قضايا

الرؤية العقدية في فهم النحو العربي

نحسب ان العلماء في الحقول المعرفيّة المختلفة، يمارسون عملية التفكير بطريقة علميّة شفافة، ومحايدة، بعيدا عن اية مسبقّات معرفية، او مؤثرات عقديّة، او خلفيات كلاميّة خصوصا في العلوم الانسانيّة، وعلى وجه الخصوص في المعرفة الدينيّة .

واذا اخذنا المعرفة اللغويّة، وعلم النحو على وجه الخصوص . قد يتبادر الى الاذهان، ان عالم النحو يمارس علما محايدا، يصل فيه الى النتائج بطريقة محايدة . وقد نتصور ان المفسر، يفسر النص القرانّي بعيدا عن خلفياته العقدية، وارائه الكلاميّة.

النحاة والمفسرون وموقفهم من (لن)

ولنأخذ انموذجا في تفسير الاية الثالثة والاربعين بعد المئة من سورة الاعراف، في تفسير قوله تعالى مخاطبا كليمه موسى عليه السلام: (لن تراني)، يقول ابن الجورزي في زاد المسير (3/256): (تعلق بهذا (يقصد نفي الرؤية) نفاة الرؤية، وقالوا (لن) لنفي الابد، وذلك غلط؛ لانها قد وردت وليس المراد بها الابد في قوله تعالى: (ولن يتمنوه ابدا بما قدمت ايديهم) البقرة:95، ثمّ اخبر عنهم بتمنيه في النار بقوله تعالى:

(قالوا يامالك ليقض علينا ربك) الزخرف: الاية 77، ولان ابن عباس قال في تفسيرها: (لن تراني في الدنيا) . وهذا الاستدلال بالايتيّن لاينفي كون (لن) موضوعة للتابيد حقيقة، وقد تخرج عن التابيد مجازا، كما في الاية: (قالوا يامالك ليقض علينا ربك)

هنا ابن الجوزي يمارس تفسيره منطلقا من عقيدته الاشعرية التي تقول برؤية الله تعالى في الاخرة، استنادا الى قوله تعالى: (وجوه يؤمئذ ناضرة الى ربها ناظرة) القيامة: الايات: (2223) .

والنحوي الاندلسي ابن مالك، يرى في لن نفس الرأي، اي انها لاتفيد تأكيد النفي ولاتأبيده، يقول ابن مالك في الكافيّة:

ومن يرى النفي بلن مؤبدا فقوله اردد وسواه فاعضدا، وابن مالك هنا يسقط عقيدته الاشعرية في رؤية الله يوم القيامة على فهمه للحرف (لن)، كما فعل ابن الجوزي في تفسيره . والزمخشري في كشافه انتصر لرؤيتة العقدية الاعتزاليّة في نفي رؤية الله يوم القيامة، وفسر لن في الاية (لن تراني) بانها تفيد التابيد .

واستند الزمخشري في دعم رؤيته العقديّة الى احاديث كثيرة، منها، حديث (لن تراني في الدنيا والاخرة)، الذي نفاه السلفيّة بشدة، وقالوا بعدم صحته . نحن هنا امام محدّث ينفي الحديث؛ لانه لاينسجم مع رؤيته العقدية، وقد شنّ مفسرو الاشاعرة حملة شعواء على التفسير الذي اورده الزمخشري.

فالنحاة من امثال ابن مالك رد القول بالتأبيد، وكذلك فعل ابن هشام، يقول ابن هشام: (لن حرف نصب ونفي واستقبال، ولاتفيد لن توكيد النفي خلافا للزمخشري في كشافه، ولاتابيده خلافا له في (انموذجه)، وكلاهما دعوى بلا دليل) "مغني اللبيب،ج1، ص 373374".، وهذا الراي في نفي التابيد والتوكيد، هو رأي الاشموني المتوفى سنة 905 هجرية .

ومن النحاة الذي نفوا القول بافادة لن للتابيد المرادي حيث يقول: (لن، حرف نفي، ينصب الفعل المضارع، ويخلّصه للاستقبال. ولايلزم ان يكون نفيها مؤبدا خلافا للزمخشري، الذي ذكر ذلك في انموذجه) . (شرح الانموذج، الاردبيلي، ص 190).

المرادي هنا ينسب القول للزمخشري وكانه ينفرد به، ولكن راي الزمخشري هذا قال به الخليل بن احمد الفراهيدي، الذي قال بان النفي بلن هو نفي مؤكد، بل هو اوكد من النفي بلا، يقول الخليل في كتاب العين:

(وامّا لن فهي اوكد، تقول: لن يكرمك زيد، معناه: كانه يطمع في اكرامه، فنفيت عنه، ووكدت النفي بلن، فكان اوكد من لا). (العين، ج1، ص 193) .

لن تفيد نفي التوكيد والتابيد

لايفترض بعالم النحو، اوالباحث في النحو، ان ينطلق من رؤاه العقائدية المسبقة، ويسقطها على فهمه لمسائل النحو؛ لان هذا البحث يبتعد عن الطريقة العلميّة في البحث التي يفترض ان ينطلق فيها البحث بلا مسبقات ذهنية، او منطلقات عقائدية . ان هذه الطريقة في البحث، كمن يضع العربة قبل الحصان .

على الباحث ان ينطلق من كلام العرب في استخدامهم لحرف لن، ويتتبع اشعار العرب، ونثر العرب، والاستخدام القراني لهذا الحرف، حتى يصل الى نتيجة موضوعية تخدم العلم .

الاستخدام القراني للن

القران الكريم استخدم لن في معنى التأبيد، فقد جاء في كتاب الله تعالى الايات التالية على سبيل المثال لا الحصر:

(ياايّها الناس ضرب مثل فاستمعوا له ان الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ..) . الحج: الاية 73 .

(واذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) . البقرة: الاية: 55 .

(وانا لن ندخلها حتى يخرجوا منها) . المائدة: الاية: 22 .

(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) . ال عمران: الاية: 92 .

(فان لم تفعلوا ولن تفعلوا) . البقرة: الاية: 23 .

الاستخدام النبوي للن

الايات السابقة تم فيها استخدام لن لنفي التابيد وتوكيد النفي، والرسول استخدم ايضا لن بهذا المعنى، واكتفي بذكر حديث الثقلين المشهور:

(اني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والارض، وعترتي اهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) .

استخدم النبي (ص) لن هنا بمعنى لنفي التأبيد .

استخدام لن للتابيد في الشعر العربي

واستخدم الشعراء العرب (لن) في افادة معني تابيد النفي وتوكيده . جاء في شعر حاتم الطائي:

فنفسك اكرمها فانك ان تهن   عليك فلن تلفي لك الدهر مكرما

وجاء في قول الاعشى:

ومضى لحاجته فاصبح حبلها    خلقا وكان يظن ان لن ينكدا

ماعرضناه من الامثلة يؤكذ ان لن حقيقة موضوعة للتابيد، وقد تخرج عن التابيد الى اغراض اخرى مجازا .كما يجدر الاشارة الى ان البحث النحوي ينبغي ان ينطلق وهدفه البحث عن الحقيقة، لا انتصارا لمدرسة عقدية، واسقاط اخرى .

 

زعيم الخيرالله

 

في المثقف اليوم