله تعالى:

(واعبدوا الله ولاتشركوا به شيئا) . النساء: الاية: 63 .

(ان الله لايغفر ان يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما) . النساء: الاية: 48 . الاية هنا تؤكد ان الشرك لاواقع له بل هو افتراء واثم عظيم .

(مااتخذ الله من ولد وماكان معه من اله اذا لذهب كل اله بماخلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) . المؤمنون: الاية: 91 .

اما في الدائرة الثانية، والتي هي دائرة التعايش والتسامح، فالله تعالى يقول:

(وان احد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مامنه ذلك بانهم قوم لايعلمون) . التوبة: الاية: 6 . قال القران فاجره، ولم يقل فاقتله، رغم موقفه الواضح في الدائرة الاولى، اما الدائرة الثانية فالمجال مفتوح فيها للتعايش بين المختلفين والمتغايرين في افكارهم وتوجهاتهم .

فالايمان بالدائرة الاولى، دائرة الحقيقة المطلقة، التي لاتتعدد، لايستلزم نشر ثقافة الكراهية وعدم التسامح ؛ لان الدائرة الثانية تفسح المجال لقيم التسامح والحب والتعايش بين المختلفين .

قد يرد سؤال، واشكال على كل ماطرحت حول الحقيقة المطلقة والنسبية، ودعواي بان القول بالحقيقة المطلقة لايؤدي الى نشر ثقافة الكراهية والغاء الاخر، واقصائه، وتصفيته وقتله، قد يقال كيف تفسر ماتقوم به داعش والحركات التكفيرية من اشاعة ثقافة الكراهية، وقتل خصومها .... والجواب هو: ان داعش انزلت الدائرة الثانية منزلة الدائرة الاولى، وجعلت النسبي الذي هو اجتهادات فقهائها مطلقات، المشكلة مع داعش هو فهمهما المتطرف المغلق، ولاعلاقة لممارساتها بالقول بالحقيقة المطلقة.

وفي الختام، القول: بان الافكار المتعارضة، والعقائد المتنافرة، والمذاهب المتغايرة كلها حق على اساس نسبية الحقيقة، هو خلط بين الدائرتين .

 

زعيم الخيرالله

 

في المثقف اليوم