قضايا

سلوك الإنتحار!!

صادق السامرائيهل أن الإنتحار مَرض أم عَرَض؟!

هذا سؤال أمضيت أعواما أبحث عن جوابه من خلال ما قرأت وبحثت ولاحظت وعرفت وأدركت، ووجدت أنْ لا مناص من الإعتماد على الملاحظة السريرية والخبرة العلاجية، والتجارب المتنوعة في ميادين الطب النفسي.

وبعد مسيرة تفاعلية بحثية ذات منهج إدراكي ومعرفي، أخذت الحالة تتبدى على غير ما هي عليه.

فأدب الطب النفسي المتعلق بالإنتحار غزير ومتواصل منذ عقود عديدة، ولا يخرج من ذات النمطية الراسخة، التي تنص على أن الإنتحار عرض مرضي، وناجم عن أمراض أخرى كالكآبة والذهان وغيرها.

فالمصاب بالكآبة يتحدث عن الإنتحار، ويُقدِم عليه وقد ينفذه بنجاح، وليس كل كئيب يبدي نوازع إنتحارية، بينما في هذه الدنيا ينتحر شخص في كل أربعين ثانية، أي أن ثلاثة من بشر الأرض  ينتحرون كل دقيقتين.

وإذا كان الإنتحار عرضا لمرض الكآبة، ونحن ندّعي بأن قدراتنا العلاجية للكآبة  قد تطورت، وإمتلكنا أنواعا من الأدوية المضادة لها والشافية منها، وكذلك التداخلات العلاجية الأخرى، فمن البديهي أن تقل نسبة الإنتحار، ما دمنا قادرين على علاج أهم أسبابه.

لكن واقع الحال الدامغ يشير إلى أن الإنتحار لم ينقص في العقود السابقة، والتقارير والإحصاءات والبيانات تشير إلى ثبات النسبة أو زيادتها.

وهذا معناه أن علاج الكآبة لا يعني بالضرورة التقليل من الإنتحار أو منعه،  وكذلك علاج الأمراض العضوية الأخرى.

والكثير من حالات الإنتحار لا تمت بصلة لمرض نفسي أو عضوي، وإنما هي نزعة متنامية في أعماق الشخص المنتحر.

وقد يستغرب الزملاء من تكرار دعوتي ومنذ أعوام، للنظر إلى الإنتحار على أنه إضطراب سلوكي قائم بذاته، فهو أصل وليس نتيجة، ومَرض وليس عَرض.

فالتعامل مع أي مرض على أنه عَرض لحالة أخرى، يعني فشل التشخيص وإضطراب العلاج، ولكي يتم علاجه لا بد من النظر إليه على أنه مرض.

فالربو مرض وليس عرضا، وداء السكر، وإرتفاع ضغط الدم ، هذه الأمراض وغيرها لها أسباب ومؤهلات وإستعدادات، لكنها ليست أعراضا لحالة أخرى إلا فيما ندر، وهي تعبيرات عن باثولوجية العضو والجهاز الذي تشير إليه.

ومثلها الإنتحار، فهو مرض يصيب الجهاز النفسي، ويدفع إلى القضاء على البدن الذي هو فيه.

وفي هذا تكمن مشكلة متواصلة، وهي أننا لا زلنا لا نرى أن المخلوقات فيها أجهزة نفسية كباقي الأجهزة الفاعلة في الأبدان.

وبنفينا للجهاز النفسي، في أكثر تقديراتنا ننسب الأمراض النفسية إلى أجهزة أخرى،  ونحسبها أعراضا لا أمراضا.

بينما ما نسميه بالأمراض النفسية هي حالات باثولوجية تصيب الجهاز النفسي، ومنها مرض الإنتحار أو إضطراب السلوك الإنتحاري، الذي هو مثل حالة الربو التي تصيب الجهاز التنفسي، أو مثل إضطراب دقات القلب وتأزمها كما يحصل لمرضى القلب، ويمكن القياس والمقارنة مع باقي أعضاء أجهزة أجسامنا.

وبناءَ على هذه الملاحظة السريرية، والتجربة العلاجية مع المصابين بإضطراب السلوك الإنتحاري ، يمكن تلخيص الإضطراب بما يلي:

أولا: الفكرة

الإنتحار فكرة تلِج وعيَ الشخص وتسيطر على مداركه وقدراته للتفاعل مع محيطه، وتبدأ مبكرا في أعمار أقل من خمسة سنوات، وتمضي متنامية معززة متقوّية بتراكمات سلوكية وتفاعلية مع المحيط، أي أنها فكرة تبحث دوما عمّا يؤهلها للتعبير عن نفسها وتحقيق غايتها وإنجاز هدفها.

والفترة ما بين ولادة الفكرة وتنفيذها تتناسب عكسيا مع المؤثرات المحيطية بأنواعها، لكن الفكرة ما أن تلد فأنها تتواصل خفية أو علنا بالتنامي والإنبثاق، ومن أخطر معززاتها إقرانها بمعتقد أو دين، يجرّد صاحبها من المسؤولية ويحوّلها إلى طقس سلوكي حتمي.

ثانيا: محاولات التعبير عن الفكرة

الفكرة الإنتحارية حال إحلالها في الشخص، تبدأ نشاطاتها ومحاولاتها للتعبير عن ذاتها، فترى الذي إمتلكته قد دخل في صراط الخضوع لها وترجمتها، فتحصل محاولات لتلمس السلوك الذي يرضيها، فتأخذ بإظهار ما يشير إلى منهجها، كأن يفكر وهو يقود سيارته بالإصطدام بسيارة أخرى، أو عندما يقف على شرفة بناية  ينتابه شعور بالقفز منها، وفي أي مكان يجد نفسه فيه، تستحوذ عليه فكرة تعبّر عن الخطورة الكامنة في ذلك المكان.

ثالثا: التكرار الفكروي

الفكرة الإنتحارية تغلي في أعماق الشخص، وتتواصل في الغليان والتردد المتكرر، وتكاد لا تبرحه وتهيمن على أرجاء تفكيره، أو أنها تستعبده بالكامل.

ففكرة الإنتحار تتحول إلى صدى لكل عمل يقوم به وسلوك يبدو منه، وما أن يفكر بشيئ حتى يجد ما يغريه بفكرة الإنتحار، وبعد أن تستحوذ عليه الفكرة يجد نفسه في محنة قاسية، ذات خيارات متفقة ومنهج الفكرة وتطلعاتها نحو غايتها.

رابعا: الصراع الداخلي

يعيش المصاب بإضطراب السلوك الإنتحاري صراعا مريرا مع الفكرة الإنتحارية، بل أنه يدخل في حرب طويلة معها، فمعاركها لا تنتهي ودوافعها تتنامى ووسائلها تتعاظم.

وتجد المصاب قد تحول إلى كتلة إنفعالية غاضبة على نفسه، وما يجربه ويقدم على أفعال عدوانية على الذات والموضوع، ويتملكه اليأس وتسفيه قيمة الحياة ومعنى الوجود ولماذا هو جاء للدنيا، وأن ولادته خطأ ولا بد من تصحيح الخطأ بالموت، وغيرها من الأفكار التي تجذبها  الفكرة الإنتحارية الأصيلة.

خامسا: الدريئة العاطفية

يتصف المنتحر في هذه الحالة بإنقطاع إنفعالي تام عن الحياة، فيُشعرك بأنه ميت نفسيا، وكأنه يتحرك كالمُنوّم أو المبتور.

فعندما تتحدث معه لا تستشعر حرارة الإنتماء للحياة، وإنما تكتشف تثلّجا إنفعاليا وتصنّما نفسيا قاسيا، لا يمكن للمنتحر أن يتحرر من قبضته، ولا يتواصل في مسيرة ذات قيمة وتطلعات مستقبلية، لأنه أعلن الحداد على نفسه، وأودعها في تابوت رؤاه وتصوراته القابضة على مداركه والموصدة لنوافذ أحاسيسه ومشاعره.

سادسا: التلذذ بالموت

من الظواهر التي تستعصي على التفسير، أن المنتحر لديه تجربة مَوْتية مُسبقة، كأن نجا من غرق، أو مرّ بحالة إغماء أو إختناق، أو أجريت له عملية جراحية كبيرة، وغيرها من التجارب التي ينقطع فيها عن وعيه ويدخل في عوالم أخرى، ذلك أنها تمنح الشخص الذي عاناها مشاعر لذيذة خيالية التوصيف والتصور، وهي أشبه بالفنتازيا أو السرابات التي توهمه بأنه في فضاءات ندية ذات أنغام رقراقة، تضفي عليه إحساسات بهيجة وسعيدة. ومعظم أصحاب هذه الحالات يُقدمون على محاولة الإنتحار مرارا، وكأنهم أدمنوا على هذا السلوك حتى تنجح محاولة بقتلهم.

 سابعا: التشريع أو المشرعة

أي أن الشخص يبدأ بمشروعه الإنتحاري، وهو كأي مشروع أخر يتطلب الإتقان والإنجاز، وتراه يضع الخطط ويراجعها، ويُخضعها للمحاولات والتجريب حتى يتعلم منها آليات التنفيذ الصائب.

ومع توالي المحاولات والمراجعات يكتسب الشخص خبرة، ويمتلك شجاعة متراكمة للإقدام على إنجاز المشروع، فالمنتحر لا ينتحر بغتة كما نتوهم، وإنما هو ينتحر عندما يبلغ مشروعه حد التمام والنضج التام، والجاهزية القصوى للتنفيذ.

ثامنا: الإنقطاع

حالما يبلغ المشروع الإنتحاري منتهاه ويصل إلى ذروته وأوان تنفيذه، ينقطع المنتحر عن ذاته وموضوعه، فتراه في إنفصال كامل عما يحيط به، وتجده يتصرف وكأنه في عالم آخر متخيّل، لما بعد الرحيل، ويمضي في التفتيش في عالمه المتصور لأيام وربما لأسابيع وأكثر حتى ينتمي إليه ويستلطفه ويذوب فيه، ويستشعر لذته ومتعته الكبرى بولوجه والإنتهاء فيه، وعندما تبلغ لذته المتخيلة ذروتها، ينقلب إلى ميادين خياله، وما يتلذذ به من تصورات وتفاعلات فنتازية، ويحبس نشاطه في آفاق خياله وتصوراته للحظة التي سيغادر إليها ويكون فيها، وفي منتهى شعوره بالمتعة يقضي على نفسه.

تاسعا: سلوك المخادعة

المُقدم على الإنتحار، والساعي لتنفيذ مشروعه، يعد العدة الكاملة للإنجاز، فيأخذ بخداع مَن حوله، فإن كان في ردهة نفسية  فأنه يفكر بوسائل مخادعة الفريق العلاجي، بأن يظهر فرحته وسعادته، فتراه يرقص ويغني، ويتزين ويعطي إنطباعا على أنه عاشق الحياة، وصاحب مشاريع وأهداف رائعة، يوهم الذين حوله على أنها مشاريع حياة، لكنها مشاريع ما بعد الرحيل.

وهذا السلوك قد يتواصل لبضعة أيام، حتى يتحقق الإطمئنان من حوله، فتكتشف أنه قد شنق نفسه ومات.

عاشرا: الإقران بدين

هذا الإقران ينطبق على جميع الأديان، فلكي يقوّي المنتحر إندفاعه ويسوّغ مشروعه، ويمنحه قوة تنفيذية عالية لا بد من إقرانه بالدين.

 

وهذا من أخطر الإقرانات، فحالما يجد المنتحر صيغة ما للربط بين مشروعه الإنتحاري والدين، فأن ساعة الصفر قد حانت، وأن الإنتحار لا بد منه وسيكون حتميا.

وهذه من العلامات السريرية الرئيسية الحمراء التي حالما نكتشفها في الشخص نتيقن بأنه سينتحر لا محالة، وسينفذ مشروعه الإنتحاري في أقرب فرصة سانحة.

فهذا الإقران قوة هائلة ذات طاقات شديدة دافعة نحو الختام الأكيد.

ولا يمكن تفسير هذا الربط الفتاك، الذي يزيد من قوة إندفاع المنتحر وتصميمه، وصولته على نفسه بإصرار فائق.

وختاما،  فالإنتحار إضطراب سلوكي إدراكي يبدأ في سن مبكرة، ولا يمكن لفكرة الإنتحار أن تداهم الشخص بغتة من غير سوابق، ومحاولات وتعزيزات وتسويغات وتحولات إنفعالية عاطفية، ذات طاقات سلبية تتقاطع مع الحياة، وتسفّه معانيها وقيمها وما يتصل بها ويشير إليها.

 وربما تكون المشاعر السلبية والتي نسميها كآبة (عند المنتحرين)، نتيجة وليست سببا، ودوامة تفاعلية لدفع السلوك الإنتحاري إلى الإزمان والإقامة في أعماق المنتحر، وجرّه  إلى إتمام التنفيذ والقضاء على بدنه.

والإنتحار إرادة ذاتية تمتلك قدرات نمائية، وكل إرادة تتحول إلى سلوك، ومنبع الإنتحار فكرة تحلّ في وعي المنتحر وتستحوذ على آفاق مداركه، وتسخر ما فيه من أجلها، ولا يمكن القول بأن الإرادة أنتجها مرض، وإنما هي بنت فكرة متسيدة ومستبدة فاعلة في دنيا البشر.

 ويبدو أن المحاولات الإنتحارية ذات قدرات ترغيبية لأنها تزيد من حماس التكرار، والكثير من المنتحرين لديهم تجارب موت لذيذة، تشدهم إلى التخلص من قيود المعاناة اليومية، التي أسسوا  لها كوسيلة لولوج بوابات الموت، الذي حسب خبرتهم فيه متعة غير موجودة فوق التراب.

ولكي نصل إلى تداخل علاجي فعّال، لابد من إبتكار وسائل مناسبة تمنع معاودة الأعراض والعلامات الإنتحارية، وجوهر كل فعل علاجي هو الإغراء بالحياة، وتوفير آليات إنتصارها على الموت في وعي ذوي الصيرورات الإنتحارية، الطافحة بالتنامي وإستحضار ما يؤهلها للتطبيق والتحقق والإنجاز.

وأي إستهانة أو إغفال، وعدم أخذ للحالة بجدية قصوى تنتهي إلى قضاء الإنتحاري على نفسه، وفي غضون لحظات معدودات، لأنه يمتلك إبتكارات موتية لا تحصى، لا يمكن تصورها وتصديقها.

وكلما إزداد الإنتحاري ثقافة وعلما،  تعقدت وسائله وتطرّفت آليات إنقضاضه على نفسه.

وأهم أساليب التصدي للسلوك الإنتحاري تتجسد بالوعي الإنتحاري، أي أن الذين يتفاعل معهم، كالعائلة والمعلمين والمدرسين وغيرهم، عليهم أن يكونوا على دراية ومعرفة بالسلوك الإنتحاري، وعدم إغفال ما يبدر من الشخص مهما كان عمره أو علمه.

فالإنتحار ظاهرة وبائية بشرية أرضية مستوطنة، فردية أو جماعية، يتم التعبير عنها بتصرفات وتفاعلات قد تبدو على غير ما هي عليه، وفي حقيقتها، ما هي إلا مشروع إنتحاري يسعى للتنفيذ الأبشع والأقسى.

ولا بد للمجتمعات أن تدرك أهمية التثقيف على الوقاية من الإنتحار، وأن يكون في المدارس والجامعات والأندية ودور العبادات، مَن يمتلك وعيا وقدرة على إلتقاط النزعات الإنتحارية، والتفاعل مع أصحابها مبكرا لقطع حبل تواصلها ومنع تطورها وتفاقمها، فالإنتحار فكرة تبدأ مبكرا ومبكرا جدا، لتغدوَ قوة مستبدة ومستعبد لحياة المنتحر حتى تُودي به وتنهيه.

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم