قضايا

الإسلام المدني والإسلام الأيديولوجي

علي المرهجباستعارة واضحة ومُمميزة من عبدالكريم سروش يستخدم أحمد القبانجي مفهومي "الإسلام المدني" = (الدين العلماني) عند سروش، و(الإسلام الأيديولوجي) كمقابل لمفهوم "الدين الأيديولوجي" الذي أشار إليه سروش في كتابه "الدين العلماني" وهو ما استعاره أحمد القبانجي في تسميته لكتابه "الإسلام المدني".

في الإسلام الأيديولوجي (السلفي ـ الراديكالي ـ "الإسلام السياسي") يقتصر همَ القائمين عليه على استلام الحُكم وتطبيق الشريعة بغض النظر عن افرازات هذه الأعمال على روح الإنسان وتكامله المعنوي، فليس المهم هو التكامل المعنوي والأخلاقي للإنسان بل اقامة الجمهورية الحكومة الإسلامية التي تُطبق الشريعة وتهتم بظواهر الإسلام وظواهر الأعمال لا الباطن.

بينما تجد عند أصحاب الإسلام المدني سعي حثيث للالتزام بالقيم الأخلاقية والبهجة الباطنية والنزوع نحو احترام القوانين، ولا يُضمر أصحابه عداء للمُخالفين لهم في الرأي والدين والمذهب على وفقاً لقول ابن عربي:

لقد كُنت قبل اليوم أُنكر صاحبي

إذا لم يكُن دينه إلى ديني داني

وقد صار قلبي قابلاً كُل صورة

فمرعى لغزلان وبيتٌ لأوثــان

وديــرٌ لرُهبان وكــعبة طــائف

وألواح توراة ومُصحفُ قــرآن

أُدين بـدين الحُـب أنى توجــهت

ركائبـه أُرسـلت ديني وإيمــاني

وهذه الرؤية تقتضي أن يُجازي الله كل إنسان وفق ما توصل إليه من عقائد وأفكار وسلوكيات مع الأخذ بنظر الاعتبار تأثير عوامل البيئة والوراثة والتربية.

هنا يكون الدين ذا نزعة إنسانية تقبل التنوع "أرحب من الأيديولوجيا" بحسب عبدالكريم سروش ليكون الدين أداة بناء لا هدم، فالدين في فكر (الثوريين الراديكاليين) غايته التقويض والهدم، لأن أصحابها يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة والتصور الحقيقي للدين!! لذا تجدهم جازمين حاسمين ييتخذون من الحلول الجذرية (المتطرفة) طريقة لهم وأسلوب أمثل لحسم الصراع مع (الآخر (المُغاير) لهم في الدين والمُعتقد، ولا تردد عندهم في ممارساتهم، ولا تشكيك بأنها يُمكن أن تكون خاطئة!!.

938 سروش

إنهم يفترضون أن الآخر عدو لأن أيديولوجية وجودهم لا تكتمل بنيتها النظرية ولا العملية من دون وجود هذا الآخر (العدو)، لأن جُلَ غاية أصحابها إنما هو تفعيل نشاطهم الحركي لا طلب الحقيقة، ففي طلب الحقيقة تفكر وتأمل وتحليل وتمحيص، وتلك غاية لا يصل لناصيتها سوى القلَة من البشر الذين إذا مسهم الشر قالوا سلاماً، فصبروا وصابروا، والصبر يقتضي السكون والعيش في عالم التأمل والبصيرة، لتجد في الفلسفة والتصوف الفلسفي محطة لأهلها، بينما هي عند (الأيديولوجيين الثوار) مرحلة ترتبط بحالة الاستقرار التي لا مكان فيها لهم، فهناك فرق كبير بين التنظير للثورة ساعة الحاجة للخلاص وبين وجود الثور في الدولة ليكونوا هُم قادتها.

ستجد الأمر مُختلفا، لأن الثوار اعتادوا وجود العدو، ولم يتعودوا أن يكونوا ـ لربما ـ هُم أعداء المجتمع، ليكونوا هُم العدو، لتجد أغلب الثوار الذين يقودون الدولة بعد انتصارهم يفشلوا في إدارة الدولة، لأن الدولة تحتاج لبناة حقيقيون يُدركون التنوع الفكري والسياسي والديني والمذهبي فيها، ويعرفوا أن إدارتها سياسياً لتحقيق النجاح إنما تكمن في كسب (الآخر) المُغاير، لا في مُناصبته العداء وتهميشه!!.

التغيير يصنعه الثوار، ولكن الدولة يقودها الأحرار الذين بالقدر الذي يدعون به لأن يكونوا هم أحراراً عليهم أن يتقبلوا أن هُناك (آخر) مُغاير لهم في المُعتقد وفهم الحرية يرغب أن يكون حُراً على طريقته!!.

لذا فالنزعة الثورية لا تصلح في قيادة الدولة بعد أن يُحقق الثوار مراميهم في التغيير.

لا نفع ولا تغيير إن استمر (مجلس قيادة الثورة) في إدارة الدولة بطريقة الثوار لا بطريقة الأحرار، ولربما يقول مُنتقد أن الثوار يبغون الحرية، وهذا صحيح، ولكن الحرية التي بغونها هي لجماعة مُشابهة لهم بطريقة التفكير والممارسة والتعبير، ولا مقبولية لـ (آخر) يُخالفم أو ينتقد طريقة إدارتهم للدولة بعد الإنتصار.

إن قبول (الآخر) يقتضي من (مجلس قيادة الثورة) الذي يُصر أصحابه على قيادة سفينة نجاة الدولة أن يتحولوا من نزعة الرفض والتقويض والهدم إلى نزعة جديدة هدفها البناء وتجديد الثقة بقيادة الدولة على أنها لا تُمثل جهة أو أيديولوجيا أو عقيدة أو دين بعينه، إنما هدفها بناء المجتمع وتحصينه بكل تنوعاته وإن اختلفت مُتبنيات مكون ما في الدولة وتناقضت مع مُتبنيات (مجلس قيادة الثورة)!.

لذا فالحل سيكون بقبول "التعددية" الفكرية والدينية والمذهبية بما لا يمس أمن الدولة العام.

إن تحويل الدين إلى أيديولوجيا عند جماعة (الإسلام السياسي) لم يجن منه أهل هذه المُجتمعات التي نشطت فيها حركات الإسلام السياسي هذه سوى الدمار والخراب!.

ليسعى من عنده بقية عقل ودين من جماعة (الإسلام السياسي) الذي تمكن أصحابه من السلطة للتخلص من الرؤية أحادية الجانب والنظر للدين على أنه عبودية بشر لبشر وتقديس فرد لفرد، وتخليص المجتمع من نزعة التقديس للاأشخاص وتصنيم بعضهم وتحويله لطوطم ليكون هو المعبود لا الخالق!.

إن غاية كل دين إنما هي تخليص الإنسان من عبودية البشر للبشر، ولا مقبولية لدين أو مذهب يُصير الإنسان فيه نفسه عبد لإنسان آخر مهما على شأنه، فالدين مليء بالأسرار، ولا مقدرة لإنسان طبيعي أن يدعي إمتلاك أسرار دين ما، أو إمتلاك مفاتيح الغيب!.

القرآن حمَال أوجه، هكذا قال الإمام علي (ع) وهذا قول يحمل بين طيَاته أن لا أحد يمتلك مفاتيح الإجابة عن سرَه المكنون، وكل مُتبنياتنا وتفسير المُسرين إنما هي رؤى بشرية ـ لربما ـ هي مُلزمة لمن يجد في التفسير وجهة نظر حقة، ولكنها في الوقت ذاته غير مُلزمة لمن لا يعتقد بها.

يُشبه سروش الدين مثل الهواء، بينما الأيديولوجيا هي مثل الرداء، فالهواء من حق الجميع التمتع باستنشاقه، ولكن الرداء هو من حق صاحبه أن يشعر بقيمة التمتع به، فالدين عام للجميع والأيديولوجيا خاصة لجماعة أو فرد.

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم