قضايا

فلسفة الثبات الضروري للدولة (العراقية)

ميثم الجنابيتقديم: إن الثبات هو احدى القيم الضرورية في الوجود الإنساني، بحيث جرى رفعه إلى مصاف الفضائل الكبرى كما في قولنا الثبات في المواقف، والثبات في العزيمة، والثبات في الصراع والمواجهة وكثير غيرها. وفيها وفي غيرها تبرز أولا وقبل كل شيئ ملامح الشجاعة في المواقف. وللشجاعة مظاهر عديدة جدا، لكنها مقبولة من جانب كل ذي عقل سليم وروح حرة. بل هي الصفة التي تجمع عليها تجارب الأمم وقيمها الأخلاقية. والثبات في الشجاعة والشجاعة في الثبات وجهان لحقيقة واحدة ألا وهي الإقرار والاحتكام إلى الحق والحقيقة. إذ ليس هناك من شيئ أكثر ثباتا من الحق والحقيقة. كما أنهما يتمثلان أفضل السبل والوسائل في الثبات، بما في ذلك العمل من اجل التغيير والإصلاح. بمعنى نفي التغير والتبدل المفرّغ من قيم الاصلاح الفعلي.

والدولة هي الكائن الأكثر حيوية وضرورة للوجود الإنساني المعاصر. بل إن الوجود الإنساني هو الصيغة المنظمة لأثر الدولة ووجودها. كما أنها تجسّد جميع الفضائل المتراكمة في تجارب الأمم، وبالأخص منها تلك التي تدير شئون المجتمع والأفراد والجماعات بمعايير القانون والحق. ومن ثم فيها تتجلى حقيقة العقل الفعال والرؤية المستقبلية.

ذلك يعني أن للدولة أيضا قيمة في الثبات. وبدون ذلك تتعرض إلى خلل بنيوي دائم، مع ما يترتب عليه بالضرورة من خلل في كل موازين الوجود الاجتماعي. وبالتالي إمكانية التفكك والاحتراب والدمار الذاتي.

وفيما لو نظرنا إلى واقع العراق الحالي (بل والعالم العربي ككل)، فإننا نرى سبب كل ما يتعرض له من احتراب داخلي وتفكك وتخلف وانحطاط هو نتيجة لفقدان الثبات في الدولة. وعوضا عنها يجري "الثبات" في السلطة. وهي مفاهيم ليست مختلفة فقط، بل ومتناقضة. فالثبات في السلطة يعادل معنى "الثبات" في التخريب والانحطاط. وهو ما نصطلح عليه بمفاهيم الحكم الفردي والعائلي والقبلي والدكتاتوري. فجميعهم من فصيلة واحدة.

وعندما ننظر إلى واقع الدولة الحالية في العراق، فإن أول ما يبدو للبصر ويتبادر إلى البصيرة هو وجود واقع الازمة الفعلية في بنية النظام السياسي، وواقع الازمة الفعلية في بنية النظام الاجتماعي والاقتصادي، وواقع الازمة الفعلية في بنية النظام الوطني، أي إننا نقف أمام أزمات في بنية النظام السياسي والاجتماعي الاقتصادي والفكرة الوطنية. وبالتالي يمكننا الحكم بوجود ازمة بنيوية شاملة بالنسبة لمفهوم الدولة الحديثة. بعبارة إخرى، إننا نقف أمام ازمة بنيوية في إدارة شئون الدولة والتنمية الاجتماعية والاقتصادية والفكرة الوطنية.

هذه الازمات الثلاث تعيق وتعرقل كل إمكانية للنمو والتطور الفعلي الشامل والمستديم. وليس مصادفة أن نرى مظاهر الاحتجاج المتكررة تعود من حيث بدأت. الجمهور يتعب لفترة والسلطة تساوم وتعمل على التسويف والرشوة. كما انه ليس مصادفة أن نرى وجود نظام سياسي وديمقراطي بلا معارضة سياسية وديمقراطية؟! وهي حالة تشبه من الناحية الشكلية والرمزية ببناء خزان الخراء الأرضي، لا يغير من "قيمته" ورائحته استبدال حجرة من الأسفل بأخرى من الأعلى وبالعكس. وعندما نتأمل زمن السلطة الحالية ما بعد الاحتلال الامريكي فإننا نرى امثلة عديدة لها. فقد طردوا أياد علاوي من رئاسة الوزارة وعاد إلى السلطة من جديد، ابعدوا الجعفري عن رئاسة الوزارة وعاد إلى السلطة مرة أخرى، وأزاحوا المالكي وعاد إلى السلطة من جديد، وعنفوا واحتقروا وأهانوا الصدر وها هو يعود إلى السلطة مرة أخرى، ولكموا الحكيم وها هو ما زال يصارع في حلبات "البيت الشيعي" وخارجه ويتغنج في حضن السلطة، وركلوا النجيفي وما زال متمسكا كأخيه في أذيال السلطة، وقمعوا البرزاني واجبروه على الاستقالة من رئاسة "الإقليم" وها هو من جديد يتغزّل ويغازل السلطة ويتآمر. وكلهم متآمرون كل بطريقته الخاصة. كل ذلك يشير ويبرهن على أن حجارة المراحيض لا تصلح لبناء هياكل الروح! وهو واقع يبرهن أيضا على إننا بحاجة إلى حقيقة الثبات والثبات على الحق.

والمقال الحالي وما سيليه يسعى للكشف عن أهمية الثبات الديناميكي في مواجهة إشكاليات الازمة البنيوية الشاملة في عراق ما بعد الدكتاتورية لكي لا تصبح "الديمقراطية" مقيتة شأن الدكتاتورية ومن ثم تلاقي نفس نهايتها.

***

لم يعرف العراق في تاريخه الحديث والمعاصر فكرة ونموذج الحكم الثابت. فقد كان تاريخه منذ عشرينيات القرن العشرين سلسلة من "الانقلابات" الحادة التي جعلت منه ميدانا لمختلف التجارب الراديكالية، التي تتوجت بصعود التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وفيهما تجسدت بصورة "فاضحة" فكرة ونموذج "المؤقت" في كل شيء. بحيث تحول "المؤقت" فيه إلى ثبات دائم. وفي هذا تكمن إحدى السمات الجوهرية للخراب السياسي والاجتماعي الذي تعرض له المجتمع والدولة. إذ لا يعني "المؤقت" هنا سوى طابعه العابر والزهيد. الأمر الذي كان يسحق بصورة متتالية فكرة التراكم، بوصفها جوهر التقدم والتطور العقلاني والعملي للدولة والمجتمع. إذ لا يعني "الدستور المؤقت" و"القانون المؤقت" سوى الصيغة الأكثر تدميرا للدستور والقانون. وذلك لأنه تصور يوهم بوجودهما، لكنه يمتهن حقيقتهما من خلال تحوليهما إلى "لا شيء". ويتحول "التجريب" الخارج على القانون إلى أسلوب وجود الأشياء. وتؤدي هذه الممارسة بالضرورة إلى الخروج على كل قانون. مما جعل من العنف والإكراه أسلوبا لتصنيع وهم الثبات الدائم. لأنه الشيء المفقود فعلا في بنية الدولة والمجتمع. ولعل تجربة "ثبات" الدكتاتورية الصدامية هو أحد النماذج "الكلاسيكية" بهذا الصدد. فقد تحولت بين ليلة وضحاها إلى "هباء منثور". وتحول كل أشخاصها وأصنامها ومرجعياتها إلى "لا شيء"! وهي نتيجة تبرهن على أن امتهان الحقوق والدستور والشرعية وتحويلهما إلى "لا شيء" يؤدي بالضرورة إلى نخر الأرضية التي تستند إليها السلطة والدولة والوحدة الوطنية. وفي هذا يكمن أحد الدروس التاريخية والسياسية والاجتماعية الكبرى لفكرة الثابت والمؤقت في السلطة والدولة والأمة.

إن انعدام الثبات الحقيقي في الدولة العراقية وتاريخها المعاصر يقوم في عدم استنادها إلى أرضية الحق الدائم والدستور الدائم. فهو الأساس الوحيد القادر على أن يضفي على تغير السلطة وتبدل أشخاصها قوة إضافية بالنسبة لترسيخ تقاليد الحق والشرعية وتراكم قوتها الذاتية في كافة الميادين. وفي حال النظر إلى واقع العراق بعد سقوط الدكتاتورية، فإننا نقف أمام نفس الضعف الفعلي المميز لنفسية وذهنية “الانتقال"، أي المؤقت. طبعا أن لهذه الحالة مقدماتها القائمة في انعدام مؤسسات الدولة في المرحلة الدكتاتورية، إذ لم توجد دولة بالمعنى الدقيق للكلمة. أما "الجمهورية الثالثة" فقد كانت دولة بدون مؤسسات شرعية، أي مجرد جغرافية متهرئة لسلطة خشنة. الأمر الذي يفسر سيادة "العابر" فيها. فقد كان كل ما فيها انتقالي بالمعنى السياسي والاجتماعي والأخلاقي. من هنا انعدام إمكانية التراكم، وبالتالي تأسيس التقاليد الضرورية للدولة العصرية.

وضمن هذا السياق يمكن فهم مقدمات ومحددات ظهور وعمل "مجلس الحكم الانتقالي" والتشكيلات الحكومية المؤقتة اللاحقة حتى الآن. فهي كيانات عابرة وجزئية لا توليف فيها لغير الترقيع الضروري الناتج عن كيفية ظهورها للوجود بوصفها "قوى مساومة" لا غير. وفي هذا فقط تكمن قيمتها السياسية. بمعنى أنها تمثل للمرة الأولى في تاريخ العراق المعاصر صيغة سياسية معقولة للمساومة، رغم أنها جرت في ظروف حرجة وبضغط قوى خارجية، أي لم تكن نتاجا تلقائيا للإدراك السياسي من جانب قواها المكونة. لكنها استطاعت للمرة الأولى في تاريخ العراق الحديث من جمع اغلب القوى السياسية تحت مظلة تقر بجودها المؤقت في السلطة، وان ما تعمل ضمنه هو مجرد كيان عابر وكينونة انتقالية إلى أن يجري نقله إلى الوضع الدستوري الدائم. ذلك يعني إقرارها السياسي بضرورة الحصول على صيغة شرعية لحق "الثبات" في الحكم، وان هذا الثبات مقرون وملازم لثبات الدستور والقانون.

إننا نعثر في هذه الحالة على قيمة تاريخية مهمة بالنسبة لتطور الوعي السياسي والحركات والأحزاب السياسية. إلا أن قيمة هذا الإدراك مازالت ترتبط بمدى استعداد القوى السياسية الحالية على تجسيد ماهية ومدى ووظيفة "الانتقال" المرهونة حاليا بها. لاسيما وان خصوصية هذه المرحلة الانتقالية تقوم في كونها الصيغة السياسية المعبرة عن النقص الجوهري في تاريخ ومسار الدولة العراقية الحديثة وكيفية سقوط "الجمهورية الثالثة". وهو الامتحان التاريخي العسير أمام الحركات والأحزاب السياسية الكبرى الفاعلة في ظروف العراق الحالية. وذلك لأن السؤال الجوهري القائم أمامها يقوم فيما إذا كانت هي قادرة فعلا على نقل العراق من واقع التجزئة إلى رحاب الوحدة، أم أنها تعمل "بمنطق" ونفسية التجزئة، أي هل أن "الانتقالي" بالنسبة لها ينبغي أن يتطابق مع فكرة الانتقال من مستنقع التجزئة والخراب إلى عالم الوحدة والبناء، أم أنها ستعيد إنتاج حالة المؤقت بوصفها حالة الثبات الوحيد؟! وهو امتحان اقرب ما يكون إلى إشكالية الفكرة السياسية والأحزاب السياسية والفكرة الوطنية. وذلك لأن حصيلة المعطيات العامة والخاصة لسلوك الأحزاب السائدة حاليا ونمط تفكيرها يقوم في سيادة نفسية المؤقت (رغم وجود ما يسمى بالدستور الدائم). وهي أتعس أنواع النفس وأكثرها رذيلة. إذ حالما تتغلغل في الوعي السياسي فإنها تصنع وعيا عادة ما يتسم بالنهب والالتهام السريع ومختلف أنواع المغامرة والمؤامرة.

وهي نتيجة يمكن رؤية "مآثرها" الأولى في الصراع من اجل رسم مواد "قانون إدارة الدولة" للمرحلة الانتقالية، واستمرارها اللاحق في المواجهة الخفية والعلنية حول "الدستور الدائم". وهو سلوك كان محكوما بنفسية وذهنية المؤقت، بمعنى الحصول على اكبر قدر ممكن من "الانجازات". وهي انجازات محكومة بدورها بالرؤية الحزبية الضيقة، بمعنى خلوها الفعلي من هواجس أو غاية الفكرة الوطنية العامة. وهو سلوك يشير إلى طبيعة الانعزال والانغلاق الذاتي للقوى والأحزاب السياسية. من هنا تماسك الأحزاب السياسية على ذاتها وانغلاقها بمعايير الوحدة الوطنية. وهو تماسك لا يتصف بالفضيلة، لأنه مبني على رذيلة الخوف، ومن ثم نفسية العبودية الهلعة أمام مواجهة التحديات الكبرى. وعادة ما تميز هذه الصفات الرخويات السياسية، التي برزت بوضوح للمرة الأولى في السلوك العملي للقوى السياسية المكونة آنذاك لمجلس الحكم الانتقالي في كيفية وأسلوب إعدادها وموافقتها على "قانون إدارة الدولة المؤقت". وهو أسلوب يتسم بالعداء للديمقراطية والتخوف منها من جهة، وسيادة ذهنية التجزئة ونفسية الغنيمة من جهة أخرى. فحتى خلافاتها الخفية والمعلنة لم تتصف بالمبدئية. وفي حصيلته الباطنية يمكن القول، بأن أسلوب الاتفاق والاختلاف على "قانون إدارة الدولة" بين القوى السياسية لم يكن محكوما بفكرة الوطنية العامة وفكرة تأسيس الرؤية الشرعية والمصالح العليا للمجتمع، بل "بإنزال" ما تراه مناسبا لنفسها. وهي نفسية مميزة للقوى المؤقتة.

إننا نرى في حصيلة التنازلات والمساومات والاعتراضات حول مواد "قانون إدارة الدولة" الملامح الأولية لسحق براعم الفكرة الشرعية للدولة وقواعد اللعبة الديمقراطية وأولوية المجتمع المدني في النشاط العملي للأحزاب السياسية. مع ما يترتب عليه من انهماك في تجزئة الفكرة الوطنية. كما أنها ممارسات تعكس نمو وازدياد نفسية التنازلات والمساومات الضيقة، بمعنى الانحدار من القومية الضيقة إلى العرقية، ومن الجهوية إلى الطائفية، وتصاعد نفسية المؤامرات والمغامرات في "الاتفاقات" و"الجبهات". مع ما كان يرافقه من شبه انعدام للمحاسبة الذاتية والمكاشفة العلنية أمام المجتمع، وغياب النقد العلني والصريح، وترقيع كل شيء تحت حجاب "الوحدة"، وخلط القيم والمفاهيم والمبادئ دون منهجية واضحة عن حد وحقيقة الوطنية العراقية.

وقد أدى ذلك بدوره إلى محاولات ترسيخ فكرة وأسلوب ومبدأ "المحاصصة"، بمعنى الخروج على فكرة الديمقراطية واستحقاقها السياسي، بوصفه الأسلوب الوحيد للقضاء على نفسية وذهنية المؤقت. وذلك لأن الهاجس الفعال عند القوى السياسية المكونة آنذاك لمجلس الحكم الانتقالي لم يكن محكوما بالرغبة الصادقة في بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني، بل للحصة الممكنة في النظام المقبل. وهي حصص وهمية تكشف عن عدم نضج الوعي السياسي الوطني والدولتي والاجتماعي. وهو ضعف كانت تتقاسمه كل القوى المكونة لمجلس الحكم الانتقالي دون استثناء. مما يعني أنهم جميعا كانوا يشاركون بوعي أو بدون وعي في نفسية المؤقت ومحاولة جعلها مبدأ سياسيا يحكم سلوك الدولة. ووجدت هذه النفسية تعبيرها النموذجي في التحضير والإعداد لكتابة الدستور الدائم وأسلوب ونوعية تأييده ومعارضته.

وبعد مرور ما يقارب العقدين من الزمن ظهرت بوضوح معالم الطريق المغلق لنفسية وذهنية المؤقت. بمعنى انغلاق آفاق النظام السياسي الحالي وموته المحتوم.

إن البديل الوحيد الممكن والمستقبلي هو بديل النظام الشرعي الثابت المحكوم بدستور وطني ثابت ورؤية إستراتيجية تؤسس لدولة مدنية حديثة تنفي وتطرد منه الطائفية السياسية (السنية-الشيعية) والقوى العرقية الضيقة (الكردية) وتستعيض عنها بفكرة الوطنية العراقية والقومية العربية والنظام المدني العقلاني

***

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم