قضايا

مفاتيح الأمان في فضاء الإنترنت

محمد العباسيالمفتاح والمحفظة.. شيئان مقلقان عند ضياعهما.. المحفظة لما قد تحتويها من النقود والبطاقات الشخصية والبنكية.. ولضياع البطاقات إجراءات مملة وتكاليف.. أما المفتاح.. فله شأن آخر.. فللمفتاح أهمية خاصة تتعلق بالأمان والسرية والإحتماء.. بالذات مفتاح باب الدار.. رغم أنه في الماضي كانت أبواب الدور لا تقفل.. وربما لم تكن ذات أقفال.. ولكن بات المفتاح اليوم أمر ضروري في كل جيب.. الكل يقفل باب منزله بل وحتى باب غرفته.. تغيرت الثقافة عند البشر.. لم يعد أحدٌ يستأمن أحداً .

في المكتب الكل يقفل أدراجه.. ويقفل مكتبه.. ويقفل على أفكاره خوفا من السرقة.. بل حتى الهواتف أصبح لها نظام أمان وأرقام سرية.. نعيش في عالم من المفاتيح والأقفال.. نكاد نقفل حولنا كل شيء حتى القلوب.. لذا نلجأ لمصطلحات كمفتاح القلب.. ومفتاح العقل.. بل ومفتاح الضمير.. كل شيء من حولنا مقفول.. أبواب بعض الوزارات ومكاتب أغلب الوزراء.. مكاتب النواب.. مداخل الجامعات تعج برجال الأمن.. أبواب الحمامات في المراكز الصحية.. حتى أبواب غرف الأبناء في البيت.. ليس مسموح لنا أن نقتحم الخصوصيات.. لم نعد نقدر على الدخول إلى غرف الأبناء دون إذن مسبق.. لم نعد نتابع ما يحصل خلف الأبواب المغلقة في عقر دارنا.. الكل يعيش في ريبة.. وبات المفتاح من أهم مقومات الحرية الشخصية وراحة البال وسرية الأفعال!!

غير أننا وبكل جهل نترك الأبواب مشرعة في أمور أخرى لا نلتفت إليها.. ونترك المجال لعشرات الدخلاء في بيوتنا وغرف نومنا ونتركهم يسطون على أسرارنا وكافة أمورنا الحياتية وخصوصياتنا.. يسرقون أموالنا ويعتدون على أطفالنا وربما يجرونهم نحو كل ما بالعادة نخشى عليهم منها.. ويبدو أننا لا نبالي لها ولا نعيها حتى يقع "الفاس بالراس".

لننظر إلى مسألة الهواتف الذكية وكل ما يقع في خانتها من الإلكترونيات الحديثة.. كلها تقريباً قابلة للإقفال.. والهم الأكبر في شأن هواتفنا هو السرية والخوف من إكتشاف مكنوناتها من أمور خاصة.. بل خاصة جداً.. الرسائل الخاصة.. الصور.. المواقع اللإكترونية التي نقتحمها ونحن على يقين بأنها "فاضحة".. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا:  ممن نخاف؟.. المتزوج يخشى من زوجته.. والأبناء يخشون من أولياء أمورهم.. والمخالفون للقوانين الأمنية العامة يخشون من رجال القانون.. ومتصفحى المواقع الإباحية يخشون من الفضيحة!!

الهواتف الذكية في واقع الأمر أذكى بكثير من عامة الناس.. فهي تخزن كل شيء في مكان ما في أعماقها.. وكل الخطوات المتخذة ضد كشفها عند الحاجة لن تجدي ولو بعد حين.. الأرقام السرية يمكن كشفها على يد خبير أو "هاكر" ماكر.. المعلومات يمكن نسخها وسرقتها بضغطة زر.. والأقفال وبرمجيات الحمايات التي تأتي مع نظام كل جهاز قد وضعها أناس وهم أدرى بكيفية تجاوزها عند الطلب.. ويمكن إختراقها بيسر من قبل أناس آخرين أكثر دهاءً من الشركات المصنعة للهواتف.

وهكذا نجد أنفسنا قد فقدنا الإحساس المزيف بالأمان.. نجد أننا عرضة لشتى أشكال الإختراق القانوني والغير قانوني.. نكتشف كم نحن "عراة" عبر هواتفنا الذكية وسواها من أجهزة وبرامج التواصل الإجتماعية المتداولة.. فعبر هذه التطبيقات تأتينا "بلاوي" من شتى أصقاع الأرض.. الغث والسمين، وبينهما العشرات من محاولات الإختراق عبر أرقام ورسائل "ملغمة" من أفريقيا وآسيا وروسيا وإسرائيل، على سبيل المثال وليس الحصر!

فأذكى الهواتف ليست سوي وسيلة للوقوع في مصائد إن كانت بيد الأغبياء.. فالبعض يقحم نفسه في أمور يجب تفاديها، وبحكم الفضول يقبل مكالمات مجهولة المصادر ويتجاوب مع رسائل مكشوفة النوايا دون وعي وحيطة.. تطبيق الـ"واتس آب" على سبيل المثال، ورغم كونه قد اصبح تابعاً لشركة "فيسبوك" إلا أنه ليس محمياً بشكل أكثر أمنا كما قد يظن البعض.. فهناك بعض الخدع والحيل التي قد تؤدي إلى اختراق "الواتس آب" وتجعله عرضة للسرقة من طرف اي شخص، وخصوصا أن هذا التطبيق لا يحتاج إلى إسم مستخدم أو كلمة مرور حتى تستطيع فتحه أو إختراقه ، بل يكفي أن يتم الحصول على رقم الهاتف المستهدف ويمكن إتمام العملية بسرعة وسهولة خلال دقيقة.. وكذلك الأمر مع كافة تطبيقات التواصل المجانية الأخرى.. وعبرها تأتينا عشرات العروض ومثلاً ان تصلكم رسالة تخبركم بربح جائزة عبارة عن سيارة حديثة أو جائزة مالية ويجب عليكم الإتصال بالرقم أو العنوان البريدي المرفق.. أو يتم ارسال جهة اتصال يجب إضافتها على الجهاز وغيره، والتي في العادة تكون مرفقة بصورة لفتاة فاتنة مثلاً، وغيرها الكثير من الإستفسارات من أجل كشف المعلومات الشخصية !!

وكذلك الأمر يتكرر مع الـ"فيسبوك" والـ"إنستغرام" وغيرها من التطبيقات العامة المتوفرة.. وعبر كل أشكال البريد اللإلكتروني.. بل وحتى عن طريق المكالمات الهاتفية والخطابات البريدية الورقية.. فلو كان مجرد واحدة من كل ألف من تلك الرسائل حقيقية، وأعني تلك التي تبشر بفوزنا بجوائز مليونية، لكنا كلنا من أصحاب الملايين.. فاليوم بفضل هذه الشبكات العنكبوتية بتنا رغم كل الإحتياطات والأقفال معرضون لشتى صنوف الإختراق والتعدي.. وها نحن نترك الأبناء يحادثون الغرباء خلف أبواب غرفهم الخاصة دون رقابة.. حتى يكاد الأمر أن يكون بمثابة السماح لأطفالنا التعرض لعمليات "إغتصاب" فعلية عبر هذه الأجهزة الخطيرة التي نوفرها لهم بحسن نية!!!

لربما يمكن القول بأن الهواتف والكمبيوترات التى فيها كاميرات أصبحت من أخطر أدوات التعدي على أدق تفاصيل خصوصياتنا في عقر دارنا.. تخيلوا مدى الفاجعة.. فنظام الـ"أندرويد" مثلاً لا يؤمن مستخدميه ضد القرصنة و"الهاكرز" كما هو معتقد عند البعض، بل يمكن ببساطة إختراقه والوصول إلى معلومات شخصية لمستخدمه، ويمكن أيضا تصويره عن بعد عن طريق صور متسلسلة أو عن طريق مقطع فيديو.. وللأسف الشديد، هناك الكثير من المواقع التي تقدم هذه الخدمة من أجل التجسس على الهواتف وتصوير مستخدمها عن بعد، سواء عبر الكاميرا الأمامية أو الخلفية، ناهيك عن قراءة سجل المكالمات والرسائل وتصفح كل ما هو موجود على الهاتف.

بمعنى آخر، يمكن القول بأننا لم نعد نتحكم ولا نعلم من قد يكون معنا في عقر دارنا ولا غرف نومنا ولا يمكن أن نأمن على خصوصياتنا رغم كل الأقفال على أبوابنا.. لا نعلم من مع أولادنا وبناتنا خلف أبواب غرفهم المغلقة.. ولا نعي بأي وضع وإحتشام نسائنا وهن عرضة لمخترقي الكاميرات.. وهنالك العشرات من قصص الإبتزاز والفضائح وخراب البيوت نتيجة سوء إستخدام هذه الكاميرات الصغيرة التي كثيراً ننسى وجودها معنا في كل أرجاء المنزل وفي كل الأوضاع التي لا تخطر على البال.

دعونا هنا نتحدث قليلاً عن تطبيقات التعارف والمكالمات المجانية المغرية.. فقصص بعض الحالات التي ترد إلى الأذهان تشيب الرؤوس.. فكثيرة هي الأفخاخ التي قد يقع فيها الشباب والشابات رغبة في التواصل والتعارف.. وتكون نتائجها وخيمة حين يكتشفون بعد حين بأنهم مجرد ضحايا أبرياء بسبب وثوقهم بأشخاص وهميين خلف الشاشات.. ليكتشفوا أنهم يحادثون ثلة من الدجالين ممن يتقمصون شخصيات غير حقيقية من أجل إغوائهم والإيقاع بهم في شر أعمالهم.. وضحايا مثل هذه الأفعال كثيرون في شتى أصقاع الأرض.. ومن كافة الأعمار والفئات والأجناس.. والنتيجة تكون إما الإبتزاز أو الفضائح.

ثم تأتينا بعض برمجيات الألعاب الشيقة في ظاهرها والخبيثة في باطنها.. مثلاً لعبة بوكيمون غوو (Pokémon Go)، فهي تعتمد على التكنولوجيات القائمة التي تربط بين كاميرات الهاتف الذكي والمعلومات فى البيئة الافتراضية والأجسام الحقيقية التي حولنا.. بمعني اوضح، يظهر داخل اللعبة خريطة تحدد أماكن شخصيات البوكيمون في أماكن حقيقية، فمثلا قد تجد أحدي هذه الشخصيات داخل منزلكم وغرفكم، أو مكتبكم وشركتكم، أو داخل منازل جيرانكم أو مباني حيوية مثل اقسام الشرطة والمركز الصحية ومناطق محظورة.. اللعبة تتطلب منكم القيام بمطاردة شخصيات "البوكيمون" والقيام باصطيادها.. فاللعبة تطلب منكم متابعة وإستكشاف الأماكن التي من حولكم.. ولكن فى الحقيقة فهي تجمع معلومات عند تصوير الأماكن دون علمكم.. حيث يقوم "سيرفر" اللعبة بنقل جميع هذه البيانات والمعلومات التي تقومون بتصويرها ونقلها لهم، فانتم هنا تصبحون جواسيساً مجانيين وتخدمون الشبكات الجاسوسية التي من خلالها قد تظنونها مجرد لعبة بريئة!

إجل.. سيناقشنا البعض محقين بأن الإنترنت والبرامج المعرفية و"غوغل" وسواه من برامج كثيراً ما تكون فيها الفوائد والمعلومات والأخبار والعلوم.. نلجأ إليها كلما جال في بالنا سؤال.. حقاً أنها كلها مواقع غنية ومفيدة لم نكن نحلم بها قبل عقد من الزمان.. ولكن حتى هذه المواقع باتت مصدراً للبحث وسرقة البحوث.. فكثير من طلبة العلم تحولوا إلى لصوص يسرقوق مما ينهلون من معلومات بالقطع والنسخ واللصق دون الرجوع إلى أدنى أدبيات كتابة البحوث الصحيحة.. فهنالك إساءة إستخدام وتغافل تام من قبل البعض في هذا الشأن من الناحية الأكاديمية، والنقاش في هذا الأمر يثير الشجون ويطول فيه الحديث!!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم