قضايا

النهضة العلمية في الحضارة المصرية

محمود محمد عليلا شك في أن أقدم الحضارات الإنسانية قد ظهرت في الشرق، وخاصة في تلك المنطقة التي نعيش فيها الآن ؛ حيث ظهرت منذ عدة آلاف من السنين حضارات مزدهرة في أودية الأنهار الكبرى - كالنيل والفرات، وإلي الشرق منها في أنهار الهند والصين . وتدل الآثار التي خلفتها تلك الحضارات المجيدة علي أنها كانت حضارات ناضجة كل النضج، بالقياس إلي عصرها، ومن ثم كان من الضروري أن ترتكز علي أساس من العلم .

يقول المؤرخ الفرنسي "جوستاف لوبون": " كان الناس منذ سنين قليلة يظنون أن اليونانيين هم أصل العلم والحضارة، وأن علومهم وفنونهم وآدابهم من مستنبطاتهم، وأنهم غير مدينين بشئ لمن سبقهم من الحضارات القديمة، ثم جاءت نتائج التقنيات الآثارية في مصر ووادي الرافدين والهند والصين وغيرها، فتغيرت هذه المفاهيم تغييراً جذرياً، واقتنع المؤرخون أن الشرق القديم هو منبع العلم والحضارة، ففي الوقت الذي لم يكن فيه اليونانيين الأقدمون إلا جهلة برابرة كانت الإمبراطوريات الزاهرة قائمة على ضفاف النيل ووادي الرافدين ومصر، وقد نقل الفينيقيون إلى اليونان منتجات الفنون والصناعة المصرية والآشورية، وبقى اليونانيون دهراً طويلاً يقلدونها تقليداً قليل الإحكام، وأن اليونانيين يدينون بالفضل في ازدهار حضارتهم وعلومهم وفنونهم وأنظمتهم ومعتقداتهم إلى من سبقهم من أمم الشرق، وقد كان مشرعو اليونان يستسقون العوائد المصرية والقانون المصري الذي يبحث فيه العلماء عن مصادر القانون الروماني الذي تولد منه قانونا الحاضر " .

هذا ويقسم علماء الحضارات القديمة، الحضارات إلى قسمين: أصلية ومكتسبة، والحضارات الأصلية التى اكتشفت هى حضارة وادى الرافدين، وحضارة الهند والصين. أما الحضارة الكريتية واليونانية والرومانية وغيرها من الحضارات المعاصرة، فهى حضارات مكتسبة لأنها بنيت على أساس الحضارات الأصلية كلاً أو بعضاً .

وقد تميزت كل حضارة من تلك الحضارات الأربع الأصلية بميزات خاصة مثل اللغة ونظام الكتابة والفن وأسلوب الحياة.. الخ، وذلك على الرغم من انتشار عناصر الحضارة من مركز حضارى إلى آخر، فلقد اختلف فن العمارة فى مصر عنه فى وادى الرافدين – على الرغم من وجود روابط قوية بين الحضارتين – فلقد اتصلتا قبيل الأسرة الأولى " قبل 3200 ق.م" فى أوائلها وأعجبت مصر بفن السرمريين فى ذلك الوقت وبعض مظاهر حضارتها واقتبست منها شيئاً من طريقة رسم الحيوانات وأخذت عنها الختم الاسطواني وبعض المظاهر الفنية، ولكن العناصر الاساسية لحضارة مصر ظلت مصرية صميمة، نشأت فى وادى النيل، ولهذا لم تلبث حتى تركت من تلك المظاهر ما لا يتفق مع حضارتها وذوقها وعدلت فيما قبلته منها

كذلك لم تكن هذه الحضارات فى مستوى علمى وحضارى واحد؛ بل كان بعضها متقدماً على الآخر فى بعض النواحى، فمثلاً كان الطب متقدماً فى وادى الرافدين. أما أهل وادى الرافدين، فكانوا أكثر تقدماً فى الحساب، لأنهم كانوا أكثر اعتماداً على التجارة فى حياتهم.

وفيما يلى يمكن لنا أن نعرض باختصار لملامح ومظاهر النهضة العلمية فى حضارات الشرق القديم. وقبل أن نعرض لتلك الملامح والمظاهر نود أن نعطى نبذة تاريخية لكل حضارة من تلك الحضارات.

فمثلا وقد نشأت مجتمعات زراعية مستقرة على ضفاف النيل قبل عصر الأسرات بآلاف السنين، وقد أدى الاستقرار والرخاء الاقتصادى المصاحب له إلى ظهور قدر كاف من المركزية السياسية . كل ذلك ساعد مع عوامل أخرى عديدة على نشأة العلم وتطوره فى وادى النيل، وإن كانت هذه الوحدة السياسية لم تكن شملت بعد جميع أرض مصر؛ بل كانت هناك وحدات سياسية صغيرة متعددة انتهت بعد معـارك وحروب طويلة إلى تكوين مملكتين ؛ إحداها فى الوجه البحرى " شمال منطقة الفيوم " والأخرى فى الوجه القبلى، والتى إمتدت من منطقة الفيوم حتى الشلال الأول " أسوان وهى سيتى القديمة ".

كما كان لنهر النيل تأثيراً كبيراً فى تاريخ العلوم المصرية، فضرورة المحافظة على مجراه واستعمال مياهه علمت المصريين هندسة الأنهار وما يتبعها من مساحة الأراضى؛ ولما تفقدوا السماء وجدوا فى حركات نجومها واسطة للاستدلال بها على ميعاد فيضان ذلك النهر العظيم -  ومن ثم بدأ اهتمامهم بالفلك واتسعت دراستهم له، ولما كان الفيضان إذا طغى على الأراضى محا معالم الحقول، لذلك تفنن القوم فى إبداع المقاييس ومعرفة المساحة، ولما زاد اهتمامهم بالفـلاحة اقـنع الفـراعنة رعاياهم بأن المحافظة على الحـدود والأمـلاك الشخصية أمر مقدس تجب مراعاته ويتحتم احترامه.

وبديهى أن كل زوال للفيضان كانت تعقبه مشاحنات ومضاربات، ومن هنا نشأت ضرورة سن القوانين وتوقيع العقوبات، وهكذا أجبر سكان واديه على أن يضعوا لأنفسهم أسس العلوم والقوانين والنظم السياسية.

ثم بدأ القوم يشيدون العمارات الضخمة لدور الحكومة أو التعقيد فعمدوا إلى النيل بوصفه الشريان الرئيسى للتجارة الداخلية، لينقلوا بواسطته تلك الكتل الضخمة التى شادوا بها آثارهم الباذخة. وبهذه الطريقة وحدها تمكنوا من تشييد الأهرامات ونقل الجرانيت من أسوان إلى أنحاء القطر "مثل منف وتنيس - الواقعة بالقرب من البحر الأبيض المتوسط ".

ومن ثم برع قدماء المصريين منذ أقدم العصور فى صناعة السفن، فابتكروا المجاديف والقلاع والقمرات - وغير ذلك من وسائل الراحة فى السفر ومساحة الأراضى وكيل المحاصيل وتوزيعها مما دفعهم إلى معرفة أصول الحساب من جمع وطرح وضرب وقسمة؛ وكذلك فن المعمار دعاهم إلى معرفة الهندسة الفراغية. وإلى النيل أيضاً وتطوراته الطبيعية يرجع الفضل فى معرفة المصريين لطريقة قياس الزمن، فقد تنبهوا فى القرن الثالث والأربعين قبل الميلاد إلى أن السنة الشمسية تتكون من 365 يوماً. ويعتبر هذا الاكتشاف الميقاتى واستعماله فى الشئون الدنيوية " وأهمها الزراعة وقتئذ " خطوة كبيرة نحو الرقى وشرفاً عظيما للوطن الذى اكتشف فيه . وقسم المصريون سنتهم إلى إثنى عشر شهراًُ، والشهر إلى ثلاثين يوماً وذلك حفاظاً للنظام وتسهيلاً للمداولات. وهكذا أثبت سكان وادى النيل أن التوقيت شئ عرفى يصطلح عليه القوم.

ومن ناحية أخرى فقد برع القدماء المصريون فى مجال الطب، حيث تقدموا تقدماً هائلاً فى طب التشريح وطب العيون والطب الروحانى والطب البيطرى وطب الأسنان وطب العقاقير، واهتموا بعلاج الكسور والأورام… وهلم جرا.

كما تقدموا فى مجال الكيمياء، حيث كشفت المعلومات الكيميائية التى خلفتها البرديات، بأن المصريين القدماء كانوا يصبغون أنسجة ملابسهم وحوائط مبانيهم بألوان ما يزال بعضها زاهياً حتى اليوم. كما مكنتهم ثقافتهم الكيميائية من تحنيـط جثث ظلت سليمة لمـدة تقـرب من الأربعة آلاف عام.

وللحديث بقية

 

 

بقلم د. محمود محمد علي

 

 

في المثقف اليوم