قضايا

مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن!!

صادق السامرائيهذه عبارة ذات إنعطاف عظيم في تأريخ الإسلام، ولها دورها وتداعياتها فيما بعد، ولم يتم النظر إليها بجدية وعلمية وآلية متوافقة مع الطبيعة البشرية والسلوك الناجم عنها.

أبو سفيان هو صخر بن حرب وينتهي نسبه بعبد مناف كما تنتهي معظم قبائل قريش كبني هاشم وبني أمية وغيرهم.

وأبوه كان يقود حروب قريش، وأول من تعلم القراءة والكتابة، وهو قائد قريش في معركتي أحد والخندق وغيرها من المعارك.

وهو سيد قريش بلا منازع وتجاوز عمره التسعين، وعاصر ثلاثة خلفاء راشدين، وإبنته رملة أم حبيبة إحدى زوجات النبي، وأمه صفية عمة ميمونة بنت الحارث زوجة النبي، وأخته أروة بنت حرب حمالة الحطب.

وقصة إسلامه تشوبها الغرابة، فقد جاء في المرويات أن المسلمين وعددهم عشرة آلاف قد عسكروا ليلا قرب مكة، وأوقدوا المشاعل، فخرج القوم في مكة يتساءلون ومنهم أبو سفيان، ويُحكى أن العباس عم النبي قد خرج من مكة مهاجرا بأهله فصادف الجيش وتكلم مع النبي، وأحس بأن قريشا ستباد عن بكرة أبيها، فطلب السماح من النبي بأخذ بغلته والذهاب إلى قريش يدعوها لطلب الآمان، وفي ظلام الليل سمع صوت أبي سفيان يحدث شخصا آخر فناداهما وتعارفا، وبعد محاورة طلب العباس من إبي سفيان أن يكون خلفه على البغلة فذهب به إلى النبي، وأثناء تقدمه بين الجيش لم يعترضه أحد لأنهم يعرفون أن بغلة النبي معه، لكن عمر بن الخطاب إعترض وعرف أن الذي يردفه العباس خلفه هو أبو سفيان، فغضب وتحمس للنيل منه أو قتله، فأسرع إلى النبي لكن العباس وصل قبله، وجرت محاورة بينهم، تباينت بين طلب عمر بقتل أبي سفيان وبين العباس الذي أجاره وبين النبي، إنتهت بإسلام أبو سفيان، بعد أن قال له العباس، أسلم وإلا ستقطع رأسك، لأنه نطق بالشهادة الأولى وإستثقل الشهادة الثانية، وبعدها تواصل الحوار وقيلت تلك العبارة.

أي أن إسلام أبي سفيان كان في السنة الثامنة للهجرة، أي قبل وفاة الرسول بسنتين.

ومعنى هذا أن أبا سفيان قد بقي سيد قريش وعلما من أعلامها قبل وبعد فتح مكة، ومضت له السيادة والإمرة في أمورٍ كثيرة، ومعه أولاده، الذين صاروا قادة حروب وسياسة.

هذه الحالة عندما نقرؤها بمنظار نفسي سلوكي وبمعايشة إفتراضية، تكشف لنا عن تفاعلات سلوكية معقدة ومتداخلة يصعب على العامة فهمها وإدراكها، بل أن الواقع المكي قبل وبعد الوحي قد تفاعل بآليات متنوعة ومتنافرة يصعب هضمها، وإنما هي متاهة لا تفضي إلى منفذ آمن وواضح.

مجتمع قليل العدد بقبائله المتداخلة والمتقاربة نسبا ينفجر بغتة ويتشظى، وكأنه البركان الذي لا يهدأ، فتحققت صراعات ونزاعات وحروب بين أبناء المجتمع الواحد بل والقبيلة الواحدة والعائلة الواحدة.

فعلى سبيل المثال أن أعمام النبي لم يؤمنوا به جميعا، سوى الحمزة والعباس الذي لم يشهر إسلامه وبقي عين ترصد داخل مكة، ومن أعمامه مَن عاداه وحاربه ومنهم من فضل الصمت وعدم إنكار دين آبائه وأجداده حتى ولو تيقن بأن ما جاء به محمد هو الحق.

وقس على ذلك في جميع العوائل المكية، حتى أن في بدر كان الأخ يقاتل أخاه والإبن يقاتل أباه، والأقارب يقاتلون الأقارب، فالقاتل والمقتول يعرف بعضهم بعضا ولديهم صلة من نوع ما.

وعلى مدى ثلاثة عشر عاما لم يكن عدد المسلمين إلا بضعة مئات وفي أكثر المرويات تجاوزوا الثلاثة مئة بقليل، ومعظمهم من الفقراء والموالي والعبيد، عدا نسبة قليلة من أهل مكة الأصليين، وكان من بينهم أبو بكر وعلي وعثمان وعمر.

**

لم يحصل في التأريخ لا قبلها ولا بعدها أن يقوم جيش بفتح مدينة ويبقي على أسيادها ويحافظ على كيانها الإجتماعي بهيكليته المعهودة، ويضمها إلى جانبه كما هي، وفي هذا مخاطر وتداعيات، وتفاعلات توالدت وتضاعفت وتأكدت.

فلماذا "مَن دحل دار أبي سفيان آمن"؟!!

هل أنها إرادة إلهية ونبوية، أم هي تقدير موقف آني؟!!

فالحالة كانت تتأرجح بين القتل والعفو، لكنها زادت على ذلك بالعفو وضمان السيادة والحفاظ على المقام الفردي والإجتماعي لأبي سفيان.

فإذا كانت إرادة إلهية ونبوية، فلا داعي للإعتراض والتواصل في الكلام المتعدي على تداعيات ما بعد هذا القرار.

هل لأن أبا سفيان كان كبيرا في العمر في حينها فقد كان عمره يناهز السبعين، أم أن الأمر قد حسم على هذه الشاكلة لنظرة أخرى ورؤية لا يعلمها إلا الله ورسوله؟!!

لكن الحقيقة السلوكية المتمخضة عن ذلك، أن المسلمين قد دخلوا في مرحلة جديدة من القوة والتفاعل الذي أصبح فيه المسلمون المكيون الجدد، يقبضون على جمرة قوتهم وسيادتهم، وكأنهم صاروا يعملون بمبدأ التقية (إظهار سلوك مغاير لما فيك)، الذي تمكنوا من التواصل معه، حتى إنتهت أكثر من ستة سنوات من خلافة عثمان، فاتضحت النوايا والتطلعات والأدوار والرغبات بأنواعها.

وظهرت معضلة جديرة بالنظر، فالمسلمون الأوائل وخصوصا المهاجرون معظمهم من الفقراء والعبيد  المعتوقين والموالي الذين كانوا عند أسياد قريش، فكيف يتحقق التوازن والمساواة ما بين الطرفين، وهل سيقبل سادة قريش الذي أسلموا بعد فتح مكة بقيادة المستضعفين الذين أذاقوهم الويلات قبل الهجرة؟

وهذا يعني أن صراعا خفيا مريرا قد إبتدأ، يتم تغطيته وإخماده بآليات سياسية إنتهازية، ومبادرات جهادية متميزة للتعويض عما سلف، ولكنه صراع لا بد له أن يشب ذات يوم عندما تأتي الفرصة الكفيلة بإطلاقه، فيعرف الأسياد أن النصر المطلق لهم.

هذا الصراع أغفله المؤرخون وراحوا يفسرون الأحداث على غير طبيعتها البشرية السلوكية المرهون بها جميع البشر.

فكيف يتم تفسير سلوك العباس عم النبي بإجارة أبي سفيان وإنقاذه من موت محقق، وبين أحفاد العباس الذين محقوا وجود بني أمية بالكامل وما أبقوا على إمرأة أو رضيع، لقد حققوا فيهم إبادة جماعية ساحقة فائقة، ولم ينجو منهم إلا بضعة أنفار في الأندلس.

 فالنفس البشرية لا يمكنها أن تتبدل بهذه السرعة وتكون على غير ما كانت عليه قبل بضعة سنوات، لمجرد أنها نطقت بالشهادتين، وعبّرت عن إيمانها بالقول، وجاهدت لتبين أنها توافق بفعلها قولها، قد تستطيع أن تحبس أو تكبت، لكن المطمور لا بد له أن يتدفق ذات فرصة مواتية.

وما جرى في تلك الفترة إنما تعبيرات عن مطمورات متراكمة إنفلتت في أوانها المناسب، الذي كانت تتوفر فيه المعززات والمسوغات الكفيلة بإحتضانها وتفتحها وتبرعمها وتطورها، ففعلت فعلها وأظهرت قوتها وأثرها في السلوك والواقع الذاتي والموضوعي، وكأنها متوالية ثأرية ما بين العوائل التي سفكت دماء بعضها، ومثل هذه السلوكيات قائمة ومتوارثة في جميع المجتمعات البشرية، ولا تخص العرب لوحدهم كما يُشاع على لسان الجاهلين.

ومن الواضح أننا أمام حالة يكون فيها الشخص منتميا قبل سنتين من وفاة الرسول، وبين أشخاص جاهدوا مع الرسول منذ واحد وعشرين سنة،  وبذلوا الغالي والنفيس من أجل إعلاء كلمة الحق، ومعظمهم من حفظة القرآن الواعين بمعانيه وتفاصيله وجوهر أفكاره وآياته.

فالذي إنتمى لتوه توّج قائدا وسيدا، والمنتمون منذ بداية الدعوة وكأنهم يعودون إلى ذات الحالة التي كانوا عليها قبل النبوة، وفي هذا تحقق المأزق التفاعلي الشديد الذي أفضى إلى تداعيات مريرة فيما بعد، خصوصا وأن أبا سفيان قد عمّر ومات في زمن عثمان بن عفان، وقد شارك في جميع الحروب بعد إسلامه هو وأولاده.

ومعنى ذلك أن الثورة التي قادها محمد بن عبدالله قد أعطت أكلها بعد فتح مكة، وبدأت مرحلة جديدة سيتم فيها الإستحواذ على الثورة من قبل سادة مكة الذين قامت الثورة عليهم أو ضدهم، ومنذ ذلك الوقت والصراع الخفي قد دبّ ما بين الدين كثورة إنسانية معرفية وبينه كوسيلة للنفوذ والسلطة والهيمنة، وقد إنتهى كثورة وأصبح أداة يتم إستعمالها وتسخيرها لحكم الآخرين، وبهذا فأن الواقع التأريخي الذي يُراد وصفه بالإسلامي لا يمتلك الكثير من الأدلة المعقولة، فلا وجود لدولة إسلامية في تأريخ الإسلام، وإنما هناك أنظمة حكم أستخدمت الإسلام للتمكن من الحكم.

وحتى بعد وفاة الرسول وإنطلاق حكم الخلفاء الراشدين، لم تكن هناك دولة ذات دستور وإنما نظام حكم يتأثر بالشخص الذي يتولى الحكم أو الخلافة، ولهذا مضت الحياة في مضطربات متعاظمة حتى إنتهت الأمور إلى بني سفيان، وهم ذوي خبرة بالقيادة والحكم أكثر من غيرهم، وقد تعمقت التجربة وتطورت في دمشق، التي تولاها معاوية بن أبي سفيان لمدة عشرين سنة قبل أن يعلن قيام دولة بني أمية، وكان واضحا ودقيقا في رؤيته التي ملخصها "صيانة الأمة وإدارتها وتوطيد الحكم فيها"، وهذا أسلوب القيادة الذي جرت عليه الدول من بعده والتي ما أسمت نفسها بالإسلامية، بل بالدولة الأموية والعباسية والعثمانية وما بينها العديد من الدول كالفاطمية وغيرها من الدول، التي إمتطت صهوة الإسلام لكي يكون وسيلتها في توطيد الحكم.

فما جرى منذ فتح مكة من أحداث وتفاعلات كانت سياسية بحتة وظّفت الدين للوصول إلى أهدافها وتمرير غاياتها وأغراضها، رغم وجود العديد من المسلمين العقائدين الذين حاولوا أن يعيدوا الثورة إلى نصابها لكنهم جميعا وبلا إستثناء فشلوا وإنتهوا إلى مصير أليم وقاسٍ.

وما تقدم قراءة نفسية سلوكية لمشهد من تأريخ الأمة وحسب.

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم