قضايا

أشكال شتى لظاهرة الإنتحار المحيرة

محمد العباسيالإنتحار جسدياً ويمكن تعريفه بقتل النفس مع سابق الإصرار والتخطيط.. البعض يعتبر المنتحر شخصاً جباناً يائساً من مواجهة الواقع والتعامل معه.. فيفضل الحل الأسهل.. الهروب! الانتحار هو الفعل الذي يتضمن تسبب الشخص عمداً في قتل نفسه.. وتُرتكب جريمة الانتحار غالباً بسبب اليأس، والذي كثيراً ما يُعزى إلى الإضطراب النفسي مثل الإكتئاب أو الهوس الإكتئابي أو الفصام أو إدمان الكحول أو تعاطي المخدرات.. وغالباً ما تلعب عوامل الإجهاد مثل الصعوبات المالية أو مشكلات في العلاقات الشخصية وقصص الحب الفاشلة دوراً في ذلك.. وقد أوردت بيانات لمنظمة الصحة العالمية بأن حوالي 75% من حالات الانتحار تسجل ما بين متوسطي الدخل وسكان الدول الفقيرة.. والتي قد يحد منها حلول مجتمعية وعلاجية وتحسين فرص التنمية الاقتصادية.

تختلف الطرق الأكثر شيوعاً للانتحار حسب البلد، كما ترتبط جزئياً بمدى توافر الوسائل المتاحة.. وتشمل الطرق الشائعة ما يلي: الشنق والتسمم بواسطة المبيدات الحشرية وقطع الشرايين والقفز من أسطح البنايات الشاهقة أو سفوح الجبال وعن طريق استخدام الأسلحة النارية أو الصعق الكهربائي المتعمد.. وحسب مواقع الوكيبيديا، هناك ما بين 800,000 إلى مليون شخص تقريباً يموتون كل عام عن طريق عمليات الانتحار (الناجحة)، مما يجعل الانتحار عاشر الأسباب الرئيسية للوفاة في العالم..  والمعدلات أعلى بين الرجال عنه في النساء، حيث أن الذكور أكثر عرضة لقتل أنفسهم من الإناث بمقدار 3-4 مرات.. وهناك ما يقدر بنحو 10 إلى 20 مليون محاولة انتحار فاشلة كل عام.. وهذه المحاولات الفاشلة أكثر  شيوعاً بين فئة الشباب وبالذات الإناث.

و يشرح موقع وكيبيديا مدى تأثر وجهات النظر حول الانتحار بالموضوعات الوجودية العامة مثل الدين والشرف والأعراف ومعنى الحياة..  وتعتبر الأديان الإبراهيمية تقليدياً أن الانتحار معصية لله ويرجع ذلك إلى الإيمان بقدسية الحياة.. وخلال عهد "الساموراي" في اليابان، كانت طقوس "السيبوكو" تعتبر وسيلة مبجلة للتكفير عن الفشل أو تعتبر كشكل من أشكال الاحتجاج.. أما عند الهندوس، فقد كانوا عند الممارسة الجنائزية للرجال المتوفين، تقوم الأرملة بالتضحية بنفسها في المحرقة الجنائزية لزوجها، سواءً برغبة منها أو تحت ضغط من الأسرة والمجتمع.  وفي مجتمعاتنا نجد الانتحار شائعا بين الجاليات الهندوسية والبوذية المؤمنة بتناسخ الأرواح.. أو رجوع الروح إلى الحياة بجسد آخر.. أي أنهم يتقبلون فكرة الموت من أجل العودة ربما لحياة أفضل.

الانتحار أو محاولة الانتحار كانت جريمة يُعاقَب عليها جنائياً في السابق، إلا أنها لم تعد كذلك في معظم البلدان الغربية.. وفي المقابل، فهي لا تزال تمثل جريمة جنائية في معظم البلدان الإسلامية.. في القرنين العشرين والحادي والعشرين، استُخدم الانتحار في شكل التضحية بالنفس كوسيلة للاعتراض ولفت الانتباه العام لقضايا معينة.  ربما تكون قضية طارق الطيب محمد البوعزيزي هي الأشهر في الوطن العربي ويعتبره البعض الشرارة الأولى لانطلاق حركات الربيع العربي في كافة أرجاء الشرق الأوسط.. فقد قام البوعزيزي يوم الجمعة 17 ديسمبر 2010 بإضرام النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية لعربة كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه.. وقد أحرق البوعزيزي نفسه للتنديد برفض سلطات المحافظة قبول شكوى أراد تقديمها في حق الشرطية التي صفعته أمام الملأ.. أدت محاولة انتحاره بدافع الاحتجاج لانتفاضة شعبية وثورة دامت قرابة الشهر أطاحت بالرئيس "زين العابدين بن علي".. أما محمد البوعزيزي فقد توفي بعد 18 يوماً من إشعاله النار في جسده.. وقد أضرم على الأقل 50 مواطناً عربياً النار في أنفسهم لأسباب اجتماعية متشابهة تقليداً لاحتجاج البوعزيزي.

ثم هنالك ما نطلق عليه "العمليات الإنتحارية"..سواء كانت فدائية إستشهادية أو كانت تقع في خانة الإرهاب، وشتان بينهما من حيث المبدأ.. ومصطلحات الفدائية والإستشهادية هي توصيفات قد يؤمن بها الطرف الأول ويجيز بها القيام بهكذا عمليات من منطلق الدفاع عن الوطن المغتصب.. بينما وبطبيعة الحال يراها الطرف الآخر نوع من أنواع الإرهاب المرفوض جملة وتفصيلاً.  بينما لن أستغرب كثيراً إذا كانت وجهات نظر ترى في حمل المتفجرات على الجسد وتفجيرها بين الجنود الأعداء هي وسيلة نقل للمتفجرات كما تنقل المركبات والدبابات والطائرات القنابل وتلقي بها على المدن والتجمعات البشرية..  لكن كل جهة تعمل بما لديها من إمكانيات، مع الفرق الشاسع بين هكذا عمليات فيها تضحيات بالنفس، وبين الطائرات التي تلقي بأطنان من شتى أشكال أدوات القتل!  فلسطين بالذات لها في قلوبنا مكانة خاصة، لذا نجد أنفسنا في أغلب الأحيان متعاطفين مع تضحياتهم الجليلة.. وهنالك قائمة طويلة للعمليات الفدائية في فلسطين المحتلة على الصفحة الإلكترونية لقناة "الجزيرة" خلال السنوات العشر من 1994 إلى 2004 .

بينما قد يجيز بعض علماء الدين القيام بالعمليات الإنتحارية ضد الصهاينة بالذات من باب جهاد المستضعفين ضد الطغاة المدججين بالسلاح، غير أن عامة العلماء يتفقون على ادانة حمل أدوات متفجرة وتفجيرها بين حشد من الناس، فهذا يعتبر من أفعال قتل النفس.. ومن قتل نفسه فهو مخلد في نار جهنم أبد الآبدين، كما جاء في الحديث عن النبي – عليه الصلاة والسلام.

و العمليات الإستشهادية ليست وليدة القضية الفلسطينية، وصفحات التاريخ غنية بالقصص والأحداث.. وربما كانت الحرب العالمية الثانية قد شهدت عمليات "الكاميكازي" للطيارين اليابانيين ضد الأساطيل البحرية للحلفاء في المحيط الهادي.. وتعتبر تلك من أشهر العمليات الإنتحارية (البطولية) في تاريخ الحروب.. فحين شعرت اليابان بالخوف من تقدم الحلفاء نحوهم، قرر الإمبراطور الياباني تشكيل وحدة هجوم خاصة، تطوع بها نحو 24 طياراً.. وكانت مهمتهم الإصطدام بسفن الحلفاء وقتل أكبر قدر ممكن من البحارة.. كانت أول عملية إنتحارية في أكتوبر 1944، حيث إصطدمت طائرة يابانية بسفينة تابعة للبحرية الأسترالية، مما أسفر عن مقتل 30 بحاراً.

أما اليوم فقد بات العالم يعاني من شرقه إلى غربه من الإنتحاريين الداعشيين، عادة عبر استخدام الأحزمة الناسفة والعربات المفخخة.. فقد تحولت تلك العمليات التى عرفناها بالإستشهادية إلى شكل آخر من الإنتحار المجنون.. فالدواعش نقلوا عمليات القتل من كونها بطولات ضد الأعداء والمغتصبين إلى سفك لدماء المسلمين.. وتحولت العمليات الإنتحارية إلى إرهاب للمجتمعات الآمنة في العراق وشبه الجزيرة العربية.. بل كانت بعض تلك العمليات بأحزمة ناسفة بين جموع المصلين والحجاج.. وصارت ثقافة تفجير الذات قناعة تامة بأنها تفتح لهم أبواب الجنة وتهبهم الحور العين.. كيف بالله إستطاعت داعش ومن في ركبها أن تقنع هذا العدد الكبير من الشباب، وأغلبهم من السذج الجديدون على الدين، وبإسم الدين، أن يفجروا أنفسهم بهكذا يقين؟؟

بل وحتى ضمن الهجمات الفردية التي يعلم فيها المهاجم أو المعتدي بأنه مقتول لا محالة لا يختلف الأمر عن كونها عمليات انتحارية.. فحين يهجم رجل يحمل سكيناً مثلاً على عدد من رجال الشرطة، فهو لا بد مقبل على فعلته عالماً بالنتيجة المحتومة.. لذا هي عمليات تدخل ضمن تصنيف العمليات الإنتحارية.  ربما تتعدد الأسباب والأهداف، غير أن مثل هذا الفعل يطلق عليه "الإنتحار على يد رجال الشرطة".. وهذا مصطلح متعارف عليه في علم الجريمة ومتكرر الحدوث حول العالم.. فأغلب عمليات بل محاولات الطعن في فلسطين تنتهي بمقتل المهاجم بوابل من الرصاص.. وكذلك الأمر حين يواجه طفل من أطفال الحجارة دبابة أو مدرعة ويرميها بحجر.. فيموت دهساً أو قنصاً !!  وهكذا أيضاً كانت نهاية كل الحالات الفردية للمنتسبين للفكر الداعشي سواء في فرنسا أو بلجيكا أو ألمانيا أو أمريكا.. كلها إنتهت بمقتل المعتدين.. فهي بذلك لا تتعدى كونها هجمات إنتحارية معلومة المصير والنتيجة.

و مصطلح الإنتحار يمكن أن ينطبق على حالات أخرى عديدة، ليس من المحتوم أن تكون نتيجتها الموت ومفارقة الحياة.. ففي كل مناحي الحياة نجد من يقضي على مستقبله عبر القيام بأفعال تضر بمصالحه، ومنها: الإنتحار فكرياً والإنتحار فنياً والإنتحار مهنياً والإنتحار رياضياً والإنتحار أخلاقياً والإنتحار سياسياً.. وهكذا دواليك.  فمثلاً، ونحن عايشنا مؤخراً السباق الرئاسي في فرنسا، فقد إنتحر المرشح "فرانسوا فيون" سياسياً حين تكشفت حوله فضيحة مالية تورط فيها فيما يخص توفير عمل وهمي لزوجته واثنين من أولاده.. ويبلغ مجموع ما حصلت عليه عائلته عبر هذه التعيينات الوهمية من مكافأة نحو مليون يورو.. ولم يقضي "فيون" على مستقبله السياسي فقط، بل أودى بفرص الحزب الإشتراكي الذي يمثله في الوصول إلى الحكم.. وكذلك كان الأمر فيما مضى مع الرئيس الأمريكي "نيكسون" وفضيحة "واترغيت".. والغريب في أمر رؤساء أمريكا أن فضائح "بيل كلينتون" الجنسية الفاضحة قبل وبعد وصوله إلى البيت الأبيض لم تؤدي إلى إنكساره، بل أدت إلى زيادة شعبيته بين ملته وأعيد إنتخابه رغم كل ذلك!!!

فهل قتل الذات جريمة في حق الذات؟  أم أن الإنتحار حق انساني ضمن منظومة حقوق الانسان، طالما الجريمة لم تمس الغير أو تضر بمصالح الآخرين؟  بل في بعض الدول المتقدمة أصبح من حق المريض أن ينهي حياته وعذابه، وتم اختراع أدوات خاصة تعين الأفراد على إنهاء حياتهم عبر جرعات قاتلة.. وعند بعض الجماعات الفكرية أصبح ممكناً القيام بعمليات انتحار جماعية لينتقلوا بعدها معاً إلى تلك "الجنة" الموعودة أو الحياة الأخرى.. بل هنالك قصص عن أفراد قاموا بالانتحار أملاً في حياة أفضل لأفراد عائلاتهم عبر الإستفادة من مردود التأمين على حياتهم.  ويبقى الانتحار مثار نقاش بين المفكرين حول كونه جريمة أو حق من حقوق الإختيار!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم