قضايا

الثابت والمتحول في المجتمع المغربي

المهدي بسطيلي"بين السياسي والاجتماعي وسبل تصريف السلطة"

على ضوء كتاب رحمة بورقية"الدولة والسلطة والمجتمع دراسة في الثابت والمتحول في علاقته بالدولة وبالقبائل في المغرب قبائل"

يعمل هذا الكتاب على تحليل منطق النظام الاجتماعي في المغرب والعلاقات التي كانت تربط الدولة بالقبائل من القرن التاسع عشر إلى الفترة الراهنة، وقد قسمت المؤلفة أبحاثها إلى تصورين:

الأول ينظر إلى السلطة من منظور علائقي واستراتيجي

والتصور الثاني هو تصور نسقي ينظر للمجتمع نظرة شمولية ومن خلالها يعمل على تحليل السلطة

إن الغاية من هذا الكتاب كما صرحت الباحثة هو الوقوف على الطبيعة المركبة لمكونات المجتمع المغربي في العصر الراهن وقد ركزت الكاتبة أبحاثها الأنثربولوجية على الطابع الخفي والاستراتجي للسلطة في المجتمعات الثقليدية.

كمساهمة في تحليل بعض جوانب تفاعل عناصر التركيب وأسسه التاريخية لجأت إلى تتبع العلاقة التي تربط الدولة بمؤسسة القبيلة، ومنه أخد قبائل زمور نموذج لدراسة هذه العلاقة ولغاية معينة أخذت العلاقة في مسارها التاريخي خلال مرحلتين متقطعتين في الزمن حيث درست النصف الثاني من القرن التاسع عشر وعقدين من الرن الراهن والقفز المتعمد فوق الحقبة الاستعمارية لايعني بالضرورة عدم أهمية تأثيرها على طبيعة الدولة وعلى علاقتها بالقبائل ...

في هذا الكتاب تساؤلات نعتبرها مؤشرات تساعد في فحص الأطروحات النظرية التي وضعها باحثون منتمون إلى اتجاهات نظرية مختلفة حول الدولة والسلطة والمجتمع...

الدولة والسلطة والمجتمع

ينطلق التفكير في العلاقة التي تربط الدولة بالمجتمع، من مسألة التخلف أو مأزق العالم الثالث، تؤرخ له العديد من النقاشات الحادة التي تبلورت بشدة من الستينات إلى السبعينات من هذا القرن، وارتبط بمجموعة من المفاهيم من قبيل التقدم، النمو، التطور، كقوانين تخترق كل المجتمعات بدرجات متفاوتة، ليتحول النقاش فيما بعد إلى مقاربة الاستراتيجيات السياسية وما يواكبها من صراع فكري إيديولوجي بكل مجتمع على حدة .

ويستأثر سؤال الدولة في المجتمع المغربي أهمية قصوى من هذا الباب داخل ميدان العلوم الاجتماعية، بسبب التطورات التي تعرفها الحياة السياسية خلال السنوات الأخيرة سواء على المستوى العالمي المتمثل في تصاعد موجات العولمة وقدرتها على اختراق جميع المجتمعات، أو على المستوى المحلي المتمثل في الربيع العربي، وما ترتب عن ذلك من إعادة ترتيب للمواقع السياسية، والإطاحة بأقدم الأنظمة العسكرية، فيجد الباحث نفسه أمام مجموعة من التساؤلات حول القوانين المتحكمة في اللعبة السياسية، في سياق فهم أحداثها وخلفياتها، وخصوصا فيما يتعلق بالتحولات التي عرفها المغرب في سياق هذه الأحداث العالمية والمحلية (حركة 20 فبراير) على مستوى البنيات الهيكلية، وإعلان رغبة القطيعة مع بعض التوازنات التقليدية، وتسليط الضوء على مجموعة من المحطات المصيرية في تاريخ الدولة المغربية وتحديدا الصدمة الكولونيالية، بأبعادها الحضارية والثقافية والاقتصادية والعسكرية والإيديولوجية، ماترتب عنه مجموعة من التغيرات التي تمت بفعل هيمني .

ويتضح في بداية الأمر ضرورة استحضار جزء من تاريخ الدولة المغربية التي يمكن نعتها بالدولة الألفية، باعتبارها ضاربة في القدم ولا تقل كثافة تاريخية عن الدول العريقة (الدولة الصينية، الهندية الإيرانية المصرية...) لكن العطب التاريخي يسجله غياب تاريخ مكتوب للدولة المغربية يحدد مسار تطوراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بحيث تظل مبتورة التاريخ والهوية .

إن التاريخ الذي نتحدث عنه الآن لا يمكن نعته بكونه مجموعة من الأحداث التي انتهت في الماضي، إنه تعريف تقليدي واضح البطلان، فقراءتنا للتاريخ هي مسائلة لما تبقى محفوظا من الماضي إذ يحدثنا عن واقع سالف لكنه في نفس الوقت حاضر في ذهن من يروي تلك الوقائع، ويعبر عن رموز المجتمع، لأنه كواقع اجتماعي يعبر عن حقيقة تاريخية يترجمها الأفراد لتصورات وتمثلات اجتماعية يمكن أن تظهر بدورها على شكل سلوكيات معاشة، فتصور الفرد اتجاه الدولة سينعكس بشكل مباشر إلى سلوك على مستوى الواقع .إن التاريخ اذن هو تحويل لتلك الوقائع والتصورات والرموز إلى دراسة تأويلية محط الفهم والتحليل، مما يستدعي تبني منهجية علمية تجابهها مجموعة من الأدوات المنهجية في أول خطوة نطرح فيها مسألة الدولة بالمجتمع المغربي، وهو في نظرنا ما استطاعت الباحثة رحمة بورقية القيام به من خلال هذه الدراسة

يلفت انتباهنا في بداية الأمر ما يؤكده عبد الله العروي في مؤلفه مفهوم الدولة، أن كل تفكير في السلطة هو تفكير بشكل من الأشكال في الدولة، كما أن التساؤل عن الدولة هو تساؤل في أبعاد ثلاث : الهدف أو الغاية من الدولة، ثم وظيفة جهاز الدولة، وقياس مراحل نموها وتطورها في علاقتها بالمجتمع .

كما أن التفكير في الدولة كظاهرة اجتماعية، يجب أن يكون تفكيرا رافضا لتصور الفرد خارج الدولة وتصور الدولة خارج المجتمع، وأن أي فصل بينهم يجب أن يكون على أساس تؤطره غاية الفهم من أجل الإدراك والعرض والتفسير فقط.

في مقدمة الكتاب تضع الباحثة مبررات تاريخية لا نستطيع القفز عليها لأنها مهمة لنواكب سيرورات الفهم للكتاب إذ توضح أن التحولات التي عرفها القرن السادس عشر عن سقوط الأندلس وكذا تعرض المغرب للغارات الأجنبية غييرت ميزان القووى بين المغرب والغرب من جهة ومست حتى العلاقة بين القبائل والمخزن باعتباره السلطة السيادية بالمغرب لذلك لتحقيق الفهم خلال هذه العلاقة فإن المقاربة المنهجي تقتضي تحليل المفاهيم داخل وخارج علاقاتها النسقية

يجبرنا هذا التساؤل على الرجوع إلى المفاهيم النظرية قصد القيام بمحاولة تحديدها كمفهومي الدولة والسلطة وقد أثارت هذه المفاهيم نقاشات واسعة لما لا قد نجازف بالقول أنها شكلت أرضية محاولات التحليل السوسيولوجي التي أعطت لنفسها صفة وطنية يعني مغربية، وحينما نقول نقاشا فإننا نقول اختلاف في الأفكار في التصورات النظرية للمجتمع وبالتالي هو اختلاف في قراءة مفهوم السلطة والدولة من خلال السياق والظروف والدوافع التي أعطت ذلك.

فهمي مفاهيم يحيط بها الكثير من الغموض تارة تكون واضحة ظاهريا وتلجأ إلى أقنعة لتخفي نفسها فهي محادية أحيانا لمفاهيم من قبيل القوة والنفوذ والرقابة الاجتماعية والهيمنة والسيادة والقمع... فقد تكون كل هذه المفاهيم تعبيرات سياقية عن مظاهر للسلطة نفسها .لذلك هل السلطة مرتبطة حقا بالمؤسسات والهياكل التي تجسدها أم تتجاوزها؟ وإذا كانت تتجاوزها فماهي آليات هذا التجاوز؟ هل تعمل بالعنف أم بالقوة والإيديولوجيا؟ هل تلجأ السلطة إلى المنف أم أنها أيضا تعمل على ترسيخ الخيال الرمزي الجماعي؟ ماهو سر استمرارية السلطة كقوة اجتماعية بالمجتمع المغربي؟ هل هي ذات وصاية سياسية سيادية مشروعة؟ أم أنها مستمدة من تصور ثقافي اجتماعي شرعي؟

إن التفكير في مفهوم السلطة هو تفكير في السياسة أيضا لذلك لابد أن نميز بين :

- La politique: هي المجال الرمزي للتنافس بين الافراد والطريقة التي يدبرون من خلالها صراعاتهم الاجتماعية أو تنافسياتهم ان صح التعبير

- Le politique: يحيل، وبشكل عام، إلى طريقة التفكير الموضوعي بخصوص السلطة (التدبير الموضوعي للسياسة في اشتغالها اليومي= الجانب التنظيمي والتسييري للسياسة la politique)= «اللعبة السياسية»

وعلى هذا الأساس نجد تصورين :

- التصور الأول: السوسيولوجيا السياسية هي سوسيولوجيا الدولة وتكون السلطة سلطة الدولة .

- التصور الثاني: (الحديث) السوسيولوجيا السياسية هي علم السلطة والحكم؛غير أن السلطة ليس حكرا على «السياسي» لأنها توجد في جميع التنظيمات: الدولة، الحزب، المقاولة، الاسرة، .... كما تقول 'كيت ناش' السلطة قوة كامنة في جميع التنظيمات الاجتماعية .

وعلى هذا الأساس ذهبت الباحثة رحمة بورقية لاعتبار الأبحاث الأنثربولوجية أبحاث ركزت على الطابع الخفي والاستراتيجي للسلطة في المجتمعات االتقليدية، الشيء الذي يقتضي البحث عن السلطة لا في مراكزها المعهودة كالدولة والنخبة ووسائل القمع وإنام في جل مظاهر الاجتماعي والديني والرمزي وبالتالي هذا هو المدخل الوحيد والممكن لتحليل وفحص الأطروحات النظرية حول الدولة والسلطة قصد مجابهتها بواقع وطبيعة السلطة والدولة في المجتمع المغربي المعاصر.

المبرر الثاني الذي توظفه الباحثة وهو طبيعة المجتمع المغربي المركبة لمكونات المجتمع المغربي التي تدفع الباحث لفهم مبررات هذا التركيب في الماضي لأن الحاضر يحمل أسئلة تحتاج لأجوبة عالقة في الماضي.

فإن كان تركيب المؤسسات والعلاقات والسلوك هو ظاهرة ملحوظة في المجتمع المغربي كما أشار إلى ذلك بول باسكون فإن تفاعل عناصر التركيب تحتاج إلى مسائلة موضوعية ومستمرة وتستدعي إنجاز دراسات متعددة لأن الزمن لا يتوقف، وكمساهمة في تحليل هذه العناصر أيضا لجأت الباحثة لتتبع العلاقة التي تربط الدولة بالنمط القبلي من خلال قبائل زمور نموذجا خلال مرحلتين:

النص الثاني من القرن التاسع عشر والعقدين الما قبل الطاهيرين بالقرن العشرين كما أن القفز على اللحظة الاستعمارية ليس لعدم أهمينه في التحليل لكنه كحدث تاريخي فإننا عندما نركز على الحاضر فنحن نهتم به كحصيلة لسيرورة أفرزت تفاعلا بين عناصر الاستمرارية وعناصر التحول، فاهتمامنا بمرحلتين متباعدتين في التاريخ الزمني تساعدنا على ضبط ذلك التفاعل بين الثابت والمتحول في علاقة الدولة بقبائل زمور.

الجزء الأول: الدولة وقبائل زمور في القرن التاسع عشر

الفصل الأول: قبائل زمور البيئة والبشر في القرن التاسع عشر

1- قراءة المجال الجغرافي

تبدأ الباحثة في التأكيد على العلاقة التي تربط الانسان بالمجال، اذ لا يمكن اعتبار هذا الأخير معطى مفصول عن الانسان بل هص عناصر تتفاعل فيما بينها وتنفعل كذلك، فمن خلال قراء المجال يمكن قراءة الانسان الذي يحتله ويكيفه حسب مقتضياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .

فمنطقة زمور توجد كقبيلة بين مدينتين مخزنيتين: الرباط/مكناس: وهي عبارة عن رقعة مربعة الشكل تبلغ 80 كلم وتقدر مساحتها ب 333.000هكتار، ترتفع عن البحر، تتشكل حدود طبيعية بينها وبين القبائل المجاورة من وتضاريس وعرة.

2- الإمكانات البشرية

يمكن الحديث عن التجمعات التي تضمها زمور على الشكل التالي:

التجمع الأول: تجمع بن عمر الذي يضم الخززرة، مزروقة، القطبيين، أبت علي ولحسن، أيت بوحيى، حجامة.

التجمع الثاني: تجمع أيت زكري، ويضم قبائل أيت بلقاسم، وأيت عبو، أيت واحي.

التجمع الثالت: تجمع أيت جبل الدوم: أيت ميمون، ايت سيبر العرب، ايت سيبر الشلوح.

لا يعبر هذا التقسيم في نظر الباحثة، عن حدود ع رقية ولا قبلية واضحة بقدر ماهو تعبير عن سياسة المخزن في وضع تقسيم عملي يسهل ضبط القبيلة ومن ثم جمع الضرائب.

لقد عبرت كل الوثائق "الإدارية المخزنية " على عقلية برغماتية حيث أنها لم تستعمل كلمة قبيلة بل فقط فرق أو أقسام اط ما يمكن أن نسميه اتحاديا زموريا حسب ذلك هو مجرد قبيلة كبيرة في نظر المخزن، انطلاقا من ذلك يمكن أن نحاول مع ديل اكلمان للتمييز بين أربع تصورات فيما يخص مفهوم القبيلة

1- التصور المعبر عنه لذى الأفراد داخل الواقع القبلي، تصور غير قار اذ يتغيير حسب المكان الذي يتواجدون فيه فذاخل الاتحاد الزموري يعتبر نفسه منتميا الى قبيلة محددة وخارجها فهو زموري الأصل.

2- تصور المخزن، وهو تصور كما قلنا محدد بعقلية برغماتية تسهل ضبط المجال لذلك يتعامل حسب الوضعيات

3- تصور الذين لاينتمون إلأى زمور، وهو تصور يقترب من تصور المخزن احيانا اذ لاعرفون غير زمور

4- تصور الباحث الأنثربولوجي والذي تقابله كل التصورات.

لذلك لا تطمح الباحثة إلى الوصول إلى تحديد مضبوط لما يدعى بقبائل زمور لأن كل من الواقع والتصور غير قار، بقدر ما تطمح للتأكيد على صعوبة هذا التحديد وكأن هذه القبائل لا تكتسب هويتها إلى عندما تواجهها قبائل أخرى.

الفصل الثاني: مخزن أم دولة

إن رفض ثنائية المخزن والسيبة يجب أن لا يقودنا إلى موقف مضاد والذي يغالي في التأكيد على عناصر الوحدة داخل المجتمع المغربي، وذلك بإظهار المخزن كرمز للوحدة والانسجام والاتحام داخل المجتمع المغربي كما ذهب لذلك محمد لحباي في كتابه الحكونة المغربية في مطلع القرن العشرين أو جرمان عيشا حول الدور التحكيمي للمخزن...فإذا كان الأول يجد مبرره داخلاستمرارية الحركة الوطنية في السنوات الأولى من عهد الاستقلال فإن الثاني لايفهم إلا من داخل وطنية دفاعية تغض الطرف عن تناقضات المجتمع المغربي، وعن التحكيم كميكانيزم من ميكانيزمات تصريف السلطة في المجتمع المغربي. وهنا نتسائل هل نحنن ّأمام دولة أم مخزن؟ أم أمام تمظهر من تمظهرات الدولة ؟

إن التأمل في الصراعات الاجتماعية بالمجتمعات الأوروبية، وفكرة نشوء الدولة القومية يحدد لنا ثلاث خصائص ظلت تحدد وجود الدولة وهي :

التراب أي الحدود ثم الشعور بالهوية القومية وأخيرا وجود لغة مشتركة، توجت هذه الصراعات بانشقاق وقطيعة المجتمع السابق بنظامه الفيودالي وصعود البرجوازية والنظام الرأسمالي .أليست هذه الخصائص هي نفسها التي اعتمد عليها عبد الله العروي في بحثه حول الجذور الاجتماعية والثقافية للقومية المغربية ؟

يقول"إن المغربي مختلف ويشعر بالاختلاف بلباسه، لغته، الحدود التي يعترف بها لتراب يعطيه اسما ويجعله ثرابا"، ويتبث لنا 'ادموند دوتي' أن الوحدة القومية المغربية مؤسسة بدرجة أولى على على الوحدة الثقافية الروحية الذي يكون الدين اللإسلامي جوهرها، أكثر منها أن تكون وحدة إدارية ويقول 'ليس هناك أشد وأخطر من الحركة التي تقوم على الدين لأنها تأخذ شكل حرب مقدسة'، ويثبت ذلك جاك برك أيضا بقوله "'لقد لعب الديني بالمغرب الدور الذي لعبته البيروقراطية بأوروبا '.إن ما يمكن تدوينه بهذا الصدد أن القومية المغربية –روحية ثقافية-تشكل العنصر الأساسي القائم بين الانتماء للوحدة الترابية كما تميزت بها المجتمعات الأوروبية، وطبيعة الانتماء إالى وحدة روحية ثقافية ميزت المجتمع المغربي" .

يقول ادموند دوتي' "بما أن الدولة المغربية لها طابع ديني بالأساس فإن فكرة القومية قد عوضها الإيمان وبالتالي فالفرد المغربي لا يختلف عن الأوروبي في فهمه للسيادة فحسب وإنما أيضا بالكيفية التي تطبق بها حدود ممارسة هذه السيادة"'، وبالتالي الدولة المغربية حسب دوتي كتصور يبنيه الفرد المغربي، لا تبدو حدود محددة بشساعة ترابية، بل سلطة رمزية تترجم كوحدة روحية تترجمها سلطى الإمام لتمتد نظريا لتشمل عمليا كل القبائل التي تصلي باسمه .

إن تصور 'لدموند دوتي' بغض النظر عن الناحية الابستمولوجية بخلو خطابه من النظرة الاستعمارية أو وجودها، اذا ربطناه بتصور عبد الله العروي باعتباره من مؤسسي المدرسة الوطنية، سيبدو مقنعا لتبرير ماحدده هذا الأخير من عناصر محددة للوحدة المغربية .ويمكن أيضا أن نبرر قبول هذا التصور، إذا تأملنا تاريخيا كيف تقبل المخزن المغربي الاحتلال الفرنسي للجزائر كمصيبة عظمى وكارثة حلت بالإسلام، من خلال رسالة السلطان مولاي عبد الرحمان"...في شأن الواقعة التي ساءت اللإسلام والمسلمين وأخذت عيون أهل التقوى والدين من استيلاء عدو الله الفرنصيص على ثغر الجزائر ..." ولم تكن لأحداث تطوان وتوغل الإسبان في الحدود الترابية المغربية تأثير كبير على حدث احتلال الجزائر، بل اعتبرت من الدرجة الأولى اعتداء على الوحدة الإسلامية واعتبر الحدثين نازلة عظمى أعلن من خلالها الفقهاء إشهار السيف (سيف الجهاد).

لقد شكل السلطان المركز الروحي باعتباره أمير المؤمنين والصلاة تقام باسمه، مركزية ظلت تجسد الرمزية الروحية الدينية لتوا بث الوحدة القومية بالمغرب، حتى أصبح مفهوم الوحدة الترابية غير كافي لتفسير الوحدة المغربية، وبما أن السلطان هو منبع ما يوحد المغاربة فإن سيادتنا وجدودنا مرتبط بوجوده ودوام بركته، أين ما حل وارتحل " فالسلطان الحكيم هو الذي يجعل من السماء قبته ومن سرج حصانه عرشا له".

الفصل الثالت: الأسس الرمزية للمخزن

تؤكد الباحثة رحمة بورقية إن الأساس الذي يقوم عليه المخزن المغربي من درجة أولى هو"البيعة"، ويقول فيها ابن زيدان : جمع بين طرفين، الأول هو السلطان الذي يكاد المؤرخون يفصلون بينه وبين الدولة، 'أمير المؤمنين ذو أصل شريف حامل للبركة' مما يجعل البيعة أمر طبيعي لخلف لا منازع فيه، تستهل بآية قرآنية "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " بتذكير الجميع أن السلطان هو خلف الله على الأرض وتكرار البيعة هو تكرار لبيعة الرضوان، ومن رفض البيعة كمن رفض الإسلام، أما الطرف الثاني يمثله أهل الحل والعقد، ذوي الكلمة المسموعة بين الناس يحظون برضى السلطان سواء في شقه المادي والمعنوي.إن البيعة تمثل استمرارية لتجربة إعادة الإنتاج، إنتاج نموذج حكم يقوم على أساس البركة والشرف كثرة رمزية تحول دون فشل البيعة المقدسة1. ويقول ابن خلدون في البيعة : هي العهد على الطاعة، يبايع فيها المبايع أميره ويعاهده على تسليم نفسه، وعلى الحق في النظر بأمور المسلمين وتقوم على ركيزتين بشكل أساسي، مبدأ ضرورة نظام الخلافة، ومبدأ الحضور الدائم والقوي للخليفة في جميع الأمور باعتباره خليفة الله على أرضه.

ويعتبر حفل تقديم الولاء الحيز الزمكاني كطقس للعبور إلى عالم المقدس، استراتيجية يعتمد عليها المخزن لتأكيد شرعيته في الحكم، تعتمد خلاله المؤسسة الملكية على جميع قنواة التأثير على رأسها الجانب الديني، لتذكير العامة أن الجالس على العرش هو خليفة للرسول، في البركة والشرف والصلاح والقدسية، ثم في تعهده بتطبيق الأحكام الشرعية وفق ما جاء في الإسلام.وتعتمد في ذلك على آيات قرآنية محددة تم استخدامها في العصر الإسلامي.لكن ما يجعلنا نتساءل باستمرار عن استمرارية هذا النسق السياسي داخل الدولة المغربية، هو استمرار هذه الطقوس التقليدية حتى بعد استقلال المغرب، وإعلانه الرغبة

في خوض غمار الحداثة السياسية، فالعيد الوطني الذي يحتفل به في 14غشت من كل سنة والذي شرع في الاحتفال به لأول مرة سنة 1879حينما تم استرجاع وادي الذهب وظمه إلى حظيرة الوطن الأم، يتم خلاله تقديم حفل الولاء جماعيا وفق بيعة الرضوان .إن البيعة كطقس ديني سياسي تعبر عن خاصية أساسي في النظام السياسي المغربي، في القدرة على التموقع فوق الدستور، والأخذ بعين الاعتبار أن القانون الأساس يتمثل في البيعة المقدسة التي تربط شخص الملك بشعبه، وفي هذا الصدد نستحضر قول الملك الحسن الثاني حيث يقول، إن "الدستور ماهو إلى تجديد تعبيري عن علاقة الملك بشعبه، فالمغاربة لطالما عبرو عن تشبثهم بالمؤسسة الملكية ". الشيء الذي يطرح العديد من الأسئلة عن حقيقة الحداثة والتحديث بالمجتمع المغربي، وما يحمل في ذلك من أسئلة عن وقع التغير الاجتماعي بالمغرب.

الفصل الرابع: الحركة كرمز للسلطة

يقول إيكلمان" إن الحكومة المغربية ليس لها مقر خاص بها لكي تخضع الشعب وترده للواجب، فلكي يضمن مردوردية الضرائب يكون السلطان مضطرا لكي سافر باستمرار ليخضع السكان لا عن طريق السلاح فقط بل عن طريق الثأثير الديني والشخصي وعن طريق سياسات الإغداق وسحب البساط"

إن طريقة هذا العرض وهذا التفاخر في تصريف السلطة تفرض نفسها على السلطان لإن هناك منافسين في الرأسمال ارمزي أولا ثم المادي ثانيا.

المخزن والقيادات المحلية والعامة

”يعد المخزن أداتا ونسقا لدولة من نمط إرثي يقوم على علاقات نسبوية، وعلى نظام من المراتب الإدارية المنظمة والهادفة إلى تمركز الحكم وتكوين عساكر ناجعة وضبط الرعية وجبي الضرائب في المناطق المراقبة واللجوء إلى التوازنات في الجهات المعادية (السائبة)” الهادي الهروي

إن قراءتنا لمفهوم الدولة، على ضوء مفهوم المخزن لم يكن اعتباطيا، خاصة حينما نجد ان روبرت مونتاني خصص له مؤلفا "البربر والمخزن" وعبد الله العروي الذي جعل منه محورا أساسيا، في أطروحته التي عنونها ب، "الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربي ".

سلطة تتمظهر سلطة عبر مجموعة من التراتبيات الرمزية، الإدارية ولبيروقراطية والتي تقوت في فترة ألحماية وهي كالتالي:

الوزراء: يوجدون في قمة الهرم التراتبي للجهاز المخزني، يترأسهم الصدر الأعظم، وقد كان يتكون هذا الجهاز من سبعة وزراء في عهد المولى عبد الرحمان، لكن بعد ذلك تم استحداث وزارات أخرى،

العلماء: النخبة المثقفة، يعمد لها مهمة النصح والإرشاد، وابتكار أمكاط للتسيير، وكانو يسمون أيضا بالخاصة أو الفقهاء

الأمناء: ظهر منصب الأمين منذ سنة 1856؛ كانت مهمتهم التحكيم في النزاعات بين الحرفيين، مما جعلهم يتمتعون بمكانة مرموقة داخل المجتمع،

الأعيان: أسياد القوم، ينتمون إلى نخبة محلية أو إقليمية، يتولون مناصب كمنصب ”القائد" أو المقدم" مستمدين ذلك من المكانة الاجتماعية التي يحتلونها. كما تجدر الإشارة، إلى أن وبفضل هؤلاء الأعيان، سواء في القرية أو المدينة، وعن طريق احتوائهم من قبل السلطات الاستعمارية، تمكنت هذه الأخيرة من بسط نفوذها على البلاد،

القياد: تتكون من موظفي المخزن المشرفين على جمع الضرائب واستتباب الأمن، وقد نمت هذه الفئة بشكل كبير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى إن تحولت إلى ظاهرة اجتماعية، وذلك في مرحلة القايدية الحربية، نظرا للقهر الذي مارسته على الساكنة،

الأرستقراطية الحضرية والقروية: فئة اجتماعية نمت بالمدن أكثر من البوادي، اعتمدت على الاحتكار والقرض بالفائدة من أجل تنمية ثروتها، كما أن قربها من الأجهزة المخزنية ساعدها على ذلك،

الشرفاء: نسبة إلى انحدارهم من السلالة النبوية وامتلاكهم للبركة، وذلك منذ عهد المرينين.

المرابطون والزوايا: كانت له وظائف تجعله في قمة الهرم الاجتماعي القروي كالتحكيم في النزاعات؛ إطلاق بعض السجناء ممن لحق بهم ظلم؛ يتمتعون بالبركة2 .

يقول ليفي ستراوس في مراجعته لأعمال مارسيل موس، "من عادات المجتمع ان يعبر عن عاداته رمزيا "لذلك لابد في محاولة قراءة تاريخ المجتمع وخصوصا إذا كان هذا التاريخ سياسيا، الأخد بعين الاعتبار أن كل مجتمع يبلور أنظمته الرمزية الخاصة، فالمجتمع المغربي يكون الشعور الديني أحد العناصر الأساسية، كحقل أنتج مجموعة من الرموز التي شكلت إحدى الشروط الأساسية للوصول إلى السلطة التي أنتجت بدورها مفاهيم من قبيل 'الشرف' البركة' الصلاح '...

تترجم الوثائق التي تحصلت عليها الباحثة حول قبائل زمور 'كناش الشؤون العسكرية' ' إلى وجود عشرين قائدا على رأس زمور وقياد آخرين يذكرهم التاريخ ولم تذكرهم الوثائق.

المعطى الاقتصادي في زمور

إن وجد السوق في القبيلة دليل على أن هذه الأخيرة لم تكن في عزلة بل فوجود السوق دليل على الانفتاح الثقافي والاقتصادي على القبائل المجاورة وعلى المدينة أيضا، ولم يكن المكان الذي يقام فيه السوق اعتباطيا بل يخضع لاعتبارات اجتماعية وجغرافية وثقافية وسياسية، لكي يترجم السوق الالتحام القبلي للقبائل من خلال ذلك يشترط أن يقام السوق في محل الاتقاء بين الجماعات، في أسواق زمور مقرات للإضراب ومحلات منظمة بقواعد ومراقبة تمارس فيها الأحكام ففي السوق تحل النزاعات وتقرء الرسائل المخزنية وتناقش وتنتقل الأخبار بين الناس، فإذا كان السوق مجالا اقتصاديا فّإنه مجال سياسي ايضا غذ يعتبر الحصار الاقتصادي من الأدوات الفعالة للقياد في تأديب القبائل المتمردة وإخضاعها تحت إشراف السلطان، وقد يستعمل كادات للضغط من اجل الحصول على الضرائب

 

 

استعمال العلاقت القبلية والعرف في زمور

يدخل استعمال العلاقات الاجتماعية في إطار ممارسة السلطة من طرف المخزن إذ يختار ويعين القائد من داخل القبيلة الت سيحكمها وغالبا ما يقترح من طرف قواد مجاورون فالقائد يدعو محكومية إخوانه ومن لم يخضع له فإنه عصاهم جميعا وكسر حبل الإخوة ويجب أن يعاقب.كما يجب أن يحضى بثقة الشرفاء وأن يباركوه.

الجزء الثاني: الدولة ومنطقة زمور في العصر الحالي

إن تتبع المتغيرات التي من خلالها يمن تناول العلاقة بين المخزن وقبائل زمور والرموز والمشكل للمجتمع تجبرنا عل تناولها مرة أخرى لإبراز الثوابت والمتغيرات في هذه العلاقة. لنقفز على مرحلة الاستعمار وذلك كما قلنا ليس لعدم أهمية المرحلة في رسم تاريخ المغرب لكن فقط لنبرز التغيرات والمتغيرات المتحكمة .

إن أول متغير نصطدم به هو التسمية نفسها فلم نعد أمام مخزن بل أمام دولة، على الأقل على مستوى البنيات الظاهرية شكلا، وإن كان اسم المخزن مزال عالقا في ذهنيات وتصورات الناس. فإذا كان للمخزن آليات خاصة لممارسة السلطة في القرن التاسع عشر فما مصيرها اليوم بعد ما أصبح ينشد الدولوية ؟

وهناأصبح أمامنا من البديهي الإشارة إلى الطبيعة المزدوجة للظواهر داخل المجتمع المغربي وهو ماعبرت عنه نظرية التحديث بالثنائية تقليد/عصرنة أو ما عبر عنه بول باسكون بصيغة أو بأخرى بالترركيب.

إن التخلي عن لفظ المخزن لصالح مصالح الدولة يعبر عن مشروع جديد يلازم المركزية السياسية للمجتمغ المغربي الحديث ويطبعها بالخصائص التي تميز الدولة الحديثة، لكن لمذا الدولة لا المخزن؟ وهل يمكن القول أن الدولة الحالية تتسم بالقطيعة مع التنظيم القديم أو تكتنف بقاياه؟

لايمكن الإجابة هن هذا إلا بعض فحص وتحليل بعض جوانب العلاقة التي تربط الدولة بباقي المجتمع وما يفصلها بالتالي عن الجهاز القديم المتجسم في المخزن.

إن مخزن القرن التاسع عشر كان يلازمه مشروع التوحيد، ومشروع تنظم مجاله السياسي، نظرا لعوامل اتضاها التسرب الاستعماري داخل المغرب وتعرض الجزاءر للاستعمار فكان على المخزن أن يوجد أطراف الوطن عن طريق الحركة وتنظيم الشبكة الإدارية واستعمال آليات المجتمع القبلي، غير أنه لم يبقى في السنوات الأخيرة أي مبرر هام لمشروع اسمه تنظيم المجال السياسي، وإنما نجد مشروعا جديدا وهو مشروع الدولوية الذي يتجلى في تنظيم شبكة من المصالح والمؤسسات التي تتسم بالعصرنة .

كما أن المشروع (بناء الدولة) يتم داخل سياقات عالمية تختلف عن الظروف التي عاشها المغرب في القرن التاسع عشر، إذ لم يعد من الممكن لهذا المجتمع أن يعيش في عزلة عما يجري في محيطه الخارجي العالمي، فهو الذي يحدد له المرجعية سواء تعلق الأمر بالمؤسسات أو السلوكات والتصورات...بل وحتى الدينامية الاجتماعية، وهو ميمكن التعبير عنه بالقول أن دينامية الخارج تستطيع أن تحول وأن تغير بعمق دينامية الداخل.

الدولة وتنظيم المجال

اختفى منذ الاستقلال مفهوم المخزن ودار المخزن من الخطاب الرسمي ليعبر عن تحول في تصور الدولة لنفسها وتحول في تصورها للمجال السياسي الذي تدير من خلاله ما يمكن أنسميه باللعبة السياسية، يذكرنا المخزن بمرحلة ماقبل الاستعمار وبالاستعمار أيضا وبماضي أصبح تقليدا يتنكر له الحاضر الذي أصبح يحمل شعار العقلانية، لقد بدأ الاستعمار بالفعل سيرورة عقلنة تعامل الدولة مع المجال وأكدت دولة ما بعد الاستقلال في خطابها هذه العقلنة.

لا يمكن أيضا القفز على التقسيمات الادارية الجديدة التي عملت (الدولة) على رسيخها بتقسيم المغرب ّإلى عمالات وأقاليم ودوائر وجماعات حضرية وقروية ليعبر ذلك عن أحد أوجه تدخل الدولة في تنظيم المجال القروي ولاستكمال إرساء المقومات الإدارية لهيمنتا.

إلصاق السكان بالرقعة الترابية للحد من حركة القبائل وذلك بوضع حدود قارة بين القبائل، وتدعيم مادية تلك الحدود والتنصيص عليها بالمكتوب، وقد كانت التعاليم الموجهة لهذه التقسيمات خاضعة المستوى الاقتصادي والديموغافي والجغرافية، وفي الواقع لم يكن المحدد الاقتصادي وحده الدافع للتخلي عن التقسيم القبلي وإنام كانت هناك محدددات أخرى من قبيل العصرنة والحداثة للقضاء على الطابع القبلي الذي لم يعد يتناسب مع مشروع الدولة الحديثة.

لقد هيئ مشروع التقسيم الاداري لإقليم الرباط والذي كان يضم لآنذاك زمور سنة 1958 بمشاركة المحجوب أحرضان الذي كان عاملا على الإقليم، ولمعرفته الخاصة بالقبائل، وينص هذا المشروع على ضرورة احترام التقسيمات القبلية اذ أن مشروع التقسيم الداخلي للإقليم كان ينص على ضرورة تطابع التقسيما ت الادارية مع التقسيمات القبلية لأنها سابقة عليها.

مناوبة السلطة

إن مظاهر حداثة الدولة حسب الخطاب الرسمي تقتضي الحد من استقلالية القائد وذلك باللجوء إلى وسائل إدارية تجعله رجل سلطة يندمج في إطار إداري عصري لا في إطار المخزن القديم. من تم إدخال عنصر التوظيف وخلق قانون ينظم ذلك، منعهم من تحصيل الضرائب وجعله موظفا يتقاضى أجر خاص.

المساومة حول التقليد

لقد اعتبرنا سلفا أن التنمية أو المشروع التنموي التنموي ككل كقناة أساسية تبرر تدخل الدولة، إلأا أنها ليست القناة الوحيدة التي تبرر حضور الدولة، إذ يتجاز هذا الحضور ليشمل حضورها محليا ومسائلة المؤسسات التقليدية وما الحاجة ّإليها اليوم .

إن القوة العلمية التي لازالت تحظى بها العديد من الأبحاث العلمية، من هذا الباب في شق منها تأكيد على أن المغرب، هو اتحادية قبائل، مستدلين على ذلك بظهور مقومات القبيلة، واستمرارية تواجدها على مستويات عدة، خاصة منها المستوى السياسي. وقد ظلت أغلب الدراسات التي قاربت المسألة القبلية في المغرب، في نسق التاريخ والأنثروبولوجيا بشكل خاص، تحاول تفسير التحولات التي عاشها المجتمع المغربي، وما مدى صحة القول، باستمرارية البنية التقليدية أو تفككها، ونحيل هنا على رواد الطرح الإنقسامي، حيث شكلت الانقسامية كنظرية لقراءة الحياة السياسية بالمغرب .

وانطلاقا من التعريف الذي يضعونه للقبيلة، بأنها " نسق من التنظيم الاجتماعي يتضمن عدة جماعات محلية مثل البدنات والعشائر والمداشر تقطن إقليم معين يكثنفها شعور قوي بالتظامن الالي والوحدة"، ويمكن اعتبار التجديد الذي وضعه "افنس برتشارد" تلميذ مالينوفسكي للقبيلة، اقرب تعبير عن خصائص القبيلة الإفريقية التي استخلصه في دراسته لقبائل النوير بالسودان.

والقبيلة عند برتشارد هي الفاعل في النسق السياسي التي تحدد ملامحه الظروف الايكولوجية، والمعاشية هي التي تحدد أشكال العلاقات وأنواعها، ويرتكز هذا النسق على القرية كوحدة صغرى، يتم النفود السياسي داخلها حسب شبكة المصاهرات وهذه الشبكات تنقسم الى فروع قبلية، أولية، ثانوية، أما العلاقات بين مكونات النظام القبلي، فتقوم على الانصهار والانشطار3. وقد تم توظيف ملامح هذا التعريف، من طرف "ايلنست غيلنر" على قبائل الاطلس الكبير بالمغرب، ليجيب على سؤال، علاقة القبيلة كمؤسسة اجتماعية بالحياة السياسية .لقد وجد غيلنر أن النظام السياسي والاجتماعي لهذه القبائل، نظام يسوده الإنقسام، ويعني ذلك أن كل قبيلة تنقسم إلى فروع، تنقسم بدورها الى أجزاء، إلى أن تصل الى مستوى الوحدات العائلية، يدير شؤونها أمغار يتم انتخابه بالانتداب بين القبائل، كل سنة وآخر يدعى أمغار وينظر في جرائم الدم، والشرف، له هالة تحول دون التفكير في عزله من منصبه4 .

إن تطبيق هذه النظرية، وخاصة على الحياة السياسية بالمغرب من طرف الباحث الأمريكي "جون واتربوري" في الفترة الحرجة من تاريخ المغرب، في أطروحته الشهيرة "أمير المؤمنين الملكية والنخبة السياسية بالمغرب"، والتي عمل من خلاله على تأكيد استمرارية النمط الانقسامي في البنية السياسية للدولة المغربية، يزكي توظيفنا لمفهوم القبيلة في هذا السياق بالذات، لنطرح السؤال هنا، هل يمكن الحديث عن الدولة المغربية في منهى عن القبيلة ؟

آخذين بعين الاعتبار التعريف الذي يقدمه جون واتربوري أن" المغرب تحول الى اتحادية قبائل، تتحكم فيه أجزاء يحكمها الانصهار والانشطار ضمن إطار اللعبة السياسية خاضعة لأمير المؤمنين، الذي يعرف كيف يحدث انقساماتها بذكاء."

ينطلق رواد التصور الأنجلوسكسوني من اعتبار مفاده أن المجتمع المغربي منحدر من القبيلة، وذلك بسبب حضور الخصائص القبلية التي تحددها النظرية الإنقسامية، لكن ما علاقة المجتمعات القبلية بالسلطة السياسية؟

هو نفسه السؤال الذي وضعه 'النست غيلنر' على قبائل احنصال بالأطلس الكبير5 . وما يميز النظرية الانقسامية هو قابليتها للتمدد على يد الباحثين، حيث شكلت العين التي درس بها "جون واتروري" اللعبة السياسية بالمغرب، والتي توجت بأطروحته "الملكية والنخبة السياسية بالمغرب "حيث شكلت مرجعا إن لم نقل مصدرا أساسيا للباحثين المغاربة بمختلف تخصصاتهم في مجال الفكر السياسي والسوسيولوجيا السياسية6. ركز واتربوري على النخبة السياسية المغربية7، باعتبارها الفئة التي تتدخل في عملية توزيع منافع الدولة والمشاركة في القرارات، وقد حدد مكونات هذه النخبة من الأحزاب السياسية سواء أحزاب اليمين وأحزاب اليسار ثم الأسر الكبرى والقبائل والضباط والعلماء والشرفاء وغالبا ما يكون قادتها الموظفون السامون من الحكومة، وأكد أن أسلوب هذه النخبة ذا أساس انقسامي شبيه بالأسلوب الذي تحدثه القسمات الصغرى بالنظام القبلي محكومة بالانصهار والانشطار. ولعل ذلك ما يؤكده "عبد الله ساعف" بأن النخبة المغربية تعتمد مسلكيات شبيهة بمسلكيات القبائل المنظمة طبقا للمبادئ الانقسامية. في حين عمل المخزن على استدماج الممارسات السياسية التقليدية بالحديثة، وتجلى ذلك بعد خروج المعمر الفرنسي، وتبنى قانون مخزني يشتغل على الطقوس الرمزية العتيقة، بالإضافة إلى القانون الدستوري الذي فرضته الحماية، إن هذا الاستدماج التقليدي الحداثي بدسترة الّإرث المخزني جعل التاريخ المغربي مرتبطا بتاريخ المؤسسة الملكية، وجعل الدستور المغربي يتشكل من طابق علوي يمثل روح الغرب، وآخر سفلي عميق يجسد عمق الموروث والروح العميقة وهذا ما سنستفيض في ذكره لاحقا. كما عملت المؤسسة الملكية على تأكيد تموقعها بوظيفة التحكيم ولعب دور 'الأكرامن' للتعالي عن كل الانقسامات داخل اللعبة السياسية، وتعزيز السلطة من خلال بث الخلافات بين الفرقاء، وقد أكدت المؤسسة الملكية دائما تشبثها بمفاهيم البركة والشرف كجوهر وعمق الشرعية التي تبرر تواجدها.وقد أعلنت المؤسسة الملكية لرغبتها في كسب رهان العالم القروي كخزان للمشروعية الانتخابية عبر تدجين النخب وصناعة الأعيان الجدد8 .

إن النسق السياسي المغربي يعمل من خلال مزج التقليد والحداثة من أجل تعطيل المسار التاريخي لتقوية الجهاز المخزني بالدولة المغربية وذلك على حساب مسلسل الديموقراطية التي تعلنها الدولة ظاهريا في مؤسساتها فأصبحت الحياة السياسية بالمجتمع المغربي، بين إرثين: ″إرث العادات والتقاليد في علاقتها بالسلطة وطرق تدبيرها، وإرث الاستعمار في شكل بنيات تحتية وآليات معقدة غير ملائمة في الغالب لواقع البلاد وحاجياته″، ونتيجة لهذا ″الإرث المزدوج″، تحاول التوفيق بين المؤسسات التقليدية (الزوايا، القبائل، النظام المخزني، ...)، وبين القواعد الجديدة التي أصبحت تفرضها المؤسسات العصرية والنظام الاقتصادي الحديث وآليات التدبير الجديدة للأحزاب والنقابات.. دون المساس بما أسماه واتربوري ب ″الشخصية المغربية″.ترتبط الحياة السياسية بالمغرب اذن بثوابت ووظائف هي:

- وظيفة سياسية تتجلى في التحكيم كوظيفة قديمة موقرة موجودة قبل الحماية، حيث إن "الشريف أو الوالي" هو الذي يمارس دور الحكم على العموم (التقديس)، لكن نقلت وظيفة التحكيم للملك ولجان التحكيم التي تتدخل في الشؤون الداخلية للأحزاب السياسية (خصوصا بعد انقسام الحركة الوطنية سنة 1937، والصراعات الداخلية التي عاشها حزب الاستقلال في الفترة ما بين 1956 و1958، والتي أفضت إلى انشقاقه سنة 1958)9،

- دور سياسي يضطلع به زعيم: لا يمكن ضمان التوازن بالمجتمع المغربي ولا تغير موازين القوى، إلا بالانضمام لزعيم والالتفاف حول عقيدة، وهذا هو حال الأسلوب السياسي بالمغرب (مثال علال الفاسي بحزب الاستقلال، والمهدي بن بركة بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية، رغم رفضه لهذا الأمر في البداية، لكنه استجاب في الأخير لذلك نزولا عند رغبة أتباعه) .

- يتجلى الأمر إذن، في حرص الزعيم السياسي على تبني وممارسة مجموعة من العادات والتقاليد للمحافظة على أتباعه (النسب، الانتماء للقبيلة، المصاهرة، ...)

- ولعل الأمر الغريب هو استمرارية محققة لهذه اللعبة السياسية، ألم تتحالف الأحزاب السياسية بشكل جماعي ضد حزب العدالة والتنمية لإضعافه حينما تقوى؟هو نفسه أسلوب القسمات القبلية الذي تحدثنا عنه سلفا، بالإضافة لاستمرارية العلاقة بين الشخص والمريد في أحزابنا السياسية لكل زعيم أتباع يناصرونه...

- إن النسق السياسي المغربي ارتبط بشكل قوي بمحددات وثوابت لم يقطع معها وكأنها قوالب جاهزة لابد أن يلجها كل من دخل الحياة السياسة بالمغرب، وربما هذا هو المفسر الأساس لفشل الأحزاب السياسية المغربية، وارتباط وجودها بالحياة السياسية المغربية بشكل موسمي (الانتخابات) وتفقد نجاعتها على المدى البعيد...

إن القبيلة انذثرت كرقعة جغرافية لكنها لزالت حاضر كذهنية

 

المهدي بسطيلي

...................

2- الهادي الهروي، القبيلة، الاقطاع والمخزن. مقاربة سوسيولوجية للمجتمع المغربي الحديث: 1844-1830، ص 238)

4- Salah éden Med. Maroc. Tribus. makhzen et colons Ed l’ harmattan; paris ;1986

5- لأنتربولوجيا والتاريخ- حالة المغرب العربي مقال ليليا بنسالم -، عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق. دار توبقال، الدرا البيضاء، ¹1988

6- التحليل الانقسامي للبنيات الاجتماعية في المغرب /حصيلة نقدية/ المستقبل العربي/ع75بتاريخ 1985

 7- سوسيولوجيا المغرب احمد الشراك /مرجع سابق

8- D ; abdallah saaf /images politique du maroc/ed okadLrabat 1988P79

9- المخزن في الثقافة السياسية المغربية /هند عروب /وجهة نظر 2003

 

في المثقف اليوم