قضايا

المحبةُ سلطة

علي المرهجإذا فهمنا السلطة على أنها فن إدارة العلاقة مع مُقربين، أو مع الأسرة، أو الجماعة، بل وحتى المؤسسة، ربما ستكون هُناك علاقة بين المحبة والسلطة، وحينما تختلط الرؤى لتكون السلطة فن إدارة الدولة، حينذاك سنحار في توصيف العلاقة بين المحبة والسلطة، ورغم أن الكثيرين لا يعتقدون ولا يؤيدين ولا يذهبون للقول بوجود علاقة بين المحبة والسلطة، وهم مُحقون فيما يذهبون إليه لأن ما هو معهود في مُجتمعنا عن مُرادفة السلطة مُقترن بنزوع ديكتاتوري يرنو للتفرد بالحُكم واتخاذ القرار من دون مُراعاة لآخر. إلّا أننا نرى بإمكانية الوصل بينهما بعد فصل.

هُناك فهم آخر لعلاقة المحبة بالسلطة، بقولنا "المحبة سلطة" تُبرره علاقاتنا الاجتماعية، منها علاقة الأم بالإبن والعكس، أي علاقة الإبن بالأم، وكذا الحال في علاقة الأب مع الإبن، والعكس، أي علاقة الإبن بالأب، والحال ذاته ينطبق على علاقة الأخ بالأخ أو الأخت، بل وحتى الصديق بصديقه، لنصل لعلاقة الحبيب بحبيبته، وهي في مُجملها نوع من ىأنواع مُممارسة التعبير عن المحبة الذي يتشكل في كثير من الأحيان وكأنه مُمارسة إملائية فيها شكل من أشكال قبولنا بتنفيذ طلب المحبوب وإن كُنَا في بعض الأحيان غير مُقتنعين بتنفيذ الطلب، ولكننا نُنفذه رغبة في ارضاء المحبوب، وبعضنا يتمادى في تنفيذ رغبات هذا المحبوب وإن كانت على حساب الذات أو المُجتمع، بل وحتى الوطن، وكم شخص رضخ لطلبات المحبوب فصار مسخاً يُحركه المحبوب ذات اليمين أو ذات اليسار وتختلف شكل الاستجابة بحسب شكل العلاقة مع ذلك المحبوب، وهي في كل أنواعها مُمارسة فيها الكثير من تقبل المُحب لتنفيذ طلبات المحبوب على قاعدة "طلباتك أوامر"!، وهنا مثل يشي لنا بقبول تسليم المُحب أمره بيد الحبيب، وكأنه يُذكرنا بعلاقة المُريد بالشيخ وفق الرؤية الصوفية، لأن الشيخ عند الصوفية هو طريقهم إلى الله، أو وسيلة منها وبها يُتقنون سُبل الرشاد ومعرفة طريق الحق الذي "لا مجمجة فيه".

ولا أظن أن علاقة المرجع بمُقلديه في الفكر الشيعي تختلف عن شكل هذه العلاقة بين الشيخ والمُريد.

هو ذات الحال مع مؤيدي المُرشد العام لجماعة الاخوان، عند السُنة.  بعض الشيعة يتبنون فكرة "الولي الفقيه"، وهي فكرة تقوم على المحبة والثقة بهذا "الولي الفقيه" من دون تمحيص بعلمه والتسليم له وفق ما هو شائع، والذي ينتهي بوجوب الطاعة، على قاعدة "ذبها برقبة عالم واطلع منها سالم"، فالتقليد عند من يجهل أمور الدين عند الشيعة أمر واجب، والمعروف الدارج أن أغلب الشيعة يختارون مرجعهم بحسب المتوارث عندهم في التقليد عائلياً أو أسرياً ـ وإن خرق البعض هذه القاعدة ـ ولكن التقليد هو فعل اتباعي لا تعقل فيه بقدر ما يهيم أصحابه حُباً بهذا المرجع أو ذاك بالوراثة أو بفعل سعة التأثير والحضور في المجال التداولي، ولكن من دون معرفة أسباب التقليد لهذا المرجع دون غيره ـ في الغالب الأعم!.

لم يختلف الحال كثيراً مع الأمير في الحركات "الجهادية"على ما بين " و "المُرشد"و "المرجع" و "الأمير" من تباين، ولكن العلاقة بين أتباعهم وبين شخوصهم كقادة هي في الغالب الأعم علاقة قائمة على المحبة والنزوع الوجداني العاطفي، ولا تحكم عقلاني في الانتماء لهذه الجماعة دون غيرها سوى المحبة أو الاعجاب!."

في الحركات "المُتطرفة"، ستجد الأعم الأغلب يستجيب لقادتها إما حُباً بعلمه وثقة بتدينه أو قبولاً وانصياعاً له بحكم سطوته، ولكن هذا الأمر لا ينفي وجود الكثير من الذين آمنوا به فحملوا السلاح معه وحاربوا من وصفهم بأنهم أعداء الإسلام!، وكثير منهم ليسوا بنادمين، وماتوا وهم مؤمنون أنهم في لطريق الحق ينتهجون!.

هذا النوع من المحبة ذات بُعد ديني بوصفها سلطة، وهي تشكيلات ذكرنا المؤثر والفاعل منها في مُجتمعاتنا العربية والإسلامية، وجُلّها تنظيمات بدأت بأفراد وما أن زادت حضوضها في الوصول للسلطة كثر أتباعها إما لمحبة وثقة برجالاتها وقادتها بوصفهم مُغيرين للحال، أو أن بعض من هؤلاء وهم قلَة من يُتقنون اللعب على حبال السياسة!.

هُناك كما ذكرت أنواع من المحبة بوصفها سلطة ذات بُعد إنساني، وهي تشكيلات لها تحمل في طياتها الطاعة المُرادفة للاعتراف بسلطة الآمر وقد ذكرتها في بداية المقال.

فتأمل وإنعم النظر في مخزون ذاكرتك وتفحص كم ما استجبت لطلبات من تُحب في تاريخ حياتك فعددتها أوامر ونفذتها كي تسترضيهم؟، وأنت غير راض عن طبيعة الطلب، ولم تكن لديك القناعة!، وهي ليست أوامراً من الموجب لك الخضوع لها، أظن هُناك الكثير، ولو كان منها القليل، فهي تعني أنها مُمارسة لشكل من أشكال السُلطة المُضمر، وربما المُعلن، فكم نستجيب لطلبات أحبة لنا نصحنا من يعرفون بحالهم أن لا نستجيب لهم، ولكنهم أسرونا بمحبتهم فغلبت المحبة على التعقل، فكان مصير بعضهم وداع الحياة، وهو وداع شفيف وإن كره العاقلون، لأنك نفَذت رغبة لمن تُحب وخضَعت لسلطة المحبة فوَدعك من تُحب وهو راضِ عنك ومُستمتعِ بلحظة وجودك معه، فـ "من الحُب ما قتل".

فطاعة الوالدين والبرَ بهم فيه تغييب للذات لأن في عقوقهما ارتكاب لكبيرة، ولربما يكون ما أمرني به الوالدين مما لا رغبة لي بتحمله ولا طاقة، أو ربما هو مُغاير لما هو مألوف في زمني لأنني خُلقت لزمان غير زمانهم بعبارة الإمام علي (ع)، ولكن وجوب الطاعة لهم هو من مُقتضيات ترادف المحبة مع السلطة، أو قبولنا بفرضية أن "المحبة سُلطة"، وأظن جاء الأمر بإطلاق في النص القرآني بطاعة الوالدين، فهو ظأمر محط تمحيص، فبعض من الآباء أو الأمهات أظن أن في معصيتهم لأوامرهم طاعة لهم، فتأمل قليلاً ولا تتعجل، فتذكر كم من الآباء تعرف سيرة حياتهم وتعرف أنهما سيئان، على قاعدة "يُخرج الطيب من الخبيث"، ولك أمثلة تختزنها في ذاكرتك من الذين تصفهم بالخُبث أو بـ "الهبل" المُقارب للجنون، ولكنهم أولاد بررة أفضل من آبائهم ويفوقنهم بعلم يفوق علم آبائهم بسنين.

وطاعة الزوجة للزوج وفق التفسير الفقهي ومشهور النص القرآني أنه طاعة عمياء، وهي طاعة تتجاوز طاعة المرأة لوالديها أو أخوتها، ولا أروم الخوض في ترسيمات هذه الطاعة وتشكيلها الفقهي المُشكل من حيث تعارض الزوجين في المزاج وفرض الزواج عليهما لبر (الوالدين)! مثلاً لأن والدي الزوج والزوجة يرومان المُصاهرة من دون موافقة الزوج والزوجة لأنهما ليسا سوى أدوات بأيديهما لأن بر الوالدين يقتضي الطاعة، طاعة الإبن لأهله وطاعة البنت لأهلها، وفي حال رفضهما سيكونا عاقين لم يُبرَا والديهما!.

ولكنني سأفترض توافق الزوجين وقبولهما بتخطيط الأهلين لتزويجهما، فعن أي شكل من أشكال الطاعة، الكل يبحث عن طاعة تبتغيها الشريعة، وهي طاعة ـ في غالب الأحيان ـ تمتهن المرأة وتُحولها لأداة بيد الرجل، فهي مـأمورة بُحسن مُعاشرته، وقضاء شهوته وإن لم يكن لها مزاج لها منها، وتربية أولاده وصلاح الحال في الأسرة، وكأن الرجل مهمته "النكاح"!، ومهمة المرأة "الإنبطاح" على السرير، أو في التربية والاصلاح لأولادها وتنمية قدراتهم، وهي بذلك تدخل الجنة!.

الرجل في الروايات وبعض الأحاديث هو من يُدخل المرأة الجنة أو النار!، وذلك يتحقق بطاعتها لزوجها، وإن تعارضت رغبات زوجها وطلباته مع رغبات أهلها فعليها طاعة زوجها!.

أي امتهان هذا للمرأة وفق التفسي والفهم القاصر للشريعة، فالنص حمَال أوجه بعبارة الإمام علي (ع)، فعلى الفقهاء أن يجَوا ويجتهدوا في البحث عن تفسير وفهم إسلامي يُخرج المرأة من مفهوم "قوامة الرجل" الشائع، أو من التفسير للإرث "للذكر مثل حظ الأنثيين"، وفق صلاحية النص لكل زمان ومكان.

في مقالي هذا أروم تأكيد عنوان المقال "المحبة سُلطة" ولكن ليست بأوامر لا يستسيغها قلب عاقل، أو قلب مُحب، فكل ما يخرج من القلب يدخل للقلب، فإن خاطب الزوج زوجه بمحبة وصدق ستخترق محبته بصدقها شغاف القلب، ولن نحتاج لفقيه لا يعلم سر المحبة ببعدها الوجداني الداخلي أن يُشرع ويرسم ليَ علاقتي بالمحبوب وفق تصوره الفقهي.

ولن أحتاج بطبيعة الحال لفقيه ولا لنص قُدسي يُخبرني بفطرية مثل: علاقة والد بما ولد سواء أكانت أمٌ أو أبُ، أو أخ وربما أخت.

ربما أحتاج لقلب نابض يستجيب لطلة مُحب يهيم بالحبيب، وهذه سلطة المحبة التي تخترق كل تشريعات "الما فوق" لتغوص في عوالم الباطن والوجدان، وهي سلطة السلطة ومحبة المحبة، وسلطة المحبة ومحبة السلطة حينما تكون السلطة شغفاً وتوقاً وهياماً لرؤية محبوب، وتنصيبه ملكاً للقلب فيكون هو الحاكم وتكون أنت المُتيم به المحكوم.

أظن أننا بعد هذا سنتفق أن بعضاً ـ وربما كثيراً ـ من المحبة سُلطة.

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم