قضايا

عندما يصبح العلم تجارةً

مازن مرسول محمدتقوم العلوم على اختلافِ مشاربها بمحاولاتٍ لتأسيسِ ارضية صلبة لكلٍ واحدة منها، تندرج بين الابداع الفكري والتوليدي المؤدي لنشوءِ الفروع المعرفية وزيادة تراكمات الحقل العلمي، الى الاهتمامِ بتوسيعِ مديات العلم وتداخلاته مع العلومِ الاخرى، الى مبتغياتِ نشر المعرفة العلمية وترجمتها من خلالِ المهرجانات  والمؤتمرات والفعاليات العلمية الاخرى، ولا يمكن ان تُكمَّل هذهِ الفعاليات دائماً سلسلة العمل المتواصل المُثمر الذي يؤدي الى بزوغِ نجم الحقل العلمي وتصدَّره قائمة العلوم التي يُشهد لها علو كعب في التطوَّرِ الا في احسنِ الاحوال، اذ باتت العديد من الانشطةِ العلمية تحتل واجهةً شكلية قد تعود بالضررِ في الكثيرِ من الاحيانِ على التخصَّصِ دون زيادة تراكماته، وانما الانحدار بهِ الى الهاويةِ .

 فعندما يُشرَّع بإقامةِ احدى المؤتمرات، يُفترض ان تكون المسائل وفقاً لأرضيةٍ علمية كمُحصَّلة اولى، وليس الغرض منها تحقيق مُبتغياتٌ أخرى لا تعود بالنفعِ على تطوَّرِ الحقل العلمي، بحيث اصبحت هذهِ المؤتمرات في الكثيرِ منها عبارة عن تجمَّعاتٍ ساذجة تشتمل على اصنافٍ عدة من الحضورِ او المؤتمرين، منهم المُهتم بصورةٍ كلية لفتحِ افاق التعاون وتبادل الخبرات والوقوف على آخر ما توصل اليه الحقل العلمي، وللأسفِ بات هؤلاء قلة – ان لم نكن نبالغ – وصنفاً لا يكون همه من كلِ هذهِ الديباجة سوى الحضور والتباهي بذلك كرصيداً يُحسب له على مستوى الملتقيات والمؤتمرات والحضور او المشاركة بها، بحيث لا يرتبط بصلةٍ بالهدفِ الاساس للمؤتمرِ وهو فتح آفاق أرحب للعلمِ والاسهام في تطويرهِ ولا يكاد يفقه كل ذلك، وانما الغرض المهم هو تثبيت اسمه كحاضراً لهذا المؤتمر او ذاك، بحيث سيكون هذا النموذج عالة على العلمِ ومُسهماً بتأخَّرهِ وتراجعه .

وعلى العكس من ذلك هناك الفعاليات العلمية النوعية التي تجتذب خيرة الباحثين الجادين، والتي تُفصح عن فائدةٍ علمية كبيرة مُمكن ان يُنتفع بها في ميادينِ الحياة والتخصَّصات المعرفية، وما يرافق ذلك من اغراضٍ أخرى تُسفر عن فتحِ قنوات للتواصلِ بين الباحثين النوعيين، الامر الذي يُمهَّد لنشوءِ ارضياتٍ اخرى لموضوعاتٍ تهم المجتمع والعلم .

 وتشهد المنطقة العربية اليوم الدعوات لكثيرٍ من الفعاليات العلمية التي تؤكد على الحضورِ بالدرجةِ الاولى مُقابل تحصيل الاموال، مع ضياعِ بوصلة ما يريده المؤتمر او المحفل العلمي بالذات، وصنفاً آخر من الاصنافِ التي تواظب على ارتيادِ هذهِ النشاطات، يكون ايضاً لا ناقة له ولا جمل بكلِ هذهِ التجمَّعات سوى الاصطياد بالماءِ العكر، وهناك صنفاً من المؤتمرين الذين يحضرون لبعضِ مكاسب هذهِ المؤتمرات والتقاط الصور، ويلتقي هذا الصنف مع الصنفِ المُتباهي الذي يكون بينه وبين العلم بوناً شاسعاً، وهناك كذلك صنف المُدَّعي وهذا الصنف خطر جداً، الذي يدَّعي العلم واحقيته بالمشاركةِ في مثلِ هكذا فعاليات، خاصة ان الكثير من المجالِ قد فُتح واسعاً لهذهِ الاصناف دون ادنى درجة من الموضوعيةِ في قبولِ مشاركاتهم، وانما يتبع ذلك محسوبية مقيتة اطاحت بالسلَّمِ الهرمي الذي يُقاس على اساسهِ اهمية البحث العلمي او عدم جدواه، بحيث يُطبَّل هؤلاء لأنفسهم ويُهلَّلوا لمشاركاتهم ويملؤون الفضاء صياحاً وضجيجاً، محاولةٌ منهم لإثباتِ وجهات نظرهم الخاطئة من بابِ الادَّعاء بالعلمِ .

وكثرت هذهِ الاصناف ومُلئت بها العديد من المُلتقياتِ والمؤتمرات والندوات، والاشكالية الكبرى ان يصبح اقامة مثل هذهِ التجمَّعات هي لأغراضٍ ربحية مادية بغطاءٍ علمي يُشرعن عن طريقِ بعض المُدَّعين بالعلمِ، اذ تبرز علينا بين فترة واخرى دعوات لأنشطةٍ علمية دولية لا يُفهم منها حتى ابجديات العلم، فتجدها عامة غرضها ربحي بالدرجةِ الاساس، بحيث تُفرض رسوماً على المُشاركين، تجمعهم لهذا الغرض المادي سواءً تكلموا بالعلمِ ام لا، والادهى من ذلك ان اقامة هذهِ الفعاليات بهذهِ الصيغة بات يؤسَّس له بطريقةٍ مُحترفة، حيث يُخاطب البعض من الاصنافِ التي تم ذكرها سابقاً من الذين يحاولوا ان يظهروا للأوساطِ العلمية بانهم من مُرتادي المؤتمرات الدولية الكبيرة، عدداً من المراكزِ العلمية عن طريقِ سماسرة لهذا الغرض ويقترحوا عليهم اقامة هكذا نشاطات ويكونوا على استعدادٍ للدفعِ المالي لهم وجلب العشرات على شاكلتهم لهذهِ المُناسبات .

 والغاية منها فقط الحضور والبهرجة امام الآخرين، وبالفعلِ توجد العديد من الجهات الداعمة لهكذا اموراً ربحية، لذلك تخرج علينا بين الحين والاخر فعاليات من هذا النوع تنم عن غاياتِ تسطيح العلم وتسفيهه والقيام بإرسالهِ الى الجحيمِ، ولم تذهب كل هذهِ المحاولات سدىً وانما جاءت بثمارها في ما نلحظه اليوم من تردٍ واضح في مسارِ تطوَّر العلم .

اذ يُفترض ان تخرج هذهِ النشاطات بتوصياتٍ تُغيَّر الكثير من الاحوالِ سواءً بالعملِ بها من قبلِ مؤسَّسات الدولة او تزيد من التلاقحِ العلمي بين الباحثين حيث توسَّع من أفقِ مداركهم العلمية والبحثية، لا ان تؤدي الى انحدارٍ خطير على مستوى العلم، الى الحدِ الذي أصبحت فيه هذهِ الاصناف من المؤتمراتِ والفعاليات الاخرى، مُسهمةٌ بشكلٍ أكبر في انهيارِ البحث العلمي والمنظومة المعرفية .

 فلا يوجد تأسيسٌ ممكن ان تُفصح عنه هذهِ الفعاليات لباحثٍ جاد بأدواتٍ بحثية نوعية، ولا يوجد تسلسلٌ مُمنهجاً لقاعدةٍ تطوَّرية تراكمية للعلمِ، وانما على الاغلبِ ضياعاً للوقتِ وقصدية واضحة في التخريبِ، فتأتي الامور في الكثيرِ من هذهِ الملتقيات والمشاركات البائسة عبارة عن لغوٍ فارغ واموراً ليست علمية بقدرِ ماهي استعراضاً لسيرٍ ذاتية واكاذيب وهلوسات لا سند لها ولا قيمة، ناهيك عن النماذج الخاوية للباحثين الذين لا يفقهون حتى تخصَّصاتهم في هذا النوع من الفعالياتِ .

في حين نجد على النقيضِ من كل ذلك مؤسَّسات ومراكز ومعاهد تتعامل بحرفنةٍ معرفية وعلمية رصينة وتؤسَّس لنشرِ العلم بصورةٍ مُمنهجة وتجتذب كل باحث جاد له هم الانشغال البحثي وتشبيك العلاقات التي تُنمَّي من التخصَّصاتِ وتطوَّر المجتمع، دون ان يكون همها ربحي بالدرجةِ الاولى .

اننا في محنةٍ كبيرة، محنة ظهور صوراً عديدة أسهمت في تزييفِ البحث العلمي، انتجتها آليات ذات فروعاً متعدَّدة غايتها مسخ العلم والباحث الاصيل مقابل المكاسب الشخصية وتحقيق مآرب الكثير من مُدَّعي هذا الزمان .      

 

ا. د. مازن مرسول محمد / استاذ علم الاجتماع / الجامعة المستنصرية

 

في المثقف اليوم