قضايا

في حاجة الثقافة الإسلامية الراهنة إلى مفهوم جديد للحرية

الحسين اخدوش"المهم في قضية الحرية هو أن تبقى دائما موضوع نقاش، بوصفها نابعة عن ضرورة حياتية، لا بوصفها تساؤلا أكاديميا"

عبد الله العروي

تظهر الحاجة إلى الحريات الفردية والدينية والسياسية والمدنية في الثقافة الإسلامية المعاصرة أكثر من ملحّة اليوم، خاصّة في ظلّ غلبة التقليد والجمود، وعودة فكر التشدّد والتطرّف، فضلا عن سيادة الاستلاب الثقافي بمختلف أشكاله. لكن، كيف يمكن لثقافة أسرفت نهج طرق الإتباع والمحاباة والتملق والتزلف والتقليد الأعمى أن تأخذ بأسباب التحرّر وهي لم تبلور بعد مفهوما واضحا للحرية ؟ أو قل؛ كيف يمكن بلورة فكر تحرّري جديد قادر على انتشال الإنسان المسلم والعربي من أشكال السلب والاستلاب السابقة؟

 أسئلة كثيرة يمكننا طرحها ونحن نعاين حجم المفارقات العجيبة والشاذة بين ما يفترض أن تكون عليه ثقافتنا الإسلامية، وحجم التراجع عن معقولية مطالب الحراك الشعبي الواقع في معظم هذه الدول. فنظرة واحدة إلى تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية حول مؤشرات احترام الحقوق الأساسية للإنسان، وكذا مختلف التقارير التي ترصد العدالة والمساواة في هذه البلدان، تكفي للجزم بأن واقعنا الثقافي الإسلامي لا يشرّف ولن يشرّف معظم المجتمعات الإسلامية، رغم كل المؤهلات الثورية الشبابية المختلفة التي تحرّكت مؤخرا والتي يزخر بها الواقع الاجتماعي والثقافي لهذه المجتمعات. فنظرا لبطش "وحدانية السلّطة" - بتعبير الفيلسوف ابن رشد - المستحكم في ذهنيتنا الثقافية، ونظرا لغياب الحكامة والتدبير التشاركي العقلاني الديمقراطي الحقيقي، ونتيجة لاستشراء الفساد بكل أنواعه وأبعاده في كلّ القطاعات التي يعوّل عليها للانعتاق من براثن هذا التخلف، كالقضاء والتعليم؛ نتيجة لكلّ ذلك، أصبحنا اليوم نفوّت الفرص التاريخية المتاحة لنا من جديد على مسرح التاريخ الإنساني العام.

ورغم الزخم الذي جاء به الربيع الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وما رافقه من ظهور الحركات الاحتجاجية المنادية بالإصلاح والعدالة والحرية، إلاّ أنّ الآمال المعقودة على التحرير والتحرّر من الاستبداد باءت في معظمها بالفشل؛ حيث استطاعت قوى الفساد والريع، المتحكمة في مفاصيل دول هذه المناطق وفي اقتصادياتها الهشة أصلا، أن تعيد زمان التغيير إلى ما قبل الاحتجاجات الشعبية، مستثمرة في ذلك براغماتية قوى المحافظة التي تمثلها تيارات الإسلام السياسي الساعية إلى السلطة بنهم قل نظيره، إضافة إلى تخلف ذهنية المواطن العربي المستسلم بشكل عام وتلقائي للسلطوية كأنها قدره المحتوم.

إن الانعتاق من هذه الوضعية التاريخية المأزومة التي أوصلتنا إليها رجعية التيارات المحافظة من جهة، وكذا استحكام قوى "وحدانية السلطة" المتحالفة مع الرأسمالية النيوليبيرالية الجديدة، الساعية للحفاظ على مكاسبها السلطوية، إضافة إلى فساد وترهّل النخب السياسية المغشوشة التي تمثلها الأحزاب الليبرالية التقليدية، والتيارات اليسارية المتحالفة مع هذه القوى؛ كل ذلك بقي رهين استحصال شعوب هذه الدول لوعيها بأهمية تحرّرها من رٍبْقَة الطغيان والتقليد، إضافة إلى أهمية اكتساب شباب الربيع العربي للمناعة الفكرية والسياسية الكافية والضرورية ضد مختلف أنواع الاستلابات الطوباوية التي قد تصيب الفعاليات الثورية بالعمى السياسي. ولعلّ من بين تلك الآفات الحائلة دون تحقيق مكسب الحرية والتحرّر الثقافي والسياسي، نذكر ما يلي:

ـ عدم امتلاك شعوب الثقافة الإسلامية للقدرة والمناعة الفكرية ضد الاستقطاب الأيديولوجي الزائف الذي تمارسه قوى التقليد الفاعلة في تاريخنا الممتد، خاصّة القوى الدينية والأبوية والسلطانية. ولعلّ من شأن الوعي بذلك، أن يتحقق النهوض بإتمام نزوع التحرّر المتمثل في تحقيق: المساواة والعدالة والديمقراطية التي تنبني على التداول السلمي للسلطة، وكذا احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.

ـ عدم امتلاك هذه الشعوب للقدرة والمناعة ضد أشكال الهيمنة والاستحواذ التي يفرضها النزوع الأيديولوجي المتعصب لإقصاء الخصوم، والذي سرعان ما يتحول إلى نزاعات أيديولوجية وفئوية مصلحية أو حتى قبلية وطائفية خطيرة، قد تهدد النسيج الوطني لبلد معين فتشتّته وتمزّقه.

ـ غياب الوعي الكافي ضد الوهم الثوري أو المشروعية الثورية المخادعة، حيث يظن البعض أن حراكهم الفئوي وحده من يملك الحق في تقرير المكاسب التحرّرية، ومن ثم سيادة وهم التكلّم باسم شعب بكامله دونما الإنصات للأطراف الأخرى المخالفة.

إذا؛ يعتبر نقصان الوعي بالحرية لدى فئات عريضة من شعوبنا العربية سببا وجيها في انحصار أفق الثورات السياسية التي وقعت مؤخرا رغم زخمها الشعبي الكبير. ولعلّ ما يفسّر هذا الرأي هو غياب ثقافة الحرية لأجل التحرّر الفردي والجماعي من أشكال الاستلاب التي يعجّ بها الواقع السياسي والاجتماعي العربي، بدءً بالطغيان والاستبداد السياسي وانتهاءً باستشراء الأبوية والقدرية والسحر وثقافة التواكل والكسل. لذا فإنّ الاهتمام بتحرير وبناء الإنسان العربي يعتبر أولى الأولويات، كما نبّه إلى ذلك سابقا الأستاذ برهان غليون في ثمانينيات القرن الماضي، حين صرّح في "بيان من أجل الديمقراطية" أن: "العنصر الأساسي في تكوين الأمة (يقصد الشعوب العربية) ليس الثقافة ولا الاقتصاد المشترك، ولا اللغة ولا التاريخ والخصائص النفسية ولا الجغرافيا البشرية أو السياسية، ولكن أوّلاً الشعب".

لكن التساؤل المحرج الذي قد نطرحه على مثل هذا المنظور التفاؤلي هو كالاتي: كيف يمكنك أن تعوّل على شعب مستلب مقهور، ومجرد من الوعي اللازم بشروط التحرّر الضرورية لإنجاح أية ثورة سياسية واجتماعية واقتصادية؟ لا نريد أن نتشاءم بخصوص هذا الإحراج الواقعي، لكن إذا ما رجعنا إلى بعض المحاولات النقدية لأحوال الشعوب العربية، وتحديدا لمحاولة المفكر النهضوي "عبد الرحمان الكواكبي" الذي كان يقول بأنّ "الأمة التي لا يشعر كلّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية" ؛ فإننا سرعان ما نصطدم بواقع هذه الشعوب الكارثي الذي يعرف انتشارا مهولا للطغيان والتقليد والأمية التي تجلب الذّلة والمسكنة. فهل سيكون مثل هذا الشعب بقادر على تحرير نفسه من كلّ تلك الآفات، أم أنّه سيبقى شعبا سافل الطباع، لا يسأل عن الحرية ولا يلتمس العدالة والاستقلالية، ولا يعطي للنظام مزية، ولا ترى له في الحياة غير التابعية للغالب عليه؟

يجيب الكواكبي نفسه على هذا الإحراج بكثير من القسوة في حق هذا الشعب الذي أهانه الذل والطغيان، فاستحلى العبودية قائلا: "قد ينتقم مثل هذا الشعب على المستبد نادرا ولكن طلبا للانتقام من شخصه لا طلبا للخلاص من الاستبداد، فلا يستفيد شيئا وإنّما يستبدل مرضا بمرض كمغص بصداع" . ومثل هذه الأمة يضيف صاحبنا "قد تطيح بمستبد [لكن] بسوق مستبد آخر تتوسم فيه أنّه أقوى شوكة من المستبد الأوّل، فإذا نجحت لا يغسل هذا السائق يديه إلاّ بماء الاستبداد، فلا تستفيد أيضا شيئا، إنّما تستبدل مرضا مزمنا بمرض حدٍّ؛ وربما تنال الحرية عفوا، فكذلك لا تستفيد منها شيئا لأنّها لا تعرف طعمها فلا تهتم بحفظها، فلا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى، وهي إلى استبداد مشوّش أشد وطأة كالمريض إذا انتكس."

صحيح أن هذا الوصف يكاد ينطبق على شعوبنا العربية في أوضاعها الحالية، لكن هل قدّر لهذه الأخيرة أن تبقى قاصرة غير حرّة أبد الآبدين؟ بالطبع ليس الأمر كذلك، فمادام أن هناك من يتوق للحرية الشاملة في هذه المجتمعات، فإنّه لا محالة سيأتي اليوم الذي سيتحرّر فيه الإنسان العربي من أوهام نفسه أولاً، ومن المتسلطين عليه من الحكام والتقاليد والفقهاء ومن كلّ الاستلابات الأخرى. إنّ مشكلة التحرّرية العربية في شكلها الكلاسيكي (تحرّرية رواد الإصلاح الأول للقرن الماضي) أنّها تقع في اختزال الحرية في البرامج الحزبية السياسية والاقتصادية، فلا تتعدى ذلك إلى تجذير مسألة الحرية إلى ما هو أعمق من كل ذلك، مثل تأسيس نظرية مفهومية للحرية في ثقافتنا المختلفة.

من هذا المنطلق، يمكننا أن نعتبر مجمل إخفاقات التيارات التحرّرية الإسلامية، والعربية منها بالخصوص، الناسخة للبرامج والوصفات الأجنبية بمثابة فشل مفهومي وفكري في المقام الأول. ذلك أنّه لا يكفي استعارة الوصفة التحرّرية من النماذج الغربية وفرضها على الواقع الثقافي العربي المختلف تاريخيا واجتماعيا لانجاز تغيير حضاري حقيقي في هذه الشعوب. لكن، على خلاف ذلك نحتاج في ظل ثقافتنا المختلفة إلى بلورة فلسفة أخرى للحرية أساسها الاعتبارات الروحية للإسلام المنفتحة على العالم وعلى التاريخ الكوني دون تعصب للذات أو تقيدات فقهية وأصولية متجاوزة.

 

الحسين أخدوش

 

في المثقف اليوم