قضايا

وقائع مخزية في التاريخ الإنساني

محمد العباسيحقاً نعيش في عالم غريب.. رغم أننا في القرن الحادي والعشرون.. البشرية لا تزال تعيش بربرية القرون الوسطى وهمجية قرون الظلام.. العالم لم يتعلم ولا يبدو مستعداً لأن يتعلم من الماضي المقيت.. لا تزال الحروب قائمة.. لا نزال نقتل بعضنا البعض بكل وحشية.. لا نزال ندك المدن بكل ما فيها ومن فيها بشتى أشكال القذائف والقنابل.. براً وبحراً وجواً.. لا تزال المذيعات الفاتنات تنقلن لنا أخبار المجازر ضد الإنسانية في كافة القنوات الإخبارية دون أن ترمش لهن الأجفان.. ولا نزال نشاهد مناظر الدماء والأجساد الممزقة وكأننا نتفرج على ألعاب الفيديو.. بنايات تتهاوى على الرؤوس.. أطفال يتم إنتشالهم من تحت ركام الطوب والحجارة ومن بين الأسياخ الحديدية.. نساء وعجائز تقطعت أوصالهن وتاهت معالمهن البشرية.. ويستمر القتل والدمار والعنف والتفجيرات والقصف من شاهق السماء بصوارخ موجهة.. أو غير موجهة كما هو الحال مع البراميل المتفجرة.. ولا تزال صناعة أعتى أدوات وأسلحة القتل والفتك والتدمير هي من أكثر الصادرات التجارية من مصانع دول العالم الكبرى.. ناهيك عن قنابل الدمار الشامل من غازات سامة وجرثومية.. وقنابل النابالم الفوسفورية الحارقة والعنقودية والذرية والنووية والفراغية والهيدروجينية والكهرومغناطيسية.. ذات الدول الكبرى التي تتكلم عن دفاعها عن حقوق الإنسان وتنصب نفسها في خانة الدول المتقدمة والمتمدنة والراقية.. وكل أفعالها هراء مستفحل، ورياء أخرق، وكذب بلا حياء.. بل هي نفس الدول التي تفتعل أسباب الخلافات وتشجع على الفتنة وتختلق الحروب فقط لتتاجر بالسلاح، ثم لتتدخل بعد الدمار لتحصيل المكاسب من إعادة الإعمار !!

وبين كافة أشكال المجازر الجماعية بأسلحة الحروب والفتك، نكتشف بين كل حين وبمحض من الصدفة الناتجة عن تسريبات "مشبوهة"، مشاهد مصورة للتعذيب وسوء المعاملة لأفراد من البشر وقعوا في الأسر بين أيدي مجموعات من الذئاب البشرية.. والأغرب أن مثل هذه المناظر المصورة هي نادرة وقليلة، ولكننا كلنا نعلم أنها لا تمثل سوى قمة لجبال جليدية غامرة تحت الأسطح المائية الآسنة.. نعلم أن الواقع الذي لا يتم بالضرورة تصويره وتسريبه لا بد أعظم بمئات المرات مما يظهر للعلن.. وربما نتذكر جميعاً تلك المشاهد المروعة لبعض ما كان يمارسه الجنود الأمريكان في سجن "أبوغريب" في العراق.. ولكم أن تتخيلوا ما كانت تمارسه المخابرات الأمريكية ضد معتقلي "غوانتنامو" من جهة.. وكم التعذيب والترهيب بالنيابة عن الأمريكيين الذي كانت تمارس ضد السجناء في معاقل دول العالم الثالث.. حيث كانت أمريكا "تتعاقد" معهم لممارسة تعذيب الأسرى، بعلم تام من قمة الإدارات الأمريكية، طالما أنها ممارسات تقام خارج الأراضي الأمريكية.. لماذا يا ترى كانت المخابرات "تصدر" سجنائها إلى معاقل خارجية؟  الحجة كانت ولا تزال صورة من النفاق المفضوح، بعذر أن القوانين الأمريكية ترفض ممارسة التعذيب على أراضيها!! لكن، وبكل وقاحة، لا تستنكر أن يمارس التعذيب بالنيابة عنها مأجورين من الدول الأخرى.. ولا أقصد هنا ممارسات قد يقوم بها بعض المرتزقة، بل تعذيب ممنهج في سجون ومعاقل وأقبية تديرها مخابرات رسمية بعلم تلك الدول، بل وتتقاضى تلك المؤسسات أجراً سخياً مقابل خدماتها الدنيئة!!

وشاهدنا في الأيام السابقة تسريبات جمة لسوء معاملة الشباب والشابات في العراق على أيدي مرتزقة الحشود الشعبية الطائفية (المدعومة من الحرس الثوري لولاية الفقيه).. ويتم الضرب والركل والجلد والحرق والإعدامات الممنهجة ضد العشرات والمئات من الفارين من مناطق القتال في كافة أطراف العراق.. فيختفي العشرات في سجون سرية، وينتهي بهم الحال في مقابر جماعية بحجة أنهم من الإرهابيين.. حتى لم نعد نرى الفرق بين ممارسات هؤلاء وهؤلاء.. وقبل أشهر قليلة شاهدنا بعض جنود حرس الحدود الأتراك يكيلون الضرب والركل ضد عدد من الشباب السوريين ممن كانوا يحاولون دخول الأراضي التركية.. وتخرج علينا بين كل حين تسجيلات للأكراد وهم يعذبون ضحاياهم من الفارين أصلاً من بطش الدواعش من جهة وبطش ميليشيات الحشود الشعبية الطائفية من جهة.. كما شاهدنا في بداية الثورة السورية جنود النظام وهم يدوسون ويقفزون فوق ظهور الموقوفين من أبناء الشعب السوري المسالم، وهم مكبلين وملقيين على الأرض كالخراف المذبوحة.. فلولا هذه التسجيلات لما صدق الناس ما يجري هناك من تعذيب لاإنساني وقسوة لا مبرر لها وتنكيل بشع.. لو لم نكن قد شاهدنا عملية تعليق ذلك العراقي كالذبيحة وحرقه حياً فوق الإطارات المشتعلة لربما لم نكن سنصدق هذه الهمجية والحقد الطائفي لدي الميليشيات الطائفية ضد سنة العراق وسنة سوريا!!

هل يا ترى سمعتم بذاك الذي يدعونه "أبوعزرائيل"؟  أظن أن الإسم لوحده يكفي لتتوقعوا هكذا شخصية.. و"أبوعزرائيل" هذا هو قيادي في "كتائب الإمام علي" في العراق.. كان يفتخر بأفعاله وجرائمه ضد ضحاياه من الأسرى، سواء كانو من الدواعش أو لمجرد الشك بأنهم مع الدواعش.. ويظهر في العديد من التسجيلات وهو يحرق ضحاياه أو يشب النار في لحية جثة هامدة أو حتى يشق صدر رجل ويخرج قلبه بين يديه.. ومن حوله رفاقه يهللون فرحاً وتمجيداً.. وأعلنت أمانة "كتائب الإمام علي" في بيان إطلعت عليه (شبكة رووداو الإعلامية): "إنتشرَ في الآونةِ الأخيرة، على مواقع التواصل الإجتماعيّ، فيديو منسوب لأحد أفراد كتائب الإمام عليّ (عليه السلام)، وهو يقوم بعملٍ شنيع لا يمتُّ للإسلام والإنسانية ولا لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بصِلة.."، وأضاف البيان: "نحنُ إذ نستنكرُ هذا الفعلَ المشين، ونُعلنُ أمام الله (جلّ جلاله) براءتنا من هكذا أفعال، لا تُمثّلُ إلا ردّةَ فعل صاحبها فحسب، فإننا سنقومُ بمعاقبة القائمينَ بمثل هذه الأفعال عقاباً رادعاً".   ثم خرج علينا "أبوعزرائيل" وأسمه الحقيقي "أيوب فالح الربيعي" على نفس الموقع ناكراً : "الأمانة العامة لكتائب الإمام علي لم تتبرأ مني، وإنما أعلنت في البيان الصادر إستنكارها وشجبها لهذه الأعمال فقط."  (4/6/2017)

نحن هنا وبإختصار شديد نتحدث فقط عن النزر اليسير مما تم تصويره ونشره.. فلكم أن تتصوروا الكم الهائل مما لا يتم تصويره ولا يتم تسريبه.. لكم أن تتخيلوا مصير المئات من المعتقلين الذين يختفون بعد تصويرهم وهم يُساقون كالماشية مكبلي الأيدي ومعصوبي الأعين نحو مصائرهم المجهولة.. فما خفي لا بد هو أعظم مما نرى ونعلم.. والأغرب من كل هذا أن عمليات الخطف والتعذيب والقتل في منطقتنا العربية خلال السنوات القليلة الماضية كلها مرتبطة بمليشيات مدعومة من إيران.. والأحداث متشابهة وذات نمط واحد وضد مذهب واحد.. قد تتعدد مسميات الأحزاب الداعمة والممولة، لكنها كلها تتلقى الدعم اللوجيستي والمالي والمعنوي من الحرس الثوري الإيراني.. سواء في العراق أو سوريا أو اليمن أو لبنان.. وتبقى الضحية واحدة.. السنة بالدرجة الأولى، ومن بعدهم العرب بشكل عام، وإن كانوا من العرب الشيعة الأشراف.

لكن وبشكل عام، لا يجب أن ننسى أن عمليات التعذيب والتفجيرات والتصفيات البدنية لا تنحصر في الممارسات الشيعية ضد السنة.. فلبعض الدروز في سوريا مواقف داعمة للنظام السوري.. للأكراد مواقف عرقية ضد العرب والتركمان وذوي الأصول التركية.. للدواعش قصص وحشية ضد كل من كان يخالفهم في القرى والمدن التي إستولوا عليها في العراق والشام وحتى في ليبيا، بغض النظر عن مذاهبهم وأعراقهم وأديانهم.. وتشهد تلك المشاهد المصورة من إعلام داعش همجية ووحشية لا تكاد تكون حقيقية من هولها.. من نحر للرقاب، وإغراق تحت الماء، وحرق في الأقفاص، ورمي من فوق أسطح المباني العالية، وسحل وتقطيع للأوصال.. ناهيكم عن سبي النساء وإغتصاب الفتيات الصغيرات، وبيع البشر في أسواق النخاسة.. ولا يجب أن ننسى أن الدواعش والنصرة وكذلك النظام السوري عمدوا إلى إعدام حتى جنودهم ورجالهم كلما شعروا من ناحيتهم بالتردد في المشاركة في أعمالهم الوحشية ضد المواطنين الأبرياء.

أجل، قد يحاجج البعض بأن أعمال العنف هذه ليست حصراً على مناطقنا فقط.. نعم، فالقتل والحرق والرجم والمجازر لم تزل تتكرر في "بورما" من قبل البوذيين المتشددين ضد المسلمين.. في "الهند" من قبل الهندوس المتعصبين ضد المسلمين.. في "نيجيريا" من قبل بعض الجماعات المسلمة ضد غير المسلمين.. وكذلك شهد التاريخ القريب مذابح "راوندا" في 1994  بين جماعات الـ"هوتو" ضد الـ"توتسي".. وفي نفس الأثناء (1992-1995) شهد العالم مجازر "صرب البوسنة" ضد مسلمي "سراييفو".. وقبل أكثر من نصف قرن خرج العالم من الحرب العالمية الثانية التي خلفت أكثر من 50 مليون قتيل مدني وأكثر من 25 مليون عسكري.. وقد قضى في مجزرة القنبلة الذرية على "هيروشيما" اليابانية أكثر من 140 ألف شخص.. وأكثر من 80 ألفاً في قنبلة "ناغازاكي".

لا تزال البشرية تمارس وحشية أسوأ من كل وحوش الأرض.. لا يزال التعذيب يُمارس على نطاق واسع على مرأى ومسمع من العالم.. لا يزال بيننا بشر يستمتعون بممارسة شتى صنوف التنكيل والإضطهاد والجور والبغي والظلم والتعسف.. لا تزال إيران تمارس الإعدامات الظالمة ضد السنة والعرب والبلوش والأكراد والأذريين والأفغان وحتى من الشباب والشابات الفرس المحتجين، وكل من يثور ضدها وضد مظالمها من أبناء شعبها بغض النظر للعرق والدين، وبذريعة الدين.. ولا تزال إيران تنشر الخراب في دول الجوار بذريعة تصدير ثورتها وتضطهد الأقوام بذريعة الدفاع عن المضطهدين من الأقليات الشيعية في الدول ذات الغالبية السنية.. ولا تتوانى في إذكاء الحروب ومدها بالسلاح والعتاد والدعم المالي والمعنوي.. ولا يزال حزب الله ينادي بتحرير "بيت المقدس" عبر تدمير اليمن وسوريا وعبر التصريحات الكلامية الجوفاء.. ولا يزال الإخوان المسلمين في تركيا ومصر وقطر يخططون لنشر الدمار من أجل الفوز بالحكم والسيطرة.. ولا يزال "القدس" أسيراً لدى "بني صهيون" والعالم يتفرج.. ولا تزال صدى صيحة تلك الفلسطينية تتردد "واه معتصماه".. والعرب منشغلون ببعضهم البعض ولا من مستغيث !!!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم