قضايا

البناء العقائدي والفضاء المعرفي.. قراءة نقدية في فلسفة التاريخ والنهايات

علي المرهجلا أقصد هنا بالبناء العقائدي، ما تفرضه العقائد الدينية، أو الرؤى الأيديولوجية فقط، إنما هي خليط من هذا وذاك بفعل هيمنة أي منها (الديني العقائدي) أو (الأيديولوجي العقائدي)، مُضافاً لهما تأثير البيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها الفرد، "التنشئة الاجتماعية" أو ما أسماه الوردي "القوقعة الاجتماعية" وهي قيود تفرضها تقاليد وعقائد وقيم وأيديولوجيا الجماعة التي تُغرس في ضمير الفرد منذ نشأته، فهي ليست ببناء عقائدي محض ديني، ولا ببناء عقائدي محض أيديولوجي، صنعته رؤى إنسان يوتوبي حالم أو واقعي ينهل من اليوتوبيا ببُعدها الحالم، وهي ليست محض قيم وتقاليد موروثة فقط.

إنها خليط عجيب من هذا وذاك يكون للجغرافية والمكان، أو البيئة ببعدها المناخي ومُتغيراته تأثيرها الفاعل في بناء الشخصية، ويبدو أننا نحن العرب أو الشرقيون لم نستطع التخلص أو الفكاك من هيمنة البناء العقائدي بكل تمظهراته الاجتماعية (السياسية والأيديولوجية)، بل والثيولوجية، التي انعكست سلباً في الحياة السياسية التي جعتنا ننوء بحمل الماضي و"الإنهمام" توظيفه، بل واستلهامه في بناء الدولة العربية والإسلامية التي لا علاقة بنظريات بناء الدولة الحديثة بالماضي ومورثاتنا التي تستقي ادارتها بأفضل ما يُمكن من خبث دُعاة بناء الدولة الإسلامية وفق نموذج "الأحكام السُلطانية". التي ليست هي بفلسفة تاريخ كما يظن أو يحسب بعض دارسي فلسفة التاريخ على ما فيها من بعد (حكمي)، إلَا أنه لا تعدو أن تكون وصايا لإدامة بقاء الحاكم على كُرسيه، وليست بناءاً لرؤية معرفية مُستمدة من الواقع واستشراف لمُستقبل أفضل يستقرأ الفكرون فيه مُتغيرات المُجتمع وتحولاته.

ربما يكون لابن خلدون (732م ـ 808م) فضل تنشيط الوعي بفلسفة التاريخ و"العمران البشري" وفضل سبق على مونتسكيو وتوينبي وشبنجلر في استقراء حركة التاريخ، وطرحه للتفسير الدوري لهذا التاريخ، الذي يمر بأدوار، أهمها: الطفولة، والصبا أو الشباب، والكهولة، وظنَ أن هذه مراحل "حتمية" لا بُد أن تمر بها أية حضارة، لمدة أقصاها مئة وعشرين سنة.

كان من اهتمامات ابن خلدون تأكيده على دور البيئة في بناء الوعي العقائدي والمعرفي، ولكن مع اختلاف الأدوار، فقد أكد على أن إعتدال المناخ وإضطرابه يؤثر في نفوس الأفراد.

وسيبقى في البناء العقائدي بأثر البيئة إقصاء للآخر، وفي البناء المعرفي إنتماء للخصوصية و"إنهمام" بدور الفكر في تنمية الوعي بمُتبنيات "الآخر" والإفادة منها، كما دعى إلى ذلك ابن رشد من قبل في النهل من علوم الأمم الأخرى وإن كانت مُغايرة لنا في الملَة، أو في المُعتقد، وقد تنبه لذلك د.حسن العبيدي في كتابه (جغرافية التفلسف).

لم يكن اشبنجلر (1880ـ 1936) مُتسقاً في رؤيته مع توينبي في موقف الأخير من الحضارة الغربية، فقد ذهب اشبنجلر إلى القول بـ "تدهور الحضارة الغربية" مُخالفاً في ذلك نظرة توينبي التي تؤمن بمركزية الحضارة الغربية، إلَا أنه أيضاً يؤمن بالتفسير الحتمي للتاريخ وفق رؤية ابن خلدون وتوينبي في الاعتقاد بأن للتاريخ بداية ونهاية، وكل حضارة ستمر بمراحل أساسية ثلاث هي: الطفولة، والشباب في نُضجه، والكهولة، أو الشيخوخة. فالحضارات بالنسبة لإشبنجلر كما الإنسان، هي كائنات حية، ودورة في الحياة تولد فيها حينما تستيقظ الروح، وتموت بعد أن حققت هذه الروح جُلَ ما تبتغيه في حياتها، الأمر الذي يعني كما ذهب إلى ذلك ابن خلدون وتوينبي من قبل أن لكل حضارة عمر أو زمن، كما الإنسان، والخاتمة هي الفناء أو الموت.

رغم أن أرنولد توينبي (1889ـ 1975) يؤمن بمركزية الحضارة الغربية ودورها، إلَا أنه يُشابه ابن خلدون في تفسيره الحتمي للتاريخ، وتحديده لأدوار تمر بها الحضارة من النشوء إلى الارتقاء وصولاً إلى الأفول والانحلال.

وقد تشابه توينبي مع ابن خلدون في تأكيد الأخير على مفهوم البيئة، وفق نظريته في "التحدي والاستجابة"، فللبيئة تحدياتها التي تفرض رؤية تستدعي الاستجابة، على قاعدة لكل (فعل ردَ فعل)، فظروف التحدي تستدعي ايجاد سُبل جديدة يُسميها شبنجلر "الاستجابة".

نجد في كل الحضارات التي اهتم بدراستها توينبي، بدءاً من الحضارة العراقية القديمة مروراً بالحضارة الفرعونية (المصرية) القديمة، والحضارة اليونانية، ومن ثم الحضارة الإسلامية، يتخذَ من عاملي البيئية والجُغرافية أساساً لفهم طبيعة تقدم الحضارات وأفولها.

وضع توينبي الأديان في مكانة تجعلها سبباً في منح الشعوب فرصة أمثل للارتقاء ـ حسب ظنه ـ لأنها ساعدت البشرية على الخلاص من سطوة النزعة المادية، وهو في هذا الرأي لا يختلف كثيراً عن ابن خلدون، رغم نزوع ابن خلدون للتفسير الاجتماعي للدين، ونزوع توينبي للبعد الروحاني للدين الذي لم يغب عن ناظري ابن خلدون، ولكنه وجد في عصبية الدين ما يؤثر على بُعده (الجواني) في الانقاذ.

لم أكن أروم في مقالي هذا شرح نظريات فلسفة التاريخ وتفسيرت فلاسفتها الحتمية، بقدر ما كان همَي تأكيد دور البناء العقائدي في تأطير الرؤية الإنسانية للوجود والعالم والحياة لأن همَ الفلسفة هو كسر القيود وفكَ هذه الأطر التي صيَرها هؤلاء الفلاسفة التاريخانيون ـ بعبارة بوبرـ في كتابه (عُقم المذهب التاريخي) أو (بؤس التاريخانية) على أنها تفسيرات حتمية تحكم حركة التاريخ ولا مناص لنا للفكاك منها أو الخلاص من رؤاهم المُؤطرة بـ "أسيجة دوغمائية" ـ بعبارة محمد أركون.

يؤكد بوبر في كتابه هذا على أن الإيمان بتفسير حتمي للتاريخ رداً على الماركسية، لا يعدو أن يكون مُجرد خُرافة، لأن التاريخ هو سجل لأحداث الماضي، ولكنه يتأثر بنمو المعرفة العلمية والإنسانية، ولا يُمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نضبط قرائتنا للتاريخ كي تكون كالعلوم الطبيعية في تطورها المعرفي، وكل مُحاولة لفرض رؤية لا قيمة علمية لها، على ما في العلم من تغيَر، إنما تُعدَ انتهاكاً صارخاً لقيمة العلوم التجريبية في حال ربط حركة التاريخ بها، أو توقع إنعكاس التاريخ على الحاضر أو المُستقبل رغم مُغايرة ما في المُستقبل بكل ما فيه من ديناميكية وسرعة في تغير وتقدم العلوم التقنية والمعلوماتية والإحيائية ما لا ينطبق بأي حال من الأحوال على حوادث التاريخ في "المُطابقة" بقدر ما يتعارض مع هذه الأحداث في "الاختلاف".

يكتب لنا بوبر كتاباً بعنوان "المُجتمع المفتوح وأعداؤه" ليشرح فيه وينقد في الوقت ذاته رؤى دُعاة الحتمية التاريخية وتهالك مُتبنيات أصحابها، لأنها بصريح القول فرضيات لم تصمد أمام "التفنيد" أو "التكذيب" الذي يتخذ منه بوبر منهجاً لقبول فرضية أو رفضها، وبالتجريب المُتحقق حياتياً وبتلمس وبعد تطبيق وممارسة لرؤى القائلين بالحتمية التاريخية تبيَن لنا خطأ وخطل مُتبنياتهم، وأن التاريخ لا تحكمه رؤية عقائدية أو أيديولوجية واحدة، ولا نهاية للتاريخ، إنما النهاية يكتبها "الدوغمائيون" لفكرهم، فلا مقبولية لفكرة الخلاص التي يتبناها هؤلاء ولا بقاء لها ولا استمراية، لأنها فرضية لا تصمد أمام النقد و"التفنيد"، لذا يطرح (بوبر) رؤيته الفلسفية النقدية لطرق التفكير ضد من يعيشون "أسطورة الإطار" ويظنون بأن رؤاهم أو أطرهم الفكرية إنما فيها الحل الأمثل والناجع لتحقيق "مُجتمع أفضل".

المُجتمع المُغلق الذي خلقه دُعاة (الشمولية) من الذين يتبنون التفسير الحتمي للتاريخي الذي يُصيَرُ الناس فيه وكأنهم "قطيع" لا دراية لهم ولا علم، إنما هُم يسيرون بهدي "الوصاية" و"الهداية"، فلا تنافس في مجتمع مثل هذا، لأنه مُجتمع "سكون" و"انتظار" لخروج هادي ومُخلص، فيما نجد في "المُجتمع المفتوح" فرص أكبر لتفعيل الفكر وحيويته، واتاحة للفرص وفق مبدأ التنافس في العمل وإنتاج ما هو أفضل، فالعقل حُر لا تقييد لإبداعه، والنقد ففيه سمة وخاصية لأفراده، على قاعدة (أن ليس للإنسان إلَا ما سعى)، و(لا تزر وازرة وزرة أخرى)، و(كل نفس بما عملت رهينة)، وهذه هي من مناط الحرية الفردية والمسؤولية الوجودية للإنسان عن نفسه وعن الآخرين في هذه الحياة وفق مبدأ الصراع والتنافس الذي يرنو دعاته لتنمية المعرفة العلمية شحذ الذهن والعقل للعمل على الخلاص ليس بالاستعاننة بآخر قادم من عالم ميتافيزيقي (غيبي)، بل بالاعتماد على مهارات العقل الإنساني في تحقيق الخلاص في عالمه الأرضي باندكاكه بالواقع واقتحام عوالمه الخفية بالاعتماد على الذات على قاعدة أن "الحُرية لا تُعطى إنما تؤخذ".

الفضاء المعرفي فضاء حُر لا مكان فيه لمن يُقيد عقله، في متبنيات أصحابه مقبولية للرأي الآخر وتشكيك بقدرة الإنسان على إمتلاك الحقيقة، ولكن أصحابه شغوفون بالمعرفة و"البحث عن اليقين" للعيش في عالم أفضل، ولكنه ليس عالم للفردوس، إنما هو عالم للتعايش وقبول للآخر (المُغاير) لا تفضلاً ومكرمة بل إنها طبيعة وجود إنسانية تفرضها التحديات والمُتغيرات...

عالم الفردوس يصنعه دُعاة عقيدة الخلاص، وعالم التعايش يصنعه الأحرار الذين يعترفون بأن التاريخ لا نهاية لحركيته و(دينامكيته)، وكل ما جاء في أطروحة (فوكوياما) حول (نهاية التاريخ) إنما هي "اعتراف" منه بأن أحداث التاريه لا تنقطع إنما مقبولية المجتنع لفكرة (التعددية) والإيمان بالليبرالية بأنها الحل الأنجع للعيش معاً هي التي تُشكل نهاية التاريخ) لرؤى دُعاة الحتمية التاريخية..

 

ا. د. علي المرهج – أستاذ فلسفة

 

في المثقف اليوم