قضايا

مدى تأثير خبرة الآباء على تربية الأبناء؟

محمد العباسيعندما كنت تلميذاً بمدرسة الهداية الخليفية، في مرحلة السنة الثانية من الثانوية العامة، وكان عمري حوالي 16 ربيعاً، أصرت إدارة المدرسة أن أدرس بالقسم العلمي رغم أنني كنت أرغب بالقسم الأدبي.. كانت حجتي المنطقية حينها يقيني بأنني لا أنتمي للقسم العلمي.. حيث عانيت في السنة الأولى من المرحلة الثانوية من مادة الرياضيات بالذات. لكنني في الأخير رضخت لقرار المدرسة، وكما كنت أخشى، فشلت في نهاية السنة في مادة الرياضيات.. وكان أمامي فرصة لإعادة الامتحان النهائي حسب نظام "الدور الثاني" حينها، أي أن أحاول اجتياز امتحان مادة الرياضيات خلال فترة الصيف، قبيل بدء السنة الدراسية.. وأنا في عمري الصغير، قررت أن لا أعيد الامتحان وأخترت أن أضحي بسنة من حياتي الدراسية خشية الرسوب تارة أخرى في المرحلة الأخيرة من الثانوية العامة (التوجيهي)، وكنت شبه متيقناً لذلك التوقع!

أعدت السنة الثانية حزيناً لإضاعة سنة من عمري، غير أنني عاندت المدرسة، وأعدت تلك السنة في المجال الأدبي.. وكان ذلك القرار أعظم قرار اتخذته في حياتي.. فكان أن تميزت في القسم الأدبي، وقضيت بعدها سنوات من الدراسة الجامعية بين قطر وأمريكا وبريطانيا حتى نلت درجة الدكتوراة ! وتقلدت خلال 30 سنة من العمل الأكاديمي مراكز مرموقة.. كل ذلك كان بفضل قرار حاسم اتخذته لوحدي في سن مبكرة.. لكن يبقى السؤال، كم من تلاميذ المدارس يمتلكون ذلك الحس ليتحدوا الضغوط وليتخذوا قرارات حاسمة تلبي طموحهم وتتوافق مع رغباتهم؟ كم من الجرأة يمتلكها الأفراد في مواجهة قرارات المدرسة أو الأهل في فرض قرارات قد لا تناسبهم، وقد تصبح وبالاً عليهم في مستقبل حياتهم؟

هذه التجربة التي عشتها ولمست مخرجاتها، جعلتني فيما بعد أقبل بقرار أصغر أولادي بعدم الانضمام للجامعة مباشرة بعد تخرجه من المدرسة، لأنه لم يكن قد قرر بعد المجال الذي يرغب فيه.. وهو الآن يدرس تخصص اختاره بمحض إرادته ويراه مناسباً لطموحه ورغبته.. وكذلك تقبلت فكرة قطع ابنتي (الكبرى) لدراستها في مجال المحاسبة بعد سنة ونصف، وانضمامها لجامعة أخرى في مجال كانت هي ترغب فيه.. فتخرجت بتفوق وتوظفت لفترة، وتارة أخرى غيرّت توجهها وقررت مساراً مختلفاً ودرست من جديد وتخرجت، وهي الآن تدرس أيضاً لنيل الماجستير.. وكذلك كان لهذه التجربة الشخصية أثر على تقبلي لقرار أوسط أبنائي بعدم القبول بوظائف لا يراها تلبي طموحه رغم تخرجه من الجامعة منذ بضع سنوات الآن.. ولا يزال يجرب ويتوقع أن يجد مبتغاه في غير مجالات الوظائف العمومية التي لا تتوافق مع شخصيته.. ويعود صبري ليقيني بأن لكل منهم فروقه الفردية وشخصيته المميزة ورغباته المختلفة.

كل هذه القرارات تعود من ناحيتي لتجربة شخصية مررت بها، فباتت كمفترق طريق بالنسبة لموافقتي أن أتماشى مع قرارات أبنائي وأن لا أقف حجر عثرة في طريقهم ما استطعت.. أنا أحب أن أسميها "خبرة".. وأقصد بها أنني جربت هكذا قرارات حاسمة وكان فيها منفعة لي في حياتي.. فلن يكون من المعقول بعدها أن أعارض رغباتهم على أساس أنهم صغار في السن مثلاً، أو لأنه لا بد لنا نحن الآباء من فرض قراراتنا عليهم.. لم ولن أتردد في الوقوف معهم والتكفل بكل ما يلزمهم مادياً ومعنوياً حتى يجدوا طريقهم، كل حسب شخصيته وطموحه ورغبته.. ولا أنكر أنني في قرارة نفسي قد لا أوافق على بعض جوانب قراراتهم، لكنني ومن منطلق خبرتي أتحلى بالصبر والأمل أن يكون التوفيق حليفهم.. كما حالفني التوفيق حينما قررت لوحدي إعادة سنة دراسية كاملة أيام المدرسة.

رغم التوفيق الذي حظيته في الجانب الأكاديمي والمهني، فقد مررت أيضاً في حياتي في تجارب أخرى كانت فاشلة.. بالذات في المشاريع التجارية.. فاكتشفت بعد عدة محاولات لتنويع مصادر الدخل استعداداً لمرحلة التقاعد أنني لست ذو عقلية تجارية (!).. خسرت مبالغ طائلة ذهبت أدراج الرياح.. وحتى هنا لست نادماً، بل أعتبرها خبرة تعلمت منها عدم تكرار مثل هذه المحاولات لأنها لا تناسبني.. ودائماً أكرر أمام أبنائي هذه التجارب عساهم يتعلمون منها دروساً مفيدة.. فحرام أن تذهب هذه التجارب الفاشلة دون أن نتعظ منها جميعنا.. وحرام أن لا يستفيد الأبناء من تجارب آبائهم وتجارب الآخرين ممن سبقوهم.. فكما تكون مجمل التجارب الناجحة ملهمة، لا بد أن يكون هنالك استفادة من التجارب الفاشلة.. فليس العيب في أن نقع في الأخطاء، بل العيب يكمن في عدم تعلمنا من أخطائنا.. وقد علمتنا الحياة أنه لا يقع في الأخطاء إلا الشخص الذي يحاول ويعمل ويجرب.. ومنها نتعلم أعظم دروس الحياة.. أما الذي يخشى المحاولة، لن يتعلم شيئاً جديداً.. لن يتعلم النهوض من جديد ومجابهة التحديات.. لن تتطور لديه ملكات الصبر والاجتهاد والمثابرة.

فأنا كأب، سيؤلمني كثيراً أن لا يستفيد مني أبنائي من بعض هذه الخبرات والدروس بكل مخرجاتها الإيجابية والسلبية، ولو من باب المعرفة بجوانب الحياة.. رغم يقيننا المنطقي بأن الخبرة بشكل عام ليست بالضرورة دائماً ناجعة ومثمرة في حد ذاتها.. لكنها كخبرة لا بد أن يكون لها منفعة يُستفاد منها، إما بتطبيقها إذا كانت ناجحة أو بتفاديها إن كانت فاشلة.. لكن لا يجب هدرها دون الاستفادة منها.. فالتجارب الناجحة يمكن تكرارها مع ما قد تحتاج لها من أدوات مناسبة، حسب الزمان والمكان، وحسب ما يطرأ من حاجات التطوير عند التنفيذ بحكم اختلاف الأوضاع الجديدة ومتطلبات كل عصر.. وكذلك لا بد أن نتعلم من جل التجارب الغير ناجحة، ونبحث كيفية معالجتها والتكيف مع تطور الحياة وتوافر الموارد المستجدة.. لكن لا يجب أن ندعها تمر مرور الكرام ولا نتعظ منها بالشكل المناسب.

و قد يجادل البعض شأن وجود تلك الفجوة الزمنية بين الأجيال، واختلاف الزمان والثقافة بين آباء "الأمس" وأبناء "اليوم".. وفي هذا يقول الأستاذ "أحمد عقاب" على صفحة موقع جريدة الأيام: "يقولون (لكل زمان دولة ورجال)، وكثر الجدل والكلام حول موضوع وجود فجوة بين الآباء والأبناء، وأن الآباء يفكرون بطريقة ما، والأبناء يفكرون بطريقة مغايرة تماماً، ولعلك تسمع في هذا الصدد عبارات تقول إن الآباء يفكرون بطريقة قديمة، وأن الأبناء يفكرون بطريقة جديدة، الآباء في خندق التخلف والرجعية، والأبناء في صف التحضر والتقدمية.. الآباء أكثر خبرة.. نعم، ولكنهم أقل ثقافة وعلماً من الأبناء، الآباء يفرضون آراءهم والأبناء ما لهم من محيص، ثم انعكس ذلك على وسائل الإعلام، حتى ظهرت أفلام ومسلسلات تناقش مثل هذه القضية كلاً على طريقته والتي تعبّر عن نفس المضمون، فيما تمر الأيام والسنون، وتتسابق السنوات في تغيير ملامح وأفكار الناس باستمرار، ينسى الآباء في كثير من الأحيان، أنهم كانوا في يوم من الأيام أطفالاً وأبناءً، يتذمرون من طلبات وأوامر الآباء، ويجدون من وجهة نظرهم إجحافاً من الآباء بحقهم، وتقليلاً من شأنهم، فيما يغيب عن أذهان معظم الأبناء، أنهم سيقفون يوماً أمام أولادهم، يفرضون عليهم ما يرونه أنسب لهم في كل شيء، ويحددون لهم الخطأ والصواب، ويقسون عليهم أحياناً وهو ما يرونه صواباً في كثير من الأحيان".

قد أتفق في بعض ما سبق من توصيف، غير أنني مؤمن بأن التجارب البشرية مكملة لبعضها البعض.. فنحن لا نزال نتعظ من خبرات من سبقونا عبر التاريخ.. فكل آبائنا وأجدادنا مروا في تجاربهم العملية والحياتية بكل مساوئها ومحاسنها.. والقسوة التي قد يبديها بعض الآباء أحياناً نحو تصرفات وخيارات الأبناء لا تخلوا من الحب تجاههم.. حيث يحرص الآباء أن لا يتضرر الأبناء من تلك التجارب السيئة التي خاضوها تارة أخرى.. كما يسعدهم أن يروا الأبناء يستفيدون من تجاربهم الناجحة كقدوة حسنة تدفعهم نحو النجاح والرقي ومزيد من السعادة والرخاء.

و يمكنني أن أنهي موضوعي هنا بأنني كلما تذكرت كل قول أو رأي ونصيحة لوالدي في أمور حياتي، أتمنى أن تعود بي سنوات العمر لعلني أتفادى الكثير من المواقف السلبية التي مرت بي في مجمل تجاربي، والتي كان يمكن لي تجنبها لو أنني كنت تعاملت معها بشكل أنسب، متسلحاً بخبرات والدي الغنية في كل جوانبها.. ويؤسفني أنني لم أتعلم الاستفادة من كل نصائح الوالد في حينها، بل بدأت أعيها بعد أن أصبحت بدوري أباً ومسئولاً عن أبنائي.

يقال أن أحد أبناء سأل والده: "ما الفرق بين ابتسامتك وابتسامتي؟".. فأجاب الأب: "أنت تبتسم عندما تكون سعيداً.. وأنا أبتسم عندما أراك سعيداً".. وهنا لا بد لي أن أختم قولي بالدعاء لكل أب وأم اجتهدوا في رعايتنا: "اللّهم أجرّهم عن الإحسان إحساناً، وعن الإساءة عفواً وغفراناً، واللّهم أغفر لنا تقصيرنا في حقوقهم في حياتهم وبعد مماتهم، وأدخلنا وإياهم الجنة من غير مناقشة حساب، ولا سابقة عذاب.. رب ارحمهما كما ربياني صغيرا".

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم