قضايا

هَل العُقُوباتُ الأسلامِيَّةُ قاسِيَةٌ؟

كتبَ المُستَشرِقونَ كتباً عديدةً، وفي مختلفِ حقولِ المعرفةِ، وصَنَّفوا مصنفاتٍ ضخمةً بمجلداتٍ كثيرةٍ، تَناوَلُوا فيها تأريخَنا وحضارتَنا ودينَنا. وكان أكثَرُهُم منحازين متعصبين، لم يَكُن رائِدُهم البحثَ العلميَّ؛ لانَّ اغلبيَتَهُم كانوا موظفينَ يعملونَ لصالح وزارة المستعمرات. واستثني القليلَ القليلَ منهم الذين كتبوا بانصاف .

اثارَ المستشرقونَ قضيةَ قسوةِ العقوباتِ الاسلاميَّةِ ووحشيتِها ؛ وانها عقوباتٌ أَفرَزَتها الصحراءُ وَقَسوَتُها وَجفافُها . وتابعهم في مقولتهم هذهِ بعضُ الحداثويينَ من أَبناءِ امتنا.

العقوبةُ والأَلَمُ

قبلَ أَن يَتَهِمَ هؤلاء الباحثونَ نظامَ العقوباتِ في الاسلام، كان عليهم أَن يَتَأَمَلُوا في العُقُوباتِ بشكلٍ عامٍ، فهل بامكانِهم أَن يُقَدِّمُوا لنا عقوبةً من دون المٍ؟ لايمكن ذلكَ؛لانَّ العقوبةَ متقومةٌ بالالم، والالمُ جزءٌ لايتجزأ من العقوبة ؛ لان الغرضَ من العُقُوبةِ هو تحقيقُ الردع، ولايمكنُ أَن يحصَلَ رَدعٌ من دون ألَمٍ.

وانا هنا أتَكَلَمُ عن اصل الايلام في العقوبة، لاعن كميةِ الالمِ وكيفيتِهِ.

فالعقوبةُ قد تَتَضَمَنُ أَلَماً خفيفاً او شديداً، ولكنَّهُ الم. هذا عن الكميّة، امّا الكيفيّةُ ؛ فالعقوباتُ انواعٌ مختلِفَةٌ وليست نوعاً واحداً .... فقد تكونُ العقوبةُ سجناً أو اِقامةً جَبريّةً، أوابعاداً، اوحرماناً من بعض الامتيازات، أَو غرامةً ماليّةً، ولكنّها جميعاً تشتركُ بعُنصر الالم؛ لانَّ وظيفةَ الالمِ في العُقُوبةِ هي تحقيقُ الردع.

التَجانُسُ بين الجريمةِ والعُقُوبةِ

في العقوبةِ لابُدَّ أَن يكونَ هناك تَجانُسٌ بينَ الجريمةِ والعقوبةِ؛ من اجل أَن تَكونَ العقوبةُ عادِلَةً . فلايصح ان يعاقبَ كبار المجرمين مع من ارتَكَبَ مخالفةً بسيطةً بعقوبةٍ واحدةٍ، كما يحصل -اليومَ- في اغلب سجون العالم .

المُماثلةُ بين الجريمةِ والعُقُوبةِ

من اجلِ أَن يَتَحَقَقُ الردعُ في العقوبةِ، لابُدَّ ان تكونَ هناك مُماثَلَةٌ بينَ الجريمةِ والعقوبة .

في نظام القصاص الاسلامي هناك مماثلةٌ بين الجريمةِ والعقاب، وهذا مااشارت اليه الاياتُ التاليةُ :

(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). البقرة : الاية:179.

(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).البقرة : الاية : 194.

(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). المائدة: الاية : 45.

(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ). النحل: الاية : (126) .

والمماثلة بين الفعل والعقوبة ليست مماثلةً تامةً في كل الخصوصيات، فالقاتل الذي مثَّلَ بضحيتهِ، يقتلُ قِصاصاً ولايجوزُ التمثيلُ به مماثلةً لفعلِ القاتلِ .

ولاتشترط المماثلةُ بالخصوصيات الطارئة، كأن يقتصَّ منه في الليل ؛ لان القتلَ وقعَ في الليل.

العقوباتُ الاسلاميّةُ وحمايةُ القِيَمِ

العقوباتُ الاسلاميةُ تستهدف حماية الكليات الضرورية، كحماية الدينِ والعقل والنفس والمال، اي حماية القيم الكبرى، ولاتستهدف حمايةَ حاكمٍ او نظامٍ او مصالح فئاتٍ محدودة، وطبقاتٍ معينّةٍ .

الذين يتحدثون عن قسوة عقوبة الزنا، لايتحدثون عن هذه العقوبة ضمن سياقها الثقافي والقيمي، فاقامة الجلد اوالرجم في مجتمعٍ أُطلِقَت في الغرائزُ والشهواتُ من عقالها، اقامتها في مجتمعٍ لايقيم وزناً للفضيلةِ .. تكون العقوبة قاسية.. اما العقوبة في السياق الثقافي والاخلاقي للمجتمع المسلم الذي تسود فيه الفضيلة، مجتمع تؤمن فيهِ حاجاتُ الناسِ الغرائزية عبر الزواج، ومجتمع تسيجه الفضيلة وتحرسهُ القيم، لاتكون فيه هذهِ العقوبة قاسيّة .

الذين يتحدثون عن قسوة عقوبة الزنا،ينبغي ان ينتبهوا الى ان الشروط التي وضعها المُشَرِّعُ في اثبات الزنا شروطٌ صعبةٌ يصعبُ اثباتُها. فالاسلامُ يشترط لاثبات الزنا حتى يقام الحد، اربعة شهداء يرون العملية كاملةً .وفي حياة رسول الله (ص) لم تثبت جريمة الزنا الا بالاقرار، لحالتين هما: ماعز بن مالك، والمرأة الغامدية، هما أَقَرّا على نفسيهما بالزنا .

والذين يتحدثون عن السرقة يتناسون ان السارق في عام المجاعة لاتقطع يده .ويتناسون ان الفقه الاسلاميَّ وضعَ قاعدة: (درءُ الحدودِ بالشبهات) .

الاسلام وصفةٌ كاملةٌ للحياة، يجب ان تطبقَ كاملةً غيرَ منقوصة . الذين طبقوا الحدود مبتورةً عن سياقها التشريعي، قدموا صورة مشوهة للاسلام . شوهوا لوحة الاسلام الجميلة باقتطاعِ جزءِ مهم من التشريع وانتزاعه من سياقه التشريعي، فشوهوا اللوحةَ الجميلة.

 

زعيم الخيرالله

 

 

في المثقف اليوم