قضايا

لمحات من تاريخ الحضارات البشرية الأولى

محمد العباسيعندما نتكلم عن الإنسان الأول والأقدم، إنما نعتمد على ما تم اكتشافه حتى اليوم من بقايا هياكل وجماجم تشبه هياكلنا نحن البشر.. ومن ثم نحكم عبر اختبارات بيولوجية عمر هذه البقايا أو التربة أو الرواسب المحيطة بها، وعليها نقرر الفترة الزمنية السحيقة التي عاشها هذا الإنسان.. وأحيانا أخرى نعتمد في قياس زمن التواجد البشري عبر ما يتم التنقيب عنه من أدوات ومعدات وبقايا بناء منظم لنحكم أنها تعود لحضارة بشرية، ربما كانت متطورة.. وعليها نبني تصورات لحياة الذين عاشوها ومدى تطورهم الذهني والتقني والفني.. وفي بعض الأحيان نجد من الآثار العجيبة التي تبدو أكثر تطورا بمراحل عن إمكانيات الإنسان القديم، لدرجة أن البعض لا يستبعد كونها من إنتاج مخلوقات أكثر ذكاءً وقوة، وعادة يتم تأويلها كدلالات على وجود كائنات متطورة من الفضاء الخارجي.. مثلما قيل في شأن بناء الأهرامات في أرض مصر، ومدى التشابه في هندستها مع أهرامات حضارات في أمريكا الجنوبية وبعض أصقاع آسيا.

وعبر الاكتشافات الأثرية والآثار التي خلفتها سواء كانت بقايا بشرية أو حيوانية أو "لافقارية"، وحتى تلك الـ"ميكروسكوبية"، قررنا تقسيم عصور التاريخ إلى حقب متوالية.. مثل العصر الطباشيري والحجري والحديدي، وهكذا.  بينما العصر الطباشيري ربما يكون الأقدم حسب علمنا، والذي يسمى أيضاً بالعصر "الجوارسي"، أي الفترة التي عاشت فيها الديناصورات، يعتبر حسب الآثار بأنها سبقت التواجد البشري، نجد أن العصر الحجري يدل على التواجد البشري.. حيث ترك لنا الإنسان القديم بقايا أواني وأدوات ومصنوعات من الحجر.. لذا نعتبر المصنوعات المنحوتة من الحجر دليل على تطور القدرات الذهنية من جهة وتغيّر الأنماط الحياتية.. من همجية حيوانية إلى حياة تتسم بالذكاء وتفعيل العقل والإبداع البناء وتطويع المواد المتوفرة إلى أدوات يتم بها تطويع وتسهيل الأمور الحياتية.. ومنها نستخلص نوع من الاستقرار الحضري بعد عصور من الحياة البدائية والتنقل في مجموعات صغيرة بحثاً عن الطرائد ومصادر المياه، كما تتنقل كافة قطعان الحيوانات بحثاً عن الكلأ !!

ويقسم العلماء العصر الحجري إلى مراحل، قديمة ومتوسطة وحديثة وعلوية وسفلية، وغيرها من مسميات تعكس مدى التطور في تطويع الأحجار وتنوع استخداماتها عبر التاريخ.. العصر الحجري هو فترة من الزمان ما قبل التاريخ والتي استعمل فيها الإنسان عامة الحجارة لصنع الأدوات.  حيث صنع الأدوات من أنواع عديدة من الحجارة بتقطيعها أو نحتها لتستعمل كأدوات للتقطيع وكأسلحة ولعدة مآرب أخرى.  ويمكن اختصار تقسيم العصر الحجري إلى مرحلتين رئيسيتين:

العصر الحجري الأول (القديم) : بدأ مع ظهور الإنسان على سطح الأرض، واستمر حتى العام10000  قبل الميلاد، وكان الإنسان في هذا العصر يعتمد على التنقل من مكان لآخر، والعيش على.الصيد وكان يصنع أدواته من العظام والحجارة.  وفي هذا العصر تعلم البشر إشعال النار وربما حدث ذلك بالصدفة بعد ضرب البرق بعض الأحراش واشتعال النار في بعض الأغصان الجافة.

العصر الحجري الثاني (الحديث):  ويبدأ من العام 10000 حتى العام 4000 قبل الميلاد، وفيه استقر الإنسان حيث دجّن الحيوانات وعمل في الزراعة .. وقد استعمل الإنسان أدوات من الحجر المصقول.. وقد ظهرت في خلال هذه الفترة بداية صناعات عمل الخزف والنجارة والنسيج، وظهرت كذلك الحيوانات المستأنسة.

ثم ظهرت بعض أنواع المعادن بعد العام 4000 قبل الميلاد، حيث تعرف الإنسان على المعادن وطرق صهرها.. ومنها النحاس والبرونز، ومن ثم الحديد، وهي المتعارف عليها بالعصر الحديدي.. وتطلق تسمية العصر الحديدي على المرحلة التي بات فيها استعمال الحديد في صناعة الأدوات المنزلية والزراعية وأدوات البناء والصيد والحرب.. حيث ظهرت المطارق والسيوف والخناجر والفؤوس ورؤوس الحراب والسهام.. وكانت هذه الصناعة دليلاً على مدى تطور الحاجات البشرية للاستقرار والديمومة في مجتمعات مستقرة محمية.. وعادة عند الحديث عن هذه العصور المتعاقبة يقصد بها الباحثون تلك الفترات من عمر الإنسان التي سبقت ظهور الكتابة والتدوين، رغم وجود أنواع أخرى من أساليب التعبير عبر النقوش والرسوم على جدران الكهوف وعلى بعض الصخور المنحوتة، تلك التي ربما شيّدت منها بعض المجتمعات الأولى المعابد.

يتكلم الكثير من علماء "الأنثربولوجيا" عن الإنسان الأول أو الشبيه بالإنسان، وهو فصيل عاقل سبق البشرية التي نحن كلنا منها.. وتختلط الأوراق هنا بين مفهوم خلق الإنسان (كما هو متعارف عليه عبر الأديان السماوية) وبين التواجد البشري على كوكب الأرض بشكل عام.. وتتداخل معضلات تقييم عمر البشرية بين ما نؤمن به عقائدياً وعلمياً.. وربما يكون أحدث اكتشاف لبقايا أقدم إنسان من الصنف العاقل، وهو أقدم أثر للجنس البشري حتى الآن،  في موقع جبل "إيغود" بمحافظة اليوسفية وسط المملكة المغربية.  و"الإنسان العاقل الأول" هو نوع منقرض شبيه بالإنسان، عاش في إفريقيا قديما، ويقصد به الإنسان العاقل البكر أو أوّل إنسان عاقل، ويرجح أن هذا النوع هو السلف المباشر للإنسان العاقل الذي تطور بعد ذلك.. وقد تم تحديد عمر هذا الإنسان بحوالي  300 ألف سنة (و هذا الاكتشاف يتعارض مع كافة النظريات الأولى لعمر البشرية).. وبالتالي فإن هذه العظام تعد أقدم بقايا لفصيلة الإنسان العاقل المكتشفة إلى يومنا هذا، حيث يفوق عمرها عمر أقدم إنسان عاقل تم اكتشافه قبل ذلك بحوالي مائة ألف سنة في شرق قارة أفريقيا.

فحسب موقع (عربي (21 : "... الفريق العلمي، الذي توصل إلى هذا الاكتشاف، تحت إشراف كل من الباحث المغربي، عبد الواحد بن نصر، عن المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث التابع لوزارة الثقافة والاتصال المغربية، والباحث الألماني، جان جاك هوبلين، عن معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا المتطورة في ألمانيا، بحسب البيان المغربي.. وبحسب دراستين نشرتهما مجلة "الطبيعة" العلمية الألمانية، فقد كان يعتقد، قبل اكتشاف المغرب، أن مهد الإنسانية في شرقي قارة إفريقيا، وظهور "الإنسان العاقل" يعود إلى نحو 200 ألف عام.. غير أن تحليلات أجراها فريق دولي متخصص في الأنثروبولوجيا، بقيادة عالم الحفريات الفرنسي، جان جاك هوبلين، على الحفريات التي عثر عليها في جبل إيغود بالمغرب، أظهرت أن الإنسان المعاصر سكن - بلا شك- جزءا كبيرا من إفريقيا منذ 300 ألف عام.. وبذلك، يكون هذا الاكتشاف هو أقدم أثر للجنس البشري حتى الآن."

والأغرب هو اكتشاف بقايا ما هو متعارف عليه بين علماء "الأنثروبولوجيا" بالإنسان الأول، ويسميه البعض "شبيه الإنسان" أو شبيه أبينا "آدم" عليه السلام.  وهنا تكمن معضلة عقائدية تختلف فيها التفسيرات وهي مثار كثير من الجدل بين المفسرين.. فهناك أكثر من 100 كهف في منطقة الأكراد شمال سوريا، يعود تاريخها إلى عصر ما قبل الإنسانية، أي قبل نزول آدم عليه السلام من السماء.. ويقدر الجيولوجيون تاريخ هذه الكهوف بأكثر من 500 مليون سنة.. ويعود الفضل في هذه الاكتشافات لبعثة يابانية جاءت إلى تلك المنطقة وحددت تاريخ المنطقة، وتوصل البروفيسور "هيدو فوجي" رئيس هذه البعثة ورئيس بعثة التنقيبات في الكهوف إلى حقائق لم يتوصل إليها أي أحد من قبل (موقع  Traidnt).

وتبيّن تلك الحفريات وعلم الآثار أنه كان هنالك مخلوقاً قبل سيدنا "آدم"، شبيها جداً بآدم وذريته، لكن هناك فاصل زمني بينهما مقدراً بين عشرة آلاف إلى عشرين ألف سنة، اختفت فيها آثار كل منهما، وهي الفترة بين هلاك الأول واستخلاف الثاني.. وقد وصف العلماء الدارسون للآثار التي تركها "شبيه آدم" في تلك الكهوف بأن هذا المخلوق كان يعيش بطريقة همجية، يكثر فيها القتل وسفك الدماء، من كثرة العظام حول المغارات والكهوف التي كان يأوي إليها.. وهذا الوصف يلامس شرح القرآن في قول الملائكة عند خلق آدم : " قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ".. مما يبين أن شبيه آدم لم يكن إنسانًا عاقلا كآدم وذريته، حيث أشار إلى ذلك قول الملائكة: " وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ".. حيث يدل ذلك على أن هذا المخلوق لم يكن يعرف حمد الله ولا تقديسه، وكذلك ربما لم يعرف النطق والكلام، ولا تسمية المسميات بأسمائها.. وهذا ما بيّنه قوله تعالى عندما علّم آدم الأسماء، ليظهر فضل "آدم" (عليه السلام) على من سبقه، وحتى على الملائكة أنفسهم، الذين يقفون عند تكاليف الله التي أمرهم بها ولا يتعدونها.

الحديث في هذا الموضوع يطول ويتشعب، وقد يفتح أبواب خلاف وتضارب في الآراء.. لكن الثابت من الناحية العلمية في شأن هذه الآثار التي تركتها هذه المخلوقات وبقايا هياكلها العظمية، تبيّن أنهم كانوا على شكل الإنسان، ولا يختلفون عنه إلا ببروز عظام الحاجبين وتقدمهما قليلا، وتقدم الفك السفلي، مما جعل العلماء الدارسين في هذا الباب يسمون هذا المخلوق بالإنسان الأول.. ويذهب البعض إلى تسمية هذا الكائن أو المخلوق بشبيه آدم.. لكن من الواضح أنه لا علاقة لهذه المخلوقات بآدم، إلا ربما في هيئة الأجساد فقط.. وآثار هذه المخلوقات هي التي وجدها العلماء في الكهوف السورية، وطابقوا بينها وبين ما يعرف بـ"الإنسان الأول" الذي وجده "داروين" في أوروبا وبنى عليه الغرب الجزء المتعلق بتطور الإنسان من نظريته الشاملة المعروفة باسم "نظرية التطور".. وجدير بالذكر أن بقايا هذه المخلوقات منتشرة في جنوب أوروبا، وفي منطقة الشرق الأوسط، وأشهر الآثار تلك التي عثر عليها لهذا المخلوق وجدت في هذه الكهوف المتبقية في شمال سوريا.

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم