قضايا

البحث عن ضحية (قضية ستيفن أفري)

في عالم الجريمة وقضايا المحاكم المتعلقة بالجرائم الغامضة والمستعصية الحل والإثبات الكثير من الحالات التي تنتهي بالحكم على متهمين في جرائم ربما لممحمد العباسي يرتكبوها.. فبعض القضايا تتحول إلى "رأي عام" وتقوم وسائل الإعلام بتضخيمها وتفخيمها وبث الرعب في المجتمع.. وتتكالب الضغوط على الدوائر الرسمية لوضع نهاية لها رغم عدم توافر القدر الكافي من الدلائل والأدلة.  ومن متابعتي الدائمة للبرامج الواقعية المتعلقة بالتحقيقات والمحاكمات الجنائية يتبين لنا كم هو سهل أحياناً وقوع ضحايا أبرياء في دائرة الشك حين ينشغل المحققين بالتركيز على إثبات التهم ضد متهمين معينين والانشغال التام بهم دون المزيد من التقصي والبحث، فقط للانتهاء من القضايا المعلقة واسترضاء المجتمع وإرضاء أهالي الضحايا.

لقد أنتجت شركة "Netflix" برنامجاً وثائقياً اشتهر صيته في أمريكا عن قضية شائكة وفيها الكثير من الشكوك والملابسات ضد متهم بقتل سيدة وحرق جثمانها، بعنوان "Making a Murderer" (صناعة قاتل).. وتدور أحداث القصة حول إتهام رجل معروف أصلاً بسوء أخلاقه ومشاكله يدعى " ستيفن أفري "(Steven Avery).. حيث كان "ستيفن" قد حكم عليه مرة سابقة في 1981 بتهمة السرقة وتم سجنه لعشرة أشهر.. وتم سجنه تارة أخرة لثمانية أشهر في 1982 بتهمة سوء معاملة حيوان حيث قام بتعذيب قطة وحرقها.. ومرة ثالثة، تم الحكم عليه بالسجن بتهمة حيازة أسلحة غير مرخصة وتعريض سلامة الغير للخطر حين هدد قريبة له بسلاح ناري.. وأخيراً تم الحكم عليه بالسجن 20 سنة في 1985 بتهمة الاعتداء الجنسي على سيدة تدعى "بيني بيمستين" كانت تمارس رياضة الجري على شاطئ بحيرة "ميتشيغن".. وأخيرا تمت تبرئته وإخلاء سبيله في 2004 بعذر أن التهمة ضده لم تكن صحيحة نتيجة لعدم توافق حمضه النووي مع آثار تلك الجريمة.

و تبين الكثير من الوثائق والشكاوى مدى سوء أخلاق "ستيفن أفري" وميوله للعنف وتهديده بقتل زوجته التي طلقته أثناء وجوده بالسجن.. وقد شهد ضده بعض أقرانه المسجونين معه بأنه طالما كرر تهديداته بقتلها هي وأهلها، وبعض تلك التهديدات موثقة عبر رسائل غاضبة كتبها لها من داخل السجن.. وشهد بعضهم ضده لاحقاً بأنه كثيراً ما كان يكرر بأنه سيقتلها، بل وكان يتبجح بأنه ينوي خطف واغتصاب النساء وحرق جثثهن للتخلص من آثار جرائمه.. وأغلب هذه الحقائق الدامغة غفلت عن ذكرها حلقات برنامج "Netflix" عما جرى في قضية مقتل المصورة "تيريسا هالباك" في 2005 .

بل ركز البرنامج في كافة حلقاته بالتلميح إلى أنه بعد أن تم الإخلاء عنه في 2004، ارتكب "ستيفن أفري" خطيئة قاتلة، حيث تجرأ على المطالبة بتعويض كرد اعتبار عن سنوات سجنه ظلماً وطالب بتعويضه مبلغ 36 مليون دولار مقابل الأضرار المعنوية والمادية ولمكوثه بالسجن لحوالي 18 سنة !!  وربما بسبب هذه المطالبة الجريئة من رجل ذو سوابق ومعروف بشر أفعاله وسوء أخلاقه وعنفه، جعلت بعض الجهات تشك بأن الشرطة ربما تعمدت توريطه في قضية مقتل "تيريسا".

القضية تدور حول اختفاء الشابة "تيريسا هالباك" التي كانت تعمل مصورة في مجال الإعلانات المتعلقة ببيع السيارات المستعملة.. وكانت "تيرسا" قد زارت موقع سكن وعمل "ستيفن أفري" يوم اختفائها لتصوير سيارة معروضة للبيع..  ووجدت الشرطة سيارة "تيريسا" بالفعل في موقع عمل "ستيفن" الذي كان يعمل في مجال السيارات القديمة والهالكة (سكراب) وبيع أجزاء السيارات المستعملة في أرض تمتلكها عائلة "أفري" تعج بمئات السيارات المستهلكة على مساحة واسعة من أرضهم المخصصة لتلك المهنة..  وباختصار، دار الشك منذ الوهلة الأولى حول "ستيفن أفري" وبمساعدة أبن أخته القاصر "بريندون ديسي" بخطف واحتجاز واغتصاب الضحية في منزل "ستيفن" الواقع بنفس الموقع ومن ثم بقتلهما للضحية وحرقهما جثتها في حفرة مخصصة لحرق النفايات بنفس الموقع.

و لجئت النيابة العامة لأقوال "بريندون ديسي" القاصر بعد عملية استجواب مطولة ويحوم حولها شكوك بممارسة الكثير من الضغط النفسي والتوجيه المتعمد لاستدراج معلومات محددة عبر التلقين والتهديد المبطن.. وتشوب عملية استجواب "بريندون" شائبة قانونية حول سلامة عملية التحقيق مع قاصر من دون وجود أحد أفراد أسرته البالغين ولعدم وجود تمثيل قانوني معه أثناء الاستجواب.. وكانت الأقوال المستخرجة من التحقيق مع "بريندون" هي من أهم عوامل إلصاق التهمة بـ"ستيفن أفري" في هذه القضية بشكل أساسي، وتم الحكم عليه في أواخر 2005 بالسجن مدى الحياة دون أي حق للمطالبة بالخروج المبكر، وتم الحكم على ابن أخته أيضاً بالسجن المؤبد.

فهل كانت القضية مفبركة من الأساس للانتقام من المتهم "ستيفن أفري" لتجرئه المطالبة بتعويض ضخم بعد الحكم ببراءته من التهم القديمة، وأن الشرطة المحلية ورطته في هذه القضية؟  هل كان "ستيفن أفري" ضحية؟  هذا بالفعل ما ركز عليه برنامج "Netflix" وأثار الرأي العام حول هذا الموضوع.. وأترك الحكم على الموضوع لمن يشاء، لكن بشرط التفرغ قليلاً لمتابعة تلك الحلقات الوثائقية المسجلة تحت عنوان "Making a Murderer".  ويجب أن أنذركم منذ الآن بضرورة متابعة جميع الحلقات ومن ثم متابعة كافة البرامج الأخرى حول الموضوع وكافة الآراء والتحليلات ووجهات النظر المختلفة لبلوغ صورة مكتملة عن حيثيات وملابسات هذه القضية الساخنة.. والغريب أن الناس بشكل عام وحتى الجهات الرسمية انشغلت بـ "ستيفن أفري" ونست موضوع الضحية الشابة البريئة "تيريسا هالباك" !!

من وجهة نظري الشخصية، أرى أن احتمالية تورط "ستيفن أفري" ربما تشوبها بعض الشوائب، غير أن آل "أفري" عائلة فاسدة بشكل عام ولهم تاريخ طويل من المشاكل والدعاوى القانونية.. فحتى أخويه "تشارلز أفري" و"إيرل أفري" لهما تاريخ أسود وتهم بالتحرش بالنساء.  و"ستيفن" نفسه متهم بالعنف وسوء معاملة زوجته السابقة وصديقته اللاحقة التي عانت واشتكت مراراً من تصرفاته تجاهها.. ويقال أن حتى ابن أخته "بريندون ديسي" المتهم معه في الجريمة أشتكى من تحرش "ستيفن" به جنسياً عدة مرات.. لذا يبدو أن الشخصية الغير سوية التي أشتهر بها "ستيفن أفري" تجعل منه المرشح المناسب للتهم الموجهة له.. فمن دأب على الشر يلقى عقابه ولو بعد حين.. فالله يمهل ولا يهمل.

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم