قضايا

العلم من منطقِ الواقع

مازن مرسول محمدلا يمكن عد العلوم التي لازمت الحياة البشرية وتكاملت ووصلت الى مراحلٍ من النضوج والتطور، مجرد تمثَّلات واقعية لا جدوى منها، فالغرض من الاشتقاقاتِ العلمية على مستوى كافة الفروع ليس للتباهي الانساني والتحديد الحقلي لها، بقدرِ ما هو نزوع انساني للرفعةِ والتقدَّم المُتأتي منها وتراكماتها وما حفلت به من تموضعات جعلت العقل الانساني يُسلَّط الضوء بشكلٍ مباشر وعميق على ما يشكَّله العلم الحياتي من لازمةٍ ضرورية بات لا يُستغنى عنها اليوم ولا غداً، وعلى هذهِ الاسس سارت وما زالت وستسير الحياة للاتكاءِ على المعطياتِ العلمية بمختلفِ مفاصل الحياة، ويظل ذلك رهناً بالظروفِ والمشتغلين بالعلومِ وقدراتهم في زيادةِ التأصيل العلمي والتراكمات حفاظاً على الحياةِ والمضي بها نحو الامام .

وذلك هو ديدن الوجود العلمي ليس عبثاً وانما تحقيقاً لغاياتٍ مُعيَّنة بل اهداف غاية في الدقةِ والضرورة المُلحَّة، ولنا ان نتخيل عالماً دون علوم او اندثار علمي على كافةِ المستويات، فلا نتوقع الا دماراً وركوداً وانحداراً مخيفاً، فالمسألة لا تشمل التنظير ومجموعة من الافكارِ التي تبقى حبيسة الكتب والتي قد تُلاقي نقداً لاذعاً او حتى لا تُقرأ او يتم الاطلاع عليها، وانما الموضوع اخطر وأهم من ذلك بكثيرٍ، فلا يخفى على ذي لب ما صاغته العلوم من صورٍ حياتية نشهدها اليوم والكيفيات التي تمثَّلت بها وقائع حياتنا وما وصلنا له، فكل تقاسيم الحياة البشرية وما يحتاجه الانسان قد تصدى له العلم ووضع له مخارج واستنادات وأسس جعلت الحياة وكيفية العيش بها أكثر سهولة وليست عصيَّة على التكيَّفِ والتوافق .

فبالعلم تطوَّر الطب من القديمِ الى الحديث وعلى اسسهِ حوصرت العديد من الأمراضِ التي كادت تفتك بالإنسان، بالدفعِ العلمي والرغبة في السعي نحو النبوغ لخدمةِ ذلك الانسان، وما زال العقل الانساني يسعى علمياً لرصدِ والتحقيق بكل ماله صلة بصحةِ الانسان وتطبيبه، فلو شهدنا انحساراً علمياً وتهالكاً واضحاً ومطلقاً للسعي العلمي، لما آلت اليه الظروف البشرية لما نلحظه اليوم من صورٍ مزدهرة على الاغلبِ، على الرغمِ من التفاوتاتِ في هذهِ الظروف من جيدٍ الى سيء وبالعكس بين اقوام واخرى، والتي تعود الى المدياتِ التي استُغل بها العلم وتم تطبيقه في العديدِ من المجتمعاتِ وانعكاسات ذلك على واقعِ الانسان .

على ان الامتدات العلمية لم تشمل كافة بقاع الارض بنمطٍ واسلوب وتعامل وتقبَّل وقدرة على التمكينِ بشكلٍ واحد، وانما اختلفت المسألة من قدراتٍ بشرية الى اخرى وبحسبِ وعي العلم وتوظيف المُمكنات لتوطينهِ وتطويرهِ وجعله دافعاً لكلِ تطوَّر مُمكن ان يُسهم برفدِ الحياة بمقوَّماتِ بقائها ونهوضها بالشكلِ المطلوب .

ولمسنا على مدى سلسلة العيش البشري صولات وجولات علمية اطاحت بالتخلفِ بل سارت جنباً لجنبٍ مع كل ما من شأنهِ رفعة الانسان والمضي به نحو واقعاً اكثر وعياً وفهماً لما يدور حوله، فقد اخترق الانسان اليوم الفضاء وبات يبحث عن مساراتِ عيش ونمو خارج نطاق تموضعه، ولم يكن قادراً على الوصولِ لهذا المستوى لولا النبوغ العلمي والتراكمات التي دعت الانسان للكشفِ عن والبحث في اقبيةِ المكنونات عن اسرارٍ وطلاسم ممكن حلها وايجاد مفاتيح لشفراتها بغية لي عنق الواقع والسيطرة على ظروفهِ ومشكلاته، وللعلومِ ايضاً حضوراً في الكيمياءِ والفيزياء والطبيعة والبيولوجيا وكل ما من شأنهِ ان يكون مُلاصقاً لحياةِ الانسان، فضلاً عن التطوَّرِ العلمي وفق الميادين الاجتماعية والانسانية وكيف اسهمت عجلة العلم في التراكمِ المعرفي وتأسيس منظومة فكرية واطروحات ناضجة مُمكن ان تُطبَّق على ارضِ الواقع وشحذ الفكر الانساني لتأسيسِ رؤى فكرية ينبغي ان تُترجم لتحقيقِ رغبات واهداف البشر نحو الصلاح .

وهذا هو ما ينبغي ان يكون وهو الدور الرئيس لما يُفترض ان تؤديه العلوم وغاية المُشتغلين بها، لكن هل فعلاً استطاعت المنظومة العلمية خلال مراحل سيرورتها ان تشق طريقها بثباتٍ، بحيث تعكس اهميتها وثقلها كمرتكزات يستند عليها عالم اليوم ؟

ان كانت العلوم والبيئات التي تحتضنها قد نجحت وحققت ازدهاراً واضحاً في مساحاتٍ واسعة من الرقعةِ البشرية، فهي قد فشلت فشلاً ذريعاً في اماكنٍ ومديات اخرى، فلم تكن هذهِ العلوم عاصماً للكثيرِ من الخذلان والتدهور والتدني والتراجع، والمسألة لا تعود قطعاً للعلمِ بحدِ ذاته، بقدرِ ما يتعلق الامر بالمشتغلين وقدراتهم على السيرِ بهذهِ العلوم نحو الرقي ليُنتج على اساسها كل ما هو قادراً على رفدِ الحياة البشرية بمفاتيحِ تسيير امورها والتغلَّب على الصعوباتِ بشتى اشكالها، اذ عكست القدرات العبثية لبعضِ المُشتغلين بالبحثِ العلمي نتاجاً هزيلاً ومأساةً اصابت العلم بدحرهِ واندثاره ورجوعه القهقرى . 

فاليوم توجد مجتمعات وكأنها لا تعيش عصر بزوغ الفجر العلمي والثورة العلمية، بمسبباتٍ كثيرة عملت على الاطاحةِ بمسيرة تقدَّمها وتحجَّرها عند حدودِ التخلَّف والانهيار والانزلاق نحو الهاوية، اذ اجتمعت الظروف المادية والبيئية والسياسية والاجتماعية ومنظومة الوعي لعرقلةِ الصياغات العلمية، وبالتالي الاطاحة بسبلِ نهوض المُجتمعات ومسايرة الامم وتقدَّمها، ولعل من الامورِ التي تُثير الكثير من هواجسِ الرعب والخوف هي المراحل السطحية التي وصلت لها العلوم عند بعض الشعوب والثقافات، بحيث يتم العمل بها دون جدوى ودون فائدة تُذكر، بل دون تخطيط يوظَّف العلم بصورهِ الصحيحة ويُسهم بزيادةِ التراكمات العلمية عليه والى مزيدٍ من الاتساعِ نحو الافضل .

فالواقع اليوم يُشير الى تردٍ واضح ونكوصاً كبيراً في كيفيةِ استغلال العلوم وتوظيفها لما هو مُناسب، حيث ان الكثير اليوم يعملون بالبحثِ العلمي، لكن ليس جميعهم له القدرة على توظيفِ العلم بالشكلِ الامثل وليس جميعهم قادراً على التراكمِ عليه، والاخطر من ذلك ان عدداً منهم اصبح هو من مُسبَّبات تراجع العلوم وتسفيهها الى الحدِ الذي باتت لا فائدة ترجى منها الا بقدرٍ يسير، اذ يفتقرون الى المامٍ على مستوى عال بأهميةِ ما يمكن ان يعمله العلم، لذلك تصبح المسألة عكسية بالسلبيةِ، والكثير من هذهِ الامور تؤشَّر لضمورِ الوعي واندثاره بجدوى العلم وما يُمكن ان يفعله اذا وظَّف بصورهِ الصحيحة واستُغل بشكلٍ يمكن من خلالهِ فتح افاقاً ارحب .

فلا يمكن لعلمٍ ان ينهض ويستمر في التراكمِ والبزوغ بشكلٍ امثل من تلقاءِ نفسه، وانما يحتاج الامر لمعطياتٍ وظروف تمنحه الاتساع والانتشار وتحقيق ما هو مطلوب، واذا حُكم عليه بخلافِ ذلك وبمُشتغلين لا يفقهوا شيئاً من ماهيتهِ ومكنوناته ووظائفه، فسيلفظ انفاسه الاخيرة وبالتالي انحداراً  وتقهقراً واضحاً في مستوياتِ العيش الانساني والتغلَّب على المشكلاتِ وبعدها خسارة الانسان كمُحصَّلة اخيرة . 

 

أ. د. مازن مرسول محمد

 

في المثقف اليوم