قضايا

الكاتب الصيَاد

علي المرهجربما تكون مهنة الصيد هواية حالها كحال الكتاب، فكم من الصيَادين من الذين يعشقون مهنة الصيَد هم هواة، وكذا الحال مع الكتابة، فكم من الكُتَاب هم يعشقون الكتابة بوصفها هواية ويهيمون بالقراءة لأنه في منظورهم "غواية".

كما تتطلب هواية الصيَد اتقانها بوصفها حرفة، فكذلك تتطلب هواية الكتابة اتقانها كحرفة، ومن مُستلزمات حرفة الكتابة "غواية القراءة"، فالصيَاد الهاوي لا يختلف كثيراً عن الصيَاد المُحترف من حيث الحاجة لمعرفة طُرق لصيَد وعُدته، فلا يعني أنك هاو للصيَد أن تجلس على ضفة النهر تُجيد رمي السنَارة ومسك الخيط وحركة نهر مدينتك وأسراره، إنما عليك أن تعرف أنواع الخيوط التي تصلح للصيد وحركة الأنهار ومواسم الصيد ونوع الأسماك التي تروم صيَدها وأماكن توفرها ونوع الطُعم الذي ترميه في هذا النهر أو ذاك، بل ونوع الشباك التي تصلح في هذا النهر أو البحيرة.

كل حركة عند الصيَاد مدروسة، وبعد الصيَد يحتاج الصيَاد لمعرفة كيفية حفظ الأسماك، فلكل نوع طريقة بالحفظ، وإن كُنت من الذين يبحرون في البحار بحثاً عن اللؤلؤ والمرجان والنادر من الأسماك في أعماق الأنهار والبحار، فإنك ستحتاج لدراية لا هواية ولموهبة وحرص على تعلم دروب الصيَد بمهارة لا مكان فيها للغواية، بل هو بحر أمواجه مُتلاطمة لا تحتاج فيه لاتقان مهارة الصيَد فقط، بقدر ما تحتاج إليه من تمكن وسبَر غور في معرفة أحوال الأنهار والبحار وحركة الريح وتوقيتات تلاطم الأمواج، والسيَر في البحار وأنت عارف بخريطة النجوم في السماء حين تفقد البوصلة.

لستُ صيَاداً ولا أتقن الصيَد لا هواية ولا غواية ولا دراية، ولكنني أعرف نظرياً ما يحتاجه الصيَاد من عُدَة إن كان هاو أو مُحترف. وأجد أن العلاقة وثيقة بين الكاتب والصيَاد من حيث حيث الهواية أو الغواية، وحتى الدراية.

فلك أن تكون كاتباً هاوياً حينما ترغب أن تكون كما الصيَاد الهاوي يجلس على الجرف، يعرف كيف يختار الخيط والسنَارة ونوع الطعم الذي يرميه لأسماك نهر في قريته أو مدينته، ليصطاد سمكة (بنَية) أو (زورَية) أو (جرَية) وفي أحسن الأحوال (كطان) وتلك غاية ما يبتغيه الصيَاد الهاوي. والحال ينطبق على الكاتب الهاوي يكتب في (الفيس بوك) أو (الصحف) أو(المجلات الثقافية) وبعضهم في (المجلات الأكاديمية)، وأنا منهم، ليكسب كثيراً أو بعضاً من قُرَائه لأنهم عبَروا له عن اعجابهم بما كتب عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر المُراسلات، أو حين اللقاءات بأن ما يكتبه مُفيد، وهو حتماً كذلك، ولكن الكاتب المُحترف كما الصيَاد المُحترف غير مشغول بعوالم التعبير عن قيمة ما يكتب عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو أو عبر المُشافهة ولا ينتظر مدحاً مُباشراً لما يكتب سواء أ كان ما يكتبه سرداً أو شعراً أو رؤية فلسفية أو فكرية، وإن كان من طبيعة البشر الرغبة بالحصول على "قيمة فورية" ـ بعبارة وليم جيمس فيلسوف البراجماتية ـ لمُنتجه الإبداعي، وقد يُرضي بعضاً من غروره في ضوء تطور وسائل التعبير عن الاعجاب في العالم الافتراضي، ولكنها ليست هي الأصل فيما ينشد ويرنو إليه.

الكاتب المُحترف كما الصيَاد المُحترف لا يُفرحه كثيراً إن اصطاد سمكة كبيرة كأن تكون "كطان" لأنه يبحث عما هو أكبر، عن سمك (الاستاكوزا) أو (التونة) أو عن (اللؤلؤ) و(المرجان).

تتوافر في الكاتب المُحترف سمات أهمها: الموهبة، ومحبته لمجال الكتابة الذي يرغب به، وسعيه لتطوير مهارته في الكتابة التي لن تكون لها قيمة حقيقية من دون صقلها بالقراءة ليست بوصفها "غواية" فقط كما يقول علي حسين، بل بوصفها مهمة من مهمات استكمال موهبته بوصفه يعشق مجال ما ويرغب بالكتابة به ولا تُستكمل هذه الموهبة إلَا بتطويرها والعمل على تنميتها عبر القراءة القصدية التي لا تنفي الشغف أو "الغواية" لأنها من المستلزمات الأساسية لتنمية الموهبة. فالكاتب المُحترف كما الصيَاد المُحترف يعرف أمزجة الأسماك والبحار ويعرف أوان قطف المحَار.

في الكتابة السردية والشعرية تحتاج للخيال وسعة أفق التوقع، أما الكتابة الفلسفية فأنك ستحتاج للخيال وسعة أفق التوقع كذلك ولكنك ستحتاج لعدَة مفاهيمية ومعرفية تقتضيها طبيعة الاختصاص، ولن تكون كاتباً ناجحاً فقط لأنك تهوى التفلسف أو التفكر في قضايا الوجود والمعرفة والإنسان، فلكل من هذه المجالات وفق تعدد المدارس الفكرية والفلسفية أن تمنح عقلك وروحك تأنياً في تحمل القراءة لفك مغاليق المفاهيم في هذه العلوم.

الكاتب المُحترف هو كما الصيَاد يصنع أسلوبه من مفردات اللغة المُتبعثرة، يصيغ عبارته ويسبكها بوصفه سارداً أو شاعراً أو باحثاً. فالصيَاد يبحر في أمواج البحور والمُحياطات أيام وليال ويتأمل في تحولات مزاج البحور ويتأنى ولربما بعد طول صبر وإناة يحصل على مرامه، ولكنه حينما لا يحصل يحسب أن في سعيه تعديل وإعادة ترتيب لخططه في الصيَد.

أما المنهجية عند الكاتب فهي طريقة يُجيد بها صياغة العبارة ويُتقن بها اختيار العينة، وهي ليست دستوراً ولا قرآناً لا يأتيه الباطل من أمامه أو خلفه، ولا تظنن أن المنهجية قيد كما النصوص المُقدسة. أو كما يُقال "لا اجتهاد في معرض ورود النص" إنما المنهجية خط سير نختطه نحن الكُتَاب أو الباحثون كي يكون سبيلاً لنا لبناء وعي معرفي أفضل، وإن كان في المنهجية تحديد أو تقييد للإبداع في بعض من مفاصلها، فعليك سيدي الكاتب مُغادرتها ولا تظنن أنك من الآثمين.

في الكتابة الأكاديمية والتي هي كتابة قصدية ليس المرام منها الامتاع والاقتراب من مكامن الجمال والابداع الفني سيكون البحث قصدياً في العلوم المخبرية غايته الوصول للحقيقة. فلربما نجد أن في الالتزام بمنهجية البحث المعهودة في هكذا نوع من الكتابة طريق خلاص للوصول لنتائج علمية أفضل، وإن كان في بعض من البحوث التجريبية مصادفة و(محاولة وخطأ) قد أوجدت لنا أبهى النظريات العلمية.

أما في الكتابة الاحترافية في مجالات الإبداع والعلوم الإنسانية، فإن الغاية ليست الوصول للحقيقة إنما هي في فتح أفق التعبير الجمالي والبحث عن طُرق أخرى للكشف عن تعددية المعنى لهذه الحقيقة. فهي إذن كتابة ترنو للتنوع والاختلاف وكلاهما مُتأصل فيها، ولا مسعى عند من يفقهون قيمة التعددية في المعرفة للسعي للاتفاق كما هو الحال في العلم التجريبي.

الكتابة في المجالات الإبداعية والعلوم الإنسانية كتابة يغلب عليها الطابع الذاتي، ولكنه طابع قيمي القصد منه تحقيق الذات لا من أجل اقصاء الآخر لأن الآخر هو ذات مُناظرة، وبالتالي فتددية الكتابة وتعددية حضور الذات بوصفها أنا مُتفردة مُقبلة على الآخر بتنوعه هي غاية الكاتب في مجالات فيض المعرفة الإنسانية المُبحر في عُمقها ليستخرج لنا بعضاً من لؤلؤها ومرجانها الراكس في تجاويف المُحيطات والبحار.

تأتي النبوة عبر الوحي، فيجد النبي نفسه كاتباً (مُختاراً) من دون كدَ وتعب سوى الإيمان واستحسان الفعل الإلهي والانصياع له وتنفيذه والعمل بموجبه ورضا الذات الإلهية عنه بوصفه (المُختار)، وتأتي الإمامة عبر الوصية أو عبر "النص والتعيين الإلهي" وكلاهما يمر بمخاضات عسيرة ولكنها محفوظة بقدرة الباري سبحانه وتعالى فهو الحافظ وهو المُعين.

في الكتابة الإبداعية يحف بك الشيطان، وفي كل قول لا تبتغي فيه مرضاة الله كما يرى الفقهاء والمُفسرون إنما أنت تختط طريقاً مُستقيماً لك للنار هو أقرب ك من حبل الوريد، فأي عذابات تُحيط بك أيها (الكاتب الصيَاد)، فلربما يكون في صيَدك = (كتابتك) قد خالفت الرؤية الفقهية والتفسيرية للنص المُقدس، وقد تكون تروم أعمال عقلك الذي أتاح له النص القُدسي التصرف به؟!!.

لا تفرح كثيراً لأنك صيًادٌ ماهر سواء أكنت صيَاداً للأسماك أو للأفكار، فكم من صيَاد حاربه بني قومه من الصيَادين، وكم من مُفكر حاربه بني قومه من المفكرين.

إن من يصطاد فكرة ثمينة كمن يصطاد حورية، سيجد أغلب أصحابه له حاسدين إن لم يكونوا له مُبغضين.

إن كُنت لا تبحث عن مُبغضين ولا أقول أعداء فلا تجتهد في الصيد كثيراً، ففي صيدك وإن أطعمتهم بكرم منك وسيقبلون إطعامك لهم لأنهم لا يُجيدون الصيد، ولكنهم بعد شبع سيتمتعوا بأكل لحمك ميتاً وتلك غيبة، أو (تحلية) بعد التغدية (الغداء) وهي من فاكهة الحديث عند العراقيين وأنا منهم...

فأن أكون صيَاداً في الكتابة بعد غواية القراءة فتلك سمة أتمنى أن أوسم بها. وأن أجتهد في صيد الأفكار وهُناك من الأصحاب من يفهمني أو يغار، فتلك من داوعي المحبة عندي لهم، ولربما عندهم تعبير في ظاهر القول عن محبة، ولكن في خبايا التعبير أسرار.

 

ا. د. علي المرهج

       

في المثقف اليوم