قضايا

الإنسان بين الكلمة والمعنى

كاظم لفتة جبرمنذُ ان نزل الإنسان من العالم المعقول إلى العالم المحسوس أصبح مقيداً بالكلمة، لكونها ترتبط بالأشياء التي وجدت في عالمنا الارضي، الأشياء مسميات يحكمها المحدود والمتغير، كذلك الإنسان يرتبط بالعالم من خلال مسميات تلك الأشياء، الا ان معاني تلك المسميات تبقى منفردة عن أشياءها، فالمحور الذي يقبع فيه الإنسان هو محور الفراغ بين الكلمة ومعانها او بين الشيء ومسمىَ، فمره يكون الإنسان منحازاً مع الشيء، وأخرى نجده مع المعنى لذلك الشيء .

ان عملية التجاذب مع الشيء والانجذاب نحو المعنى تمثل حركة الفكر الانساني على طول خط العرض الفاصل بينهما، البدايات الأولى للإنسان وجد نفسهُ محاطاً بالأشياء فأخذ على عاتقة إعادة خلق الأشياء بما تخدم حاجاته الوجدانية، فجعل الأشياء كلمات تّنطق بين ابناء البشر ذلك أحدث نقلة في خط العرض يُعبد له خطاً جديداً يُعيد النفس الى مدينة سُكانها، فالمعنى بداية لخط الطول نحو مساكن الانفس، عندما أراد أن يعبر عن المعاني وجد نفسهُ حبيسة الطقوس والشعائر فتجسيد المعنى علامة على طريق خط الطول، والعلامات إشارات إلهية تظهر إلى الإنسان قديماً من خلال الطبيعة، تنذر بهم الخوف فيكون الرد عليها من خلال علامة أخرى فتكون العلامات لغة تواصل منذ القدم بين الإنسان والشيء المجهول .

ما ان تطور الفكر الانساني وامتزجت عناصر المعنى مع الطبيعة ظهرت فكرة ان الطبيعة هي الالهة لما تمتلك من عناصر بدايات الأشياء الكائنة، وهذا يمثل بدايات التعقل اليوناني إلى ان جاء من قال بالعقل اصل وهو الذي يمتلك معنى الوجود بذلك كان العقل هو الذي يمثل مفترق طرق خطيٍ العرض والطول، فالعقل هو الذي جلى المعاني عن اشياءها، ثم بعد ذلك أخذ الفكر منحى آخر مع مثلث العلة اليوناني (سقراط، أفلاطون، ارسطو) فالأول بدأ بحد الأشياء لتعريفها فاستخدم الاستقراء لتحديد الأشياء بماهيتها لغرض تعميمها فكان المعنى تعريف الأشياء بمقابل ظهرت السفسطائية التي جعلت من معاني الأشياء نسبية لنسبية المعرفة عند الإنسان وهذا في نوع من الصحة مع تطور الفكر الانساني، اما أفلاطون فقد فصل المعنى عن الشيء وجعل الثاني صورة مشوهة لمعناها الذي يمثل صورة أصلية للإنسان، إلى أن جاء ارسطو رفض نظرية المعنى عند استاذه أفلاطون، إذ رأى أن المعنى فارغ اذا كان مفارقاً للشيء وهذا لا يلبي طموحات الإنسان في التطور لمعرفة الأشياء المحيطة به، لذلك كان الشيء مع ارسطو يعرف بالمركب بين الشيء ومعناه.

ثم جاءت مرحلة الأديان لتجعل المعاني مفارقة عن اشياءها وان العلامة هي التي تجسد معنى الشيء في الارض، فالمعاني موجودة في العالم الآخر والعلامة هي التي تدلنا على المعاني، فكانت العلامة هي لغة التواصل بين الإنسان والمتعالي .

اما في العصور الحديثة أصبح اهتمام الإنسان بالشيء دون المعنى فالأبحاث التي بحثت في الطبيعة أنتجت الآلة التي اصبحت ذات معنى للإنسان من خلال ما تقدمه من فائدة للإنسانية، الا ان غياب معنى المتعالي انتج معاني تخضع لمتغيرات الحاجة الإنسانية فاصبح الشيء معناه رهين حاجات الإنسانية، فالمعاني المتغيرة مترابطة بالشيء الصناعي اما المعاني المفارقة فتكون متربطة بالطبيعة .

خضعت المعاني إلى تجارب الانسانية ونوازع مادية فكانت الحروب معاني نفسية اي أصبح معنى الشيء مرتبط بنوازع الإنسان النفسية، فتطور المعنى فانتج المعاني النفسية بعد ان كانت المعاني الطبيعية والمعاني الاصطناعية من قبل .

ثم ظهرت الوجودية تبحث عن معنى الحياة الإنسانية ومحاولة إيجاد معنى الأشياء بعد ان ضاع المعنى بين النفسي والمادي (الطبيعي، الاصطناعي) فجعلوا المعنى في الخيال لإيجاد عالم آخر يستطيع أن الإنسان يبني وفقاً لكلمة . ولذلك مازال المعنى ضائع يبحث عن اشياءهُ .

 

كاظم لفتة جبر

 

في المثقف اليوم