قضايا

العَقْلُ البَصِيِرِيُّ

مجدي ابراهيمليس من شئ أهم ولا أولى بالعناية في القرآن من العقل، ولكن أي عقل؟ وبأي معنى؟ هل هو العقل المنطقي الاستدلالي أم العقل الإيماني الذي عن البصيرة ينشأ فيكون؟ إننا إذا تأملنا آيات القرآن الكريم نجد الحِثَّ على استخدام العقل بما يقرب من الخمسين موضعاً؛ فطلب المعقول إذن فريضة قرآنية. وبنور العقل عُرف الشرع. هذه بديهةٌ لا ينكرها أحد، لكنها من جانب آخر بديهة موقوفة على الإدراك العلوي والاستبصار الذوقي، وليست هى البديهة التي تتقرَّر في القرآن كما تتقرَّر حقيقتها في الفلسفة النظريّة.

رسالة العقل في الإسلام مع كل ما أشارت إليه آيات الكتاب هى حضور العقل فهماً عن الوحي، والعقل ها هنا ليس هو بعقل الفلاسفة، ولا هو بالحجة التي يستند إليها الفيلسوف في محاولة توفيقه بين الفلسفة والدين، إنمّا العقل هنا هو "نور الغريزة" الفطري، كما أراده الحارث بن أسد المحاسبي (ت 243ه)، جاعلاً إيّاه أساساً نستخدمه لفهم القرآن وللعلم به وللعمل على السواء.

وحضور العقل معناه حضور العلم في صدر العالم، ولا يتمُّ علم العلماء لهم، ولا لغيرهم، ممَّن يريدون منهم المعرفة ويستنبطون أحكامها ويتلقطون إشاراتها، فيتلّقون عنهم لطائفها حتى يكون العقل قائداً لهم وهادياً: " فأهلُ العلم بكلام ربهم عزّ وجلّ هم أهلُ الصفاء من الأدناس، وأهل الخاصّة من الله عزّ وجلّ الذين أشعروا فهمه قلوبهم وتدبروا آياته عند تلاوته بألبابهم". إنما العزلة عن العقل من قلة الدين، والبعد عنه هو بعدٌ عن التفهيم والتنوير، وهو كذلك بعدٌ عن التدين الرشيد. فإذا أحضر الإنسان عقله، وهو نور الغريزة لدى المحاسبي، فإنه متلقٍ مع ما في القرآن من نور ورحمة، وموعظة وبيان، وحق وبصائر. وحضور العقل على الحقيقة من جانب الإنسان يؤهله إلى أن يعظم عنده قدر ما ينال بفهمه من النجاة، وما في الأعراض عن فهمه من الهلكة.

ونحن لا تستغرب حين تجد كلمة العقل ومشتقاته ترد في القرآن تسعاً وأربعين مرة وتكرر مثل هذا التكرار على اختلاف الآيات التي ذكرت فيها مثلما تتكرر كلمة " النور" ومشتقاته، بنفس العدد تسعاً وأربعين مرة ممّا يحيطك علماً بأن العقل هنا هو نور الغريزة، وأن مدلول النور في القرآن قد يترادف مع مدلول العقل على المعنى الذي يكون فيه العقل فيضاً من الأنوار الإلهيّة.

وربط العقل بفهم القرآن من الضرورة العمليّة بمكان، بحيث لا ينفصل العقل البصيري عن أداء وظيفته العلويّة : شهود الفعل الإلهي في كل حال، واستبصار المرء للأشياء كونها من فعل الله. ومن شدّة توكيد القرآن على نور العقل في الهداية إلى الإيمان، أن الله قد جَعَلَ الرّجسَ على الذين لا يعقلون، والرجسُ هو السخط أو العذاب، فكأنه بهذا الاعتزاز بنور العقل كقيمة علوية تهدي الإنسان إلى حقيقة الإيمان يقرِّر بأن الذين لا يعقلون فلا يهتدون، هُم من ثمَّ أهلُ السخط من الله، وهم أهل للعذاب بما غيَّبوا العقل فمنعوه من الهداية وحجبُوه عن الإيمان:

(وما كان لنفس أن تؤمن إلّا بإذن الله ويجعلُ الرِّجس على الذين لا يعقلون).

لكأنما تعلقُ الإذن بالإيمان على المشيئة الإلهيّة هنا إنما هو إذن للعقل بتعَقُّل الإذن المعلّق على الله، وفي غياب إذن العقل لفقه الحكم (حكم المشيئة) يكون السخط ويحل العذاب؛ لأن في هذه الغيبة تعطيلاً للعقل لا يرضاه القرآن فيقرِّر السخط والعذاب على الذين لا يعقلون!

ولك إنْ شئت أن تسحب من فورك هذا المعنى لتطبِّقه على خصائص الحياة العقلية كما عرفتها العقول الرشيدة على وجهتها المثلى، وكما ينبغي أن تعرفها عقول الأمة الإسلامية في واقعها الفكري الراهن، فهل ترى في هذا الدين ما من شأنه أن يكبِّل حريّة العقل والتفكير، أو يقيِّد دور الفكر خاصَّة في حياتنا العقلية والروحيّة والثقافيّة ؟

فإذا أنت لم ترْ شيئاً من هذا كله، فقل: سبحان الله في أسرار هذا "الكتاب" الذي هو نعمة عظمى لقوم يؤمنون.

هذه الخاصيّة ( خاصية العقل البصيري) من الأهمية بمكان كونها ذاتية خاصّة للقرآن، وهى خاصيّة مستنبطة من الحارث بن أسد المحاسبي في كتابه الممتاز "العقل وفهم القرآن"؛ إذ أشار فيه إلى تعريف العقل كونه غريزة في طبيعة الإنسان، ولكنه مع ذلك لم يجعله غريزة وكفى بل نراه يقضي بأن العقل قوة متفاوتة على درجات ومراتب ولم يقصره على الغريزة فقط. يتدرج الإنسان من عقل الغريزة إلى عقل البصيرة والإشراق : عقل الغريزة بدايةُ من بداية الطريق، وعقل البصيرة نهاية إدراك العقول والألباب؛ لأن الإنسان ينتهي به إلى مراحل الكشف والمشاهدة كما فعل الغزالي بعده وحَدَّد بما فعل طرائق السير ثم طرائق الوصول.

غير أن المحاسبي ينقلنا من عقل الغريزة إلى عقل البصيرة؛ لتجيء مراحل السلوك عنده تبدأ من "الطاعة" التي فهمها عقل الغريزة وتولّاها بالرعاية والعناية، ولا يزال الإنسان يتدرج فيها حتى يُسلمه عقل الغريزة إلى عقل البصيرة :" ففي هذا الطريق يتعرَّف الإنسان؛ كما يقول، على عظيم قدرة الأشياء النافعة في الدنيا والآخرة، وهنا موطن العقل عن الله، حيث تتجلى للإنسان خلال التجربة العقلية الفاعلة بالذات، قدرة الله في هذا الكون، وتسخيره الأشياء لمنفعة الإنسان، بشكل تكون فيه هذه البصيرة في النهاية سبباً لطاعة الله طاعة عقليّة؛ ذلك أن الإنسان لدى المحاسبي إنمّا بالعقل وحده يطيع الله، وهو عقل البصيرة، الذي عن عقل الغريزة يكون.

ولا يبلغ الإنسان ذروة الكمال إلاّ حين يستشعر المعرفة من الله، ومعرفة الله أكبر من مستطاع العقل الكامل، ولأجل ذلك؛ كان الله هو أول المعارف، ففيه تاهت الألباب عن تكييفه وتحيرت العقول عن إدراكه". فعلى هذه المعرفة سوف تنبني المعرفة العقليّة القرآنية، وسوف يصير العقل موصولاً بالله أجلّ اتصال وأكرمه.

فكامل العقل هو الذي يعقل عن الله معرفته، ويقرُّ بعقله أنه عاجز عن إدراك كُنْهِ معرفته. وقصور العقل البشري عن إدراك حقيقة الله لا ينقص قيد أنملة من قيمة العقل لا عند المحاسبي ولا عند غيره من أقطاب التصوف السُّني خاصّة. وإنما هو على العكس من ذلك تماماً : اكتمالٌ لهذا العقل وتحديدٌ ممتاز لقيمته. فإن هذه القيمة تتبلور من غير شك في وعي العقل لحدوده، وأولها عجزه عن الإحاطة بموضوع "الله".

فالعقل البصيري يستوعب عقل الغريزة ويكون نتيجة لجهوده في الطاعة، وثمرة من ثمار الفهم وتتويج المجهود. وبهذا الجمع المتقن تتحقق معاني العقل عند المحاسبي : النظريّة والعمليَة، ولا أهمية لعقل الغريزة دون أن يُفضي إلى عقل البصيرة والإشراق، ولا غنى لأحدهما عن الآخر في بداية الطريق وفي منتهاه.

وإذا ذُكرَ العقل ذكرت من فورها المعرفة، وبناءً عليه يحدد المحاسبي طبيعة المعرفة التي يعقلها الإنسان عن ربه وتتضمن ثلاث خِلال :

(1) الخوفُ من الله تعالى، والقيام بأمره، وقوة اليقين به، وبما وعد وتوعد.

(2) حُسنُ البصر بدينه بالفقه عنه فيما أحبّ وكره من علم ما أمر به وندب إليه.

(3) الوقوفُ عند الشُّبَهات التي سمى الله الوقوف عندها رسوخاً في العلم.

وينبّه على أهمية الفرائض الشرعية وأداء التكاليف؛ لأن المعرفة بدون العمل والعبادة لا فائدة منها؛ إذْ يقول في كتابه "الوصايا" :" ألا فانكمشوا في الفرائض التي يسخط الله على من يضيعها، ويفوز العباد بأدائها".

ولكن مع هذا كله؛ ينبغي أن نتذكر أن العقل مطلق العقل هنا محدود، وبخاصة إذا تعلق الأمر بمجال التفسير الإشاري : وأن التفسير الإشاري لا يعتمد اعتماداً كلياً أو مُسْرفاً على العقل مطلق العقل، كما تعتمد الفلسفة النظريّة عليه اعتماداً كلياً، لا إنمّا هو يعني بالأمور العقليّة بالقدر الذي يُعْنَي به الصوفية بالعقل، ونعني به أن الذهن آله لتصحيح الإيمان في مراحل البداية، أمّا فيما فوق ذلك وفيما هو حثيث الخطو نحو المعارف العليا؛ فهناك ملكات أخرى يُنَاط بها حمل هذا العبء؛ وهى في مذهب القشيري تتدرج صعوداً من القلب إلى الروح ثم السّر أو عين السر . وهكذا؛ فالصعود لا نهاية له.

معنى هذا أن استنباط الإشارات اللطيفة من النَّص القرآني ليس عمليّة عقليّة صرفة إلاّ في الحدود التي تتضمن عدم افتيات الإشارة على العبارة، فلا تخرج بها عن مألوف ما ينسجم مع الأسلوب العربي سواء من حيث اللغة أو النحو أو الاشتقاق أو الفنون الأدبية، ولا تخرج بها عن الدلالات التي توافق أسباب النزول والأخبار الموثوقة وعلوم الحديث والأصول والفقه؛ فكأن الإشارة، فيما يقول الدكتور إبراهيم بسيوني في دراسته لكتاب لطائف الإشارات للقشيري، ليست انبعاثاً تلقائياً محضاً ولكنها مقيّدة منذ البداية بالكثير من العلوم العقلية والنقلية؛ فما أشبه موقف اللفظة القرآنيّة في هذا المجال بموقف من يتهيأ لارتياد الطريق الصوفي نفسه؛ فكلاهما يتعرى عن ظاهره، وكلاهما يخضع لما تتطلبه المعارف العقلية والنقليّة من شرائط البداية، وكلاهما يصبح صافياً رائقاً يشف درجة بعد درجة كلما زاد الصعود وارتقى القصود؛ فاللفظة القرآنية فيها حياة وفيها نموّ، وفيها عوالم مضيئة متألقة تشبه تلك العوالم التي يتدرج فيها العابد الزاهد المريد العارف المحبّ".

وهناك على الجانب الآخر دراسة مهمة نوهت إليها في مقدمة هذه الحلقات القرآنية، تسمح بالقول إنه ليس من شك أن التمرّس على مواجهة القرآن يحتاج إلى معرفة عميقة بالثقافة العربية الإسلاميّة تظهر في المناقشات العلمية المتعمقة لقضايا متشعبة في الدين الإسلامي والتفسير وعلم الكلام والفلسفة الإسلامية واللغة العربية والأدب العربي القديم، وهو الأمر الذي فعله صاحب الدراسة الممتازة عن "الله والإنسان في القرآن : علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم" العلامة الياباني الدكتور توشيهيكو إيزوتسو . وبصرف النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا في بعض المسائل التي طرحها، والآراء التي أخذ بها وتم تكييفها تكييفاً دلاليّاً، فإن الجانب الوضئ في دراسته هو ترجمته الدقيقة للشواهد الوافرة التي اقتبسها من القرآن الكريم ومن الشعر الجاهلي (الذي استغرق فيه فوق الكفاية)، ويمتاز بلغة غريبة أحياناً، ربما يصعب حتى على العربي المتخصص فهمها وشرحها بدقة ممّا يعكس تمكنه من العربية وفنونها وتراثها الثقافي عامة.

عندي أن العقل في مجال الإشارة المستنبطة من العبارة محدود إلّا أن يكون بصيرياً كاشفاً عن ذوق البصيرة، دالاً من الوهلة الأولى على الإحالة الناقلة من محدوديّة العقل إلى عمل الكشف والبصيرة، وإلّا فهو ضرب في عماية؛ لذلك توجّب على العقل أن يعرف حدوده وحدود ما يعمل فيه، وأن يحيل إلى مراتب أعلى من مدركاته المحدودة؛ هى بلا شك مدركات الاستبصار ومراتب العقل البصيري.

(وللحديث بقية)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم