قضايا

كيف اتسعت الهوة بين العلم والإنسانيات

محمود محمد عليمنذ زمن بعيد وللعلم علاقة مضطربة بغيره من أوجه الثقافة بدليل محاكمة جاليليو Galileo (1564م-1642م) بدعوى الهرطقة في القرن السابع عشر أمام الكنيسة الكاثوليكية التي لم تعترف رسمياً بخطئها إلا منذ فترة قليلة، أو بدليل الهراء الذي كتبه الشاعر" وليم بليك William   Blake (1757م-1827م) ضد نظرة "إسحاق نيوتن Isaac Newton (1642م-1727م)" الميكانيكية للعالَم .أما نظرة الأدباء إلي العلم فهي تتمثل في شكلها الانتقادي، بكلمات " جوزيف كراتش"، حين يقول: " لقد خاب أملنا في المختبر لا لأننا فقدنا إيماننا بحقيقة ما يتوصل إليه من نتائج، وإنما لأننا فقدنا إيماننا بقدرة هذه النتائج علي مساعدتنا بالشكل الكامل الذي كنا نرتجيه ".

وهذا أيضا نفس ما ذهب إليه "جورج جيسنغ" George Ginseng، أحد القصصين في العصر الفيكتوري إذ يقول: " إنني أمقت " العلم" وأخشاه استناداً إلي قناعتي بأنه سيكون للبشرية عدواً فاقد الضمير، وذلك لمدة طويلة جداً إن لم يكن للأبد . إني لأراه وقد أتي علي كل ما في الحياة من بساطة ووداعة وكل ما في هذا العالم من جمال ؛ إني لأراه وقد أعاد الهمجية تحت قناع المدنية ؛ إني لأراه ينشر الظلام في عقول البشر ويقسي قلوبهم ؛ إني لأراه يجر في أعقابه عهداً من المنازعات الكبري أين منها " الحروب الألف في العالم القديم " ويبعثر جميع الجهود التقدمية التي بذلها البشر في بحران دموي من الفوضي".

وثمة مثل آخر علي هذه النظرة مأخوذ هذه المرة من الفيلسوف الألماني شلينج، إذ يسجل احتجاجه ضد "تلك الطريقة العمياء الخالية من التفكير في تفحص الطبيعة، التي رسخت قواعدها بشكل عام منذ أن عمد فرنسيس بيكون Francis Bacon (1561م-1626م) إلي إفساد الفلسفة ومنذ أن قام " روبرت بويل"Robert Boyle (1627م-1691م) ونيوتن بوضع أسس الفيزياء ".

وثمة فئة ثانية من معارضي العلم تستاء مما يواكب التصنيع والتكنولوجي من أمور قبيحة أو سيئة كأن يفقد الإنسان عمله، مثلا بسبب التحسينات التكنولوجية أو الأمراض الناشئة من نوع العمل الذي يقوم به، أو التكتل ضد هذه المصلحة أو تلك، أو بسبب ما تشيعه الحروب من دمار في أيامنا هذه، الخ ... ويشعر الذين ينتمون إلي هذه الفئة من المعارضين أن العلم، ومن ورائه الآلة التي أوجدها، قد أديا إلي إسفاف الحياة البشرية وجعلها تسير علي وتيرة واحدة . لذلك نراهم يدعون للعودة إلي المزرعة والقرية والمشغل اليدوي .

ومن ناحية أخري تساءل بعض الباحثين:هل يؤدي التقدم العلمي والتكنولوجي البارز في هذا العصر إلى تهميش البحث في الإنسانيات؟.

وفي هذا الصدد يؤكد الدكتور "أحمد أبو زيد" فيقول:" يشعر كثير من المفكرين والكتاب والأكاديميين في الخارج بالقلق إزاء الوضع الحالي للإنسانيات ومدى قدرتها على الصمود في المستقبل أمام التقدم العلمي الجارف الذي يبدو أنه لن يتوقف عند أي حدود، وتوجيه الدول في العالم المتقدم معظم اهتمامها إلى تحقيق مزيد من الإنجازات التكنولوجية المتقدمة والمعقدة، والانصراف بشكل واضح عن الاهتمام بالبحوث والدراسات الإنسانية ما أدى إلى تراجعها وعدم إقبال الأجيال الجديدة على التخصص في مجالاتها المختلفة، على عكس ما كان عليه الحال في النصف الأول من القرن الماضي، ما قد يكون له آثار سلبية في المستقبل على العلاقات الإنسانية، وتفاقم المشكلات الاجتماعية التي بدأت تطفو بالفعل على السطح بكثرة، وتقض مضاجع المسئولين أنفسهم نتيجة لغياب القيم والمبادئ الدينية والأخلاقية التقليدية، التي تعتبر الركيزة الصلبة التي يقوم عليها بناء المجتمع الإنساني" .

فإذا كان ثمة ما يقال، فإن الهوة قد اتسعت بين العلم والإنسانيات، كما بيَّن " تشارلز بيرس سنو Charles Percy Snow (1905م-1980م)" في مقاله الكلاسيكي «الثقافتان والثورة العلمية» عام 1959؛ وهذا المقال كان في الحقيقة عبارة عن محاضرة ألقاها سنو في جامعة كامبردج عرفت باسم " محاضرة ريد " وسبب هذه المحاضرة ملاحاة شديدة وجدلاً عنيفاً بين مؤيد ومعارض . وفيما بعد نشر " سنو " هذه المحاضرة في كتيب يحمل العنوان " الثقافتان والثورة العلمية " . ويذهب " سنو " في محاضرته إلي وجود هوة سحيقة ضارة تفصل في الوقت الراهن بين العلوم في جانب، والثقافة التقليدية التي يشكل الأدب جزءاً في جانب أخر .

وكان الجدل الذى طرحه سنو يتمثل فى تأكيده أن الثقافتين منفصلتان تقريبا بلا تواصل، ولا يدرى أفراد كل فئة الكثير عن نشاط الفئة الأخرى. الكارثة أن أفراد الثقافة العلمية، قلما يقرأون الأدب أو التاريخ مثلا، وأفراد الثقافة الأدبية لا يعرفون إلا أقل القليل عن القوانين العلمية حتى أبسطها كقوانين الكتلة أو عجلة التسارع .

وأضاف أن هذه الهوة ليست جديدة . إذ أنها كانت قائمة بدرجات متفاوتة منذ ما أسماه بالثورة العلمية " التي بدأت علي أقصي تقدير ما يقرب من نصف قرن تقريباً ) . وكانت نتيجة هذه الهوة الثقافية، أننا نري المفكرين الأدباء في واد، والعلماء في واد أخر، وقد تقطعت بينهم كل اسباب التفاهم، وتمزقت كل وشائج الاتصال، ويقول " سنو " في هذا الشأن: " اعتقد أن الحياة الفكرية في جميع أنحاء المجتمع الغربي تزداد في انقسامها واستقطابها إلي مجموعتين: هما مجموعة المفكرين الأدباء في جانب، ومجموعة العلماء في الجانب المقابل " .

ويستفيض " سنو " في حديثه عن هذه الهوة التي تفصل بين الأدباء والعلماء، فيقول: " ونحن نجد ان هوة من سوء التفاهم المتبادل، بل من العداء والكراهية (وبخاصة في نفوس الشبان) تفصل بين الأدباء والعلماء، ولكننا في أغلب الأحيان نجد انتقاء التفاهم بينهم " ويعمل سنو علي إقامة جسر ليصل ما انقطع من أسباب الوصل بين أصحاب هاتين الثقافتين اللتين آل أمرهما إلي الانفصام التام . ورغبة منه في التوفيق بين هاتين الثقافتين، يقترح سنو علي بني جلدته الانجليز إعادة النظر في برنامجهم التعليمي بقصد تخريج أدباء يلمون بقدر من المعرفة العلمية والأدبية . والرأي عنده ان الأدباء يجهلون أبسط الحقائق العلمية فهم يعجزون عن تعريف أبسط مصطلحات العلم مثل الكتلة والسرعة والقانون الثاني الديناميكا الحرارية . ويتهم سنو معظم المشتعلين بالفنون والآداب في القرن العشرين مثل بيتس وازرا باوند وويندهام لويس بالرجعية ويصفهم بأنهم ليسوا سخفاء من الناحية السياسية فحسب بل أنهم أشرار أيضاً . كما أنه يتهمهم بالإسهام في التمكين للفاشية والتمهيد لمعسكرات الاعتقال النازية . ولكن "سنو" لا يلقي تبعة الهوة الثقافية علي الأدباء وحدهم فنصيب العلماء من المسؤولية لا يقل عن نصيب المشتغلين بالفنون والآداب . ويقول سنو أن خيبة الأمل تصيبه عندما يجد ان معظم العلماء لا يفقهون شيئاً من أعمال ديكنز الأدبية .

الكارثة إذن أن أفراد الثقافة العلمية، قلما يقرأون الأدب أو التاريخ مثلا، وأفراد الثقافة الأدبية لا يعرفون إلا أقل القليل عن القوانين العلمية حتى أبسطها كقوانين الكتلة أو عجلة التسارع. مثل هذا الكلام، الذى يجب أن يطلع عليه المثقفون من الفئتين . وهنا يشير "سنو" إلى الانفصال بين الثقافتين الذى من شأنه أن يضر بالمجتمع، ذلك أن الثقافتين كلتيهما من ضروريات تقدم الأمم محلياً وعالمياً، وأن استمرار هذا الانفصال يعوق كثيرا من تقدم المجتمع، ورفاهة الإنسان عموما. الكتاب يفضح ما يفعله المثقفون من الجانبين. نعرف أن معظم مثقفينا التقليديين، لا يقرأون إلا فى الأدب أو التاريخ، أو كل ما يخص العلوم الإنسانية، ولا يقتربون من العلوم الطبيعية إطلاقا. وقد يتباهى البعض بأنه يعرف علم النفس أو القليل من الفيزياء. وعن هذا يقول سنو: « لدينا مجموعتان مستقطبتان: هناك عند أحد القطبين مثقفو الأدب، وهؤلاء فيما يعرض أخذوا فى غفلة من الأنظار يشيرون لأنفسهم على أنهم «المثقفون»، وكأنه لا يوجد مثقفون غيرهم». ولتوضيح رأيه، أشار سنو إلى استخدامنا إلى كلمة intellectual التى تعنى مفكراً عقلانياً أو مثقفاً، وهى لا تنطبق مثلاً على علماء الفيزياء أمثال «روذرفورد»، و«إدنجتون»، و«أدرياك .

ويذكر سنو أن غير العلماء ينحون إلى التفكير فى العلماء على أنه فيهم وقاحة وتبجحاً، ويشير إلى أحاديث الناقد الإنجليزي الكبير ت.س. إليوت التى أكد فيها: «أنه لا يمكن لنا أن نأمل إلا أقل الأمل». في حين نرى صوت عالم الفيزياء «روذرفورد» يقول: «هذا هو العصر البطولى للعلم، هذا هو العصر الإلزابيثى !». ويكمل سنو أنه «يوجد لدى غير العلماء انطباع مغروز بعمق بأن العلماء متفائلون تفاؤلا فيه ضحالة، وغير واعين بحال الإنسان. والعلماء من الجانب الآخر يعتقدون أن مثقفى الأدب ينعدم لديهم تماما أى تبصر بالعواقب، وهم على وجه خاص لا يهتمون بإخوانهم من البشر، وهم بمعنى عميق ضد العقلانية، ويعملون بلهفة على أن يقصروا كلا من الفن والفكر على اللحظة الوجودية .

وهنا نعيب علي سنو في أنه دافع عن العلماء دفاعاً ضارياً، حط فيه من شأن الأدباء، واصطنع لهم عدواً وهميا. لعل ذلك وقتها كان منطقياً بعض الشىء، حين كان الطلاب يقبلون على الدراسة الأدبية، وقليل منهم من يقبل على الدراسة العلمية؛ لأن الطريقة الملكية وقتها لم تكن للعلم وكانت للآداب والحقوق، وكان الأدباء يلقون اهتماماً واسعاً من الجمهور والملوك، لكن هذا الأمر تغير الآن تمامًا، أنظر إلى ما يحدث فى الغرب، حيث يتحدث العلماء بطلاقة وكل غرور، وتراجع الأدباء بشدة».الملاحظ أن سنو لم يحط من شأن الثقافة الأدبية أو الثقافة العلمية، بل أكد ضرورة الإلمام بهما معا، بدون انفصال.

لتكن الحياة الأكاديمية علي ما هي عليه،فثمة أيضا رؤية جديدة مطروحة بشأن الهوة بين الثقافتين (الثقافة الأدبية والثقافة العلمية) ظهرت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين . رؤية لم يكن ليحلم بها سنو .وأشير هنا إلي شئ تطور، إلي ظاهرة تسمي حروب العلم في أواخر تسعينيات القرن العشرين ؛ والتي قال عنها " جيمس تريفل:"... ولا عليك إن لم تكن قد سمعت شيئا عن هذه الحروب، وذلك لأن أغلبية العلماء لم يسمعوا عنها أيضا (وكثيرا ما تساءلت في دهشة عما إذا كان بالإمكان القول بأن ثمة حرباً قائمة بينما أحد طرفيها لا يدري  بها) .

ومن هذا المنطلق فلقد شن أنصار العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية هجوما عنيفا علي صحة العلم، حيث رأوا أن أحكام العلم لا تعبر عن وقائع طبيعية، ولا تنطلق من أساس تجريبي أو واقعي معين، إنما تنبع من أحكام سابقة سبق أن حصل الاتفاق حولها بنسبة ما، فتكون أحكام العلم مقبولة لدى جماعة العلماء، وهذا القبول لا يأتي من كونها تحمل تفسيرا صائباً لوقائع معينة، ولا من كونها تتمتع بموضوعية ما، بل إن ذلك القبول مشروط بالتضامن بين الجماعة التي تأخذ بها لاعتبارات ظرفية. وهذا أدي إلي قلق كثيرين في الأوساط العلمية ؛ خاصة ما جري للغة البناء الاجتماعي من استبدال وتغيير بعض المصطلحات ومحاولة السيطرة السياسية للعلم في المجتمع .

 

د. محمود محمد علي

مركز دراسات المستقبل = جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم