قضايا

المهابهارتا (ملحمة الهند الخالدة)

علي المرهجهي (الملاحم والفتن) في الهند القديمة أو ما أطلق عيها "أغنيات السماء" وسجل تاريخ الهند، أو (أوذيسة الهند الكبرى) وربما (إلياذتها) وقل عنا أنها (ملحمة كلكامش) عراقية بآلاف أبيات الشعر، وفيها مُشتركات في احتدام الصراع والانتصار للخير . فيها من الميثولوجيا بقدر ما فيها من ثقافة تُعرفنا بطبيعة الحياة والعلاقات الاجتماعية في الهند.

هي نص سردي ونثري مُكتنز بالمعاني الفلسفية والدفاع عن القيم الأخلاقية الخيَرة ونبذ مُضاداتها.

أعدَها المخرج البريطاني (بيتر بروك) بالتعاون مع الفرنسي (جان كلود كاريير) لتكون عرضاً مسرحياً بحلقات مُتلفزة وحوارية مُبهرة وتلخيص أخَاذ للملحمة.

ترجم هذا العمل المُترجم العراقي حسن ناصر عن مركز دراسات الكوفة، منشورات جامعة الكوفة ـ العراق ط1، 2018م، مراجعة الدكتور حسن ناظم.

ملحمة الهند الكُبرى هي "المهابهارتا"، هي ملحمة حيَةٌ لا زالت نابضة، وهي منبع الكتابات المُقدسة عند "الهندوسية". إنها روح الهند التي تسري بين سطورها، وفهمهم للكون والعالم والحياة وعلاقة الإنسان بالوجود والقيم والدين.

أبطالها مزيج من آلهة وبشر، وهي الأساس لجُلَ المُعتقدات والأساطير والتعاليم والشخصيات التي لا تزال تُحرك الحس الديني والفكري في الهند حتى يومنا هذا.

تعني كلمة "مها" في السنسكريتية الكامل والعظيم، فالـ "مهاراجا" تعني الملك العظيم. أما "بهارتا" فهو اسم أول الشخصيات التي ورد ذكرها في هذه الملحمة.

لهذا تكون الترجمة الأدق لمعنى "المهابهارتا" هو "الكامل في تاريخ البُهرة" كما يؤكد (جان كلود كاردييه) في ترجمته للملحمة بالاشتراك مع (بيتر بروك).

ترجم الملحمة عن الإنكليزية كملحمة هندية لا علاقة لها بنص (بيتر بروك) و (كاردييه) عبدالإله الملاح تحت عنوان (ملحمة الهند الكبرى)، منشورات دار الورود بدمشق، ط1، 2002.

926 المهابهارتاأشتقت من الملحمة ما كُتب عن (أفتار) وما اشتغلت عليه السينما العالمية في استلهام ما جاء في ملحمة (المهابهارتا) من معارك تُشير إلى آلات طيارة ومعرك هي أشبه بالمعرك بالسلاح النووي اليوم رغم أن تاريخ كتابة الملحمة يعود لألفي سنة قبل الميلاد، وبعض الدارسين يعتقد أنها حرب جرت في القرن العاشر قبل الميلفاء قداسة لاد، أو في القرن الخامس عشر. ولكن المهم أن أغلب الدارسين يؤكد وجود هذه الحرب وبأنها وقعت بالفعل، ولكن صياغتها ميثولوجياً واللعب على (دارامتيكية) الصراع بين (الخير والشر) واضفاء قداسة لفريق الخير مُستمدة من الآلهة، وكل ما في الفريق الثاني من شر إنما هو كامن في أنفسهم.

الملحمة تنتصر لأهل الخير حتى وإن حقق أهل الشر بعضاً من الانتصار المؤقت في قليل من الحروب.

في الملحمة انصاف للخير الذي يرتجيه الضعيف في خاتمة المطاف، فستمنحه الآلهة قوة يستمد كبرياؤه فيها من شغفه بالخير ومداد الآلهة على قاعدة "يضع سرَه في أضعف خلَقه".

الملحمة تدوين لحرب ضروس بين عائلتين من أصل واحد، (آل كورو) و (آل بانشالا) يحتدم فيها الصراع الدموي بين أبناء العم، لينتهي الصراع بين العائلتين بحرب ضروس كل فريق فيها يدَعي أنه هو من له الحق بالحُكم.

الملحمة عبارة عن تدفق معاني وحياة روحية وانسانية تبدو القيم الأخلاقية الخيَرة ناصعة بها على لسان (أرجونا) (الإنسان صاحب القيم المُثل) و(كريشنا) (الفيلسوف الحكيم الذي أدرك تجليات الصراع في الواقع، ولكنه في الوقت ذاته يستمد خيَريته وقوته من الإله (فيشنو) (إله الحُب) كي يُحافظ على هندسية ونظام الكون (الدارما) أو (الفضيلة) الذي وضعته الآلهة و(قائد المركبة).

حوَل جان كلود كارييه وبيتر بروك هذه الملحمة لعمل مسرحي ملحمي، وقد ترجمه من قبل عام 1996 ممدوح عدوان، طبع وزارة الثقافة السورية، وكُنت أتمنى على المترجم حسن ناصر أن يُبيَن أسباب ترجمته لهذه الملحمة مرة أخرى، هل في ترجمة عدوان بعض الثغرات؟ أو هل فيها بعض الضعف والارتباك على مستوى الأسلوب؟ أم فيها خلل في الأمانة العلمية؟، ولربما فيها ايجاز مُخلَ، لكن المُترجم والمُراجع لم يُشيرا لأسبقية هذه الترجمة!!.

تروي الملحمة سردية الصراع في سلالة "البهارتا"، وبعبارة مؤلفها الأول "فياسا": "إنها التاريخ الشعري لكل البشر".

رغم أن تأليفها يُنسب إلى "فياسا" أو "الفيدا فايسا" وهو من الذين نسخوا كُتب الفيدا، ومن كهنة "الفيشنو"، ويعدَه الكثير من الهندوسيين أنه من الخالدين. لكن تبقَ "المهابهارتا" من الأساطير التي ورثتها الشعوب عبر الرويَ والحكاية الشفاهية، لذلك لا يُمكن الجزم بأن ياسنا هو المؤلف الوحيد لها.

في الملحمة يبدو "كريشنا" وكأنه يُمثل شخصية "فياسا" بوصفه التجلي البشري للإله "فشنو"، وهو الذي يُسير الأحداث ويُغيَر المصائر.

يعتقد الهندوسيين أن قراءة "المهابهارتا" والتعلم منها إنما فيه صفاء للقلوب لأنها، أي، "المهابهارتا" كما يقول (فياسا): "صافية مثل الكريستال...إنها تغسل الذنوب وتشحذ العقول وتُطيل الحياة".

927 المهابهارتافي الملحمة بطولة تمثلت في إيثار وتضحية (بيشيما) ونزعة للحُب بين الإبن والأب وفق مبدأ الاعتراف بجميل التربية الذي يقتضي الإيثار والطاعة، "فمن أجل أبي الحبيب أُقسِم على أن أعيش زاهداً بكل شيء وألَا يعرف حُبَ النساء طريقاً إلى قلبي أبداً". هذا لأن أبيه أحب فتاة لم يقبل أبوها بتزويجها منه إلَا إن أصبح أولادها هم الحاكمون، فآثر (بيشيما) التضحية بالمُلك من أجل سعادة أبيه، لتصل تضحيته بعد أن يتزوج أبيه ويشب له ولد من بنت كبير الصيادين أن يُحارب بالنيابة عن كبيرهم الذي لم يكن فارساً ولا مُحارباً، وبعد انتصاره في المبارزة أهدى النساء اللواتي ربحهن لأخيه "الملك الشاب ابن أبي".

لم يكن (فايسنا) راوٍ للـ "مهابهارتا" إنما كان هو من يُمثل سبب الصراع فيها واحتدامه، لأنه تزوج من الفتاتين اللتين كسبهنا (بيشيما) في المُبارزة = (المباراة) ولأن أخيه مات قبل أن يدخل بهنَ، فأختير (فايسنا) ليكون زوجاً لهنَ، واحداهن أغمضت عينيها، حين الدخول بها، فكان الأسطورة تؤكد بأنها ستلد ولداً أعمى، والأخرى خائفة منه ولكنها ستلد ولداً آخر شاحباً!.

يبدأ الصراع بين ولديَ (فايسنا) الأعمى والشاحب، من هو الملك؟.

في حوار دراماتيكي بين باندو الشاحب وغزالة كان يرنو لصيدها:

ـ الغزالة: "الحكمة لا تدحض القدر بل القدر يدحض الحكمة.

ـ باندو: إلى ماذا ترمين أيتها الغزالة؟.

ـ الغزالة: كيف تُقَدِم يا باندو، وأنت ذو علمٍ عظيم، على قتلنا، حبيبي وأنا؟.

ـ باندو: للبشر الحق في صيد الغزلان، البشر عامة والملوك خاصة فما لومك؟.

ـ الغزالة: ألومك على جهلك بقيمة مُتعة الحُبَ.

ـ باندو: أصبتي في لحظةٍ تستلذها الكائنات جميعاً.

ـ الغزالة: وأنت تعلم أن لذَة الأناث تعلو على غيرها من اللذَات.

الملك الأعمى

في الملحمة يرد إسم (دريتاراشترا) الأعمى أخ (باندو) الذي يُقلَده (باندو) الحُكم بوضع وشاح حريري على كتفه بطريقة ملكية.

(كَانداري) زوجته المُستقبلية لم تعرف أنه أعمى، إلَا بعد أن أخبرتها خادمتها بالأمر، فتعجبت وقالت: "إذا كان أعمى فليس له أن يحكم إلَا في الليل...

الخادمة: إنه أعمى يا سيدتي.

كَانداري: لمن أصباغي إذاً، ولمن ثوبي إذا كان زوجي لا يراني، لمن ضفائري وحُمرة شفتي، لمن جسدي ولون عيني؟ أعطني وشاحي.

احتدام الصراع

في حوار (دراماتيكي) مُفعم بالأسى والحُب معاً بين (باندو) و (مادري) مع شخصيات أخرى ينتهي (فاياسا) بعد أن تذكر له أمه خبر إلقاء (مادري) لنفسها في النار بالقول: "لأن الأرض فقدت صباها يا أمي. ذلك الصبا الذي مرَ مثل حلم. كُل يوم إنما يمر بنا الآن نحو الاضمحلال والدمار.

أم (فاياسا): تُرى أي صراع رهيب ذلك الذي تتنبأ به يا ولدي؟".

تظهر شخصيتان في الملحمة هما (بيشيما) و (دورونا) وهما يبدوان مُماثليَن لشخصيتي (كلكامش) و (أنكيدو)، فكلاهما يُتقن الحرب والقتال، وكلاهما يُتقن الحُب والحكمة، ولكن اللقاء بين (بيشيما) و (دورونا) هو لقاء تعاون من أجل فض الصراع بين المُتنازعين.

الصراع يحتدم ولا خلاص منه، بين (دوريودانا) و (كارنا) كل واحد منهما يُمثل قوة من طرفي الصراع في العائلة، ورغم حكمة (دورونا) و (فاياسا) إلَا أنهما لم يتمكنا من منع القتال بين الأخوين غم اعلانهما الصداقة والاعجاب المُتبادل بينهما. ليختم (دورونا) بالقول: "القدر وحده الذي لا يُقهر".

الآلهة في الملحمة ثلاث:

ـ براهما: الخالق الذي لن نراه أبداً.

ـ شيفا المُدمر: المُشتعل الحاضر دوماً عند نهاية التاريخ.

كريشنا يظهر على هيأة بشر، وأفعاله خبيئة وسرَانية ولكنها تصبح واضحة بطريقة غامضة. يقول أن بإمكانه أن يوجد في كُل مكان هُنا وهُناك هو الماء وهو رجفة وريقة الشجر. إنه أنت في الُلبَ من كُل ذلك اللامرئي.

كريشنا يظهر في الملحمة وكأنه المُخلص للبشر من سوء أفعالهم، ليُبلغ البشر أن حياتهم في الأرض لن تكون بين حرب وسلام، بل "بين حرب وحرب". والحرب ربما تكون في داخل النفس، وربما تكون حرباً مع آخر. "دمار طريق الحق ودمار نظام العالم..ودمار الدراما العظيم، وهذا هو الأسوء"..

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم