قضايا

العراق.. نقد الواقع وتأسيس البدائل (2)

ميثم الجنابيالراديكالية العراقية الجديدة – الجذور الهشة (1-2)

إذا كان المضمون الفعلي للكلمة يستمد طاقته الخفية وتأثيره غير المباشر في الوعي والذاكرة من معناها الأول، فإن الرجوع إلى المعنى الأولي في الكلمة كما قال كونفوشيوس قبل آلاف السنين، هو الفعل الضروري من اجل وضع الأمور في نصابها. فعندما نقول كلمة «رئيس» فان ذلك يفترض أن يكون كالرأس من الجسد، وعندما نقول كلمة «فرض» فان ذلك يفترض إدراك معنى الواجب، وعندما نقول كلمة «عقل»، فان ذلك يفترض ربط الأحكام والتصورات والتقييم بقواعد التدليل والبرهان. وعندما نقول كلمة «التزام» فان ذلك يفترض التقييد بقواعد وشروط محددة. وهي فكرة عميقة من حيث قدرتها على تمثل ما في الكلمات من وظيفة فعالة في ضبط السلوك الظاهري والباطني للفرد والجماعة. وفي هذا يكمن سر الكلمة وتأثيرها الخالد في المعقول والمنقول في تاريخ الأمم. وفي هذا أيضا تكمن الطاقة السياسية للكلمة.

وفيما لو نظرنا إلى تاريخ الأمم ومجمل إبداعها في الميادين كافة، فإن الكلمة تبقى الأكثر تأثيراً وثباتاً وإثارة وتهييجاً وتنظيماً وتوجيهاً. كما أنه أمر وثيق الارتباط بقوتها المنطقية والوجدانية. ففي الكلمة فقط يمكن تكثيف أشعة العقل والوجدان، كما أنها حاملة كل منهما بالقدر الذي يجري توظيفهما فيها. وعلى كيفية توظيفها يمكن للعقل أن يؤسس الفكرة والأفكار، كما يمكنه من خلالها استثارة الضمير والوجدان. وبالقدر ذاته يمكن توليف العقل والوجدان فيها بطريقة قادرة على صنع الانسجام الضروري في روح وجسد الأفراد والجماعات والأمم. وفي نفس الوقت يمكن التفريط بتجارب الأمم ورميها في سلة المهملات بوصفها أشياء لا قيمة لها. ويمكننا العثور على هذه الحالة في تجارب الأمم جميعا. بمعنى رؤية التأثير الفعال والحاسم أحيانا للكلمة في بلورة الذهنية الراديكالية وتوتير نفسيتها الوجدانية العارمة.

ولعل كلمة الراديكالية من بين أكثرها إدامة وتأثيراً وفاعلية في هذا المجال. فمعناها الأول مأخوذ من الجذر، أي أنها تعادل فكرة «الجذرية»، أي الفكرة الداعية إلى اقتلاع الأشياء من أصولها وعروقها . ذلك يعني أنها تمثل مضمون وأسلوب الذهنية المتحكمة بفعالية الوجدان الفردي والاجتماعي. وحالما تتحول هذه الذهنية إلى ميدان الحياة السياسية، فان معناها السياسي يصبح فعلا مطابقا لاقتلاع كل ما يقف «حجر عثرة» أمام تصوراتها وأحكامها الخاصة. حينذاك تصبح الكلمة فعلا لا منطقيا من وجهة نظر المعرفة وتراكمها الضروري، ولا عقلانيا من وجهة نظر التاريخ والثقافة، مع أنها جذر المنطق وحاملة نموذجه المعقول. مما جعل من تاريخ الراديكالية في كل مكان مجرد زمن الخروج عن خط الاعتدال والوسط العقلاني. وتترتب هذه النتيجة على ما في الراديكالية من نسبة مشوشة ومشوهة للعقل والوجدان تعادل في فاعليتها وتوظيفها وحدة العقل والجنون، والمنطق والتبرير! وأكثر ما تبرز هذه النسبة في ميدان الحياة السياسية. وبما أن السياسة هي أسلوب وجود المجتمع والدولة والأفراد والفكر، من هنا إمكانية ظهور وتأثير الفكرة الراديكالية في تاريخ الأمم والدول قاطبة بدون استثناء. أما ظهورها الملموس وشكلها الخاص فانه محكوم بطبيعة التطور التاريخي والسياسي من جهة، وبكيفية تجسيد الفكرة الراديكالية نفسها في الواقع السياسي من جهة أخرى. وفي هذين الجانبين نعثر أما على مستوى رفيع من تأسيس الفكرة العقلانية والاعتدال الرافضة أو المقيدة للنفسية الراديكالية، وأما انهيار للعقلانية والاعتدال مع ما يترتب عليه من صعود للراديكالية بمختلف أشكالها.

بهذا المعنى يمكن اعتبار الظاهرة الراديكالية ظاهرة تاريخية لها أشكالها المتنوعة والمختلفة في تاريخ الأقوام والدول والثقافات. إذ لا يخلو تاريخ أمة وثقافة ودولة منها، بوصفها الخميرة الوجدانية التي تتحسس معالم الغبن أو الظلم أو "الانحراف" عما تعتقده مساواة أو حقا أو صراطا مستقيما. وعادة ما تجعل من رؤيتها وبدائلها الجذرية طريقا وأسلوبا وغاية واحدة لا يمكن الحياد عنها. الأمر الذي عادة ما يضعها في صراع مع المجرى الفعلي لتاريخ الدولة والأمة والثقافة. وهو صراع يحدده في الأغلب نزوع الراديكالية الهائج للتغيير الجذري، وبالتالي السعي الحاسم لتغيير الواقع والمؤسسات والأفكار والقيم بصورة جذرية وسريعة. من هنا تحول أسلوب التغيير الشامل إلى نموذجها الأمثل في العمل. وعادة ما يؤدي هذا الأسلوب إلى تدمير تجارب الماضي وخزين الذاكرة التاريخية ومرتكزات التقاليد الكبرى والقيم والمؤسسات. مما يجعل منها الطرف النقيض للإصلاح الحقيقي. وإذا كان لهذا الأسلوب ما يبرره في المسار العام للتطور التاريخي العالمي وخصوصية تمظهره في مختلف الحضارات، فان ذلك لا يعني ضرورته كما هو بمعايير البدائل العقلانية المعاصرة.

فمن الناحية الواقعية لا يمكن للدولة والثقافة والحركات الفكرية والسياسية الكبرى أن تظهر دون أن تتعايش معها مختلف أصناف الراديكالية. وذلك بفعل كونها الخميرة الملازمة لصيرورة القيم بشكل عام وقيم الاعتدال والوسط بشكل خاص. فالتاريخ ووجود الدولة والمجتمع والثقافة هو عملية صراع دائمة ودائبة. وهو صراع يولد بالضرورة مختلف التيارات والاتجاهات، التي تمثل الرؤية الراديكالية إحداها. وبما أنها التمثيل الوجداني (غير العقلاني) لقيم العدل والمساواة والحرية، فإنها عادة ما تقف بالضد من فكرة النظام الملازمة لوجود الدولة والمجتمع والثقافة. لكن هذا التناقض الطبيعي هو بالقدر نفسه أحد المصادر الضرورية لتطور الدولة والمجتمع والثقافة في حال حل الإشكاليات التي تساهم في تغذية النزعة الراديكالية وظهورها وتوسعها. بهذا المعنى يمكننا الحديث عن قيمة الراديكالية من حيث كونها تيارا يصب عموما في اتجاه تحسين وترسيخ وتوسيع المدى الثقافي للتقاليد العقلانية الكبرى ونماذج الاعتدال فيها. وذلك للدور الذي تلعبه في «استنفار» الطاقة الفكرية وشحذ رصيدها الاجتماعي بضرورة الاعتدال باعتباره الصيغة المثلى لتراكم القيم والمعارف والتقاليد والبنى المتنوعة للدولة والمجتمع.

وحالما ننتقل إلى العراق، فإننا نستطيع أن نرى في تاريخه الصيغ الأوسع انتشارا والأكثر عمقا وفاعلية للفكرة الراديكالية وتقاليدها مقارنة بغيره من دول ومناطق العالم العربي. وهي ظاهرة يمكن فهمها من خلال خصوصية ظهور وتطور الدولة العربية الإسلامية من جهة، وكيفية انكسار مختلف مدارس الفكر في تقاليده السياسية وحركاته الاجتماعية، من جهة أخرى. فالانكسار الراديكالي الحاد في زمن عثمان بن عفان لتقاليد الوحدة الإسلامية المتراكمة بمعايير الدولة الموحدة والوحدة الروحية والسياسية والقومية في زمن أبي بكر وعمر، قد أسس لإمكانية الفكرة الراديكالية التي جعلت من انتفاضة المسلمين الأوائل وقتل الخليفة عثمان فعلا يرتقي إلى مصاف الحق. ومع أنها فكرة جدلية، لكنها تاريخية ومؤثرة بالنسبة لبلورة مفاهيم الثورة والتغيير الراديكالي. وظهر تأثيرها للمرة الأولى في فعل "الانتخاب الجماهيري" للإمام علي بن أبي طالب خليفة للمسلمين. وفيه أيضا كانت تكمن فكرة الحق المسيس. ومن ثم سهولة الانتفاض بمعاييرها.

وهي الحالة التي حالما أصبح العراق ميدانا لها، بعد معارك الجمل وصفين والنهروان، فإن نتيجتها المباشرة هي تغلغل النفسية الراديكالية وإمكانية استحواذها على ذهنية العوام والخواص. وليس مصادفة أن يتحول العراق لاحقا، وبالأخص بعد صعود الأموية وتقاليدها السياسية الاستبدادية وفكرها الجبري، إلى احد مصادر إنتاج وتأسيس الغلو والتطرف السياسي والعقائدي. فقد كانت هذه المظاهر الصيغة الوجدانية لتحدي الإرهاب والاستبداد والخروج على قواعد الحق الإسلامي. أما استمرارها في صراع القوى فقد افرز كما هائلا من الفرق الإسلامية وتنظيرها اللاحق في مدارس الكلام والفلسفة. أما صراعها النظري والعملي في العراق فقد جعل منه ميدان المواجهة العنيفة التي رمت بفكرة القانون والوحدة على أطراف دجلة والفرات. وصنعت مع مرور الزمن هالة المواقف المترامية على أطراف مدنه المنتفضة مثل البصرة والكوفة والنجف وكربلاء وغيرها، بحيث أعطى لها في الذاكرة الاجتماعية والوعي السياسي قوة العقل والإيمان واليقين والإحسان في كل ما ترمي إليه وتهدف من أقوال وأفعال.

وهي حالة كان يمكنها المساهمة في تثوير العقل، تماما بالقدر الذي جعلها مصدرا ومرتعا خصبا للنفسية الراديكالية وذهنيتها السياسية. وهو السبب القائم وراء هذا الكم الهائل من فرق الغلاة والانتفاضات الكبرى التي ميزت العراق على امتداد تاريخ الخلافة، بحيث أدى في نهاية المطاف إلى صيرورة الصيغة النمطية العامة القائلة، بأن أهل العراق هم «أهل الأهواء» و«أهل الشقاق والنفاق». ولا يعني ذلك من الناحية التاريخية والفكرية سوى كونه بلد الغلو والتطرف (الراديكالية)، أي منطقة الاحتراب الفعلي لقيم الوجدان في مواجهتها لما تعتقده انحرافا عن قيم العدل والمساواة والحق. وفي هذا أيضا كانت تكمن قيمة وأثر الغلو والتطرف في بلورة وتعميق وتوسيع وترسيخ منظومة الرؤية العقلانية والاعتدال. فالمعتزلة هم الاستمرار الأكثر تمثيلا للقيم السياسية لغلاة الخوارج والشيعة، ولكن في ميدان الرؤية العقلية. بمعنى تحويل فكرة الحق الوجداني إلى ميدان الرؤية السببية وإدراك علل الأشياء استنادا إلى العقل بوصفه معيار الحسن والقبيح في كل قول وفعل وأثر. وميزت هذه التقاليد تاريخ العراق وفعلت في صيرورته التاريخية وكينونته الثقافية بقدر متكافئ من القوة والديمومة حتى سقوط بغداد وتهشم فكرة وفاعلية المركز الثقافي السياسي.

ولعل الوجه الآخر لانتشار تقاليد الراديكالية الفكرية والعقائدية والسياسية، هو توسع وترسخ منظومة التقليد المذهبي المختبئة في بنية العوام والخواص، التي أعطت لها السيطرة العثمانية أبعادا تخريبية، لأنها لم تكن جزء من ديناميكية التطور الحضاري. على العكس لقد تحولت هذه التقاليد بفعل آلية الاستبداد والانحطاط الثقافي إلى عقد متراكمة في الوعي الاجتماعي كانت وما تزال تعيق إمكانية التراكم العقلاني الحر للأفكار والقيم. وليس مصادفة أن يفتقر العراق بعد أول ظهور مستقل له بعد تفكك السلطنة العثمانية، إلى نخبة عقلانية متميزة في ميدان الفكر والسياسة. بل أن التراث المتراكم في غضون قرن من الزمن قبل انحلال السلطنة لم يكن قوة فاعلة لا في عقل ولا في ضمير العراق وقواه الاجتماعية. بحيث لا نعثر من حيث الجوهر على قوة سياسية واضحة المعالم تمثل الصيغة العملية لنمو وتراكم الأفكار والقيم العملية.

وهي نتيجة لها تاريخها الخاص في العراق، والتي ارتبطت أساسا بغياب تاريخ الدولة وتقاليدها السياسية لقرون عديدة في ظل السيطرة التركية، ثم الانكسار المفاجئ للتقاليد المتراكمة في أواخر المرحلة العثمانية في مجرى الحرب العالمية الأولى. كل ذلك أدى إلى صعود النفس السياسية فقط. وبالتالي تحول السياسة إلى الميدان الأوسع واليومي لتقييم مفاهيم الدولة والحق والجمال والأخلاق. وبهذا تكون قد اختزلت كل الأبعاد المتنوعة وغير المتناهية للوجود الاجتماعي إلى ميدان هو نفسه ليس إلا وسيلة تحقيقها. وعوضا عن أن تتحول السياسة إلى ميدان تختبر فيه مفاهيم الدولة والحق والجمال والأخلاق، تحولت إلى معيار شبه شامل وأوحد لحياة الفرد والمجتمع. مما أفرغ حياة الفرد والمجتمع والدولة من أهميتها وقيمتها، بوصفها غاية الفعل العقلاني للسياسة. وترتب على ذلك افتقاد السياسة نفسها لمعايير الرؤية الاجتماعية. مما أفسح المجال لاحقا لظهور مختلف أشكال وأصناف الراديكالية.(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

...........................

إن الشعار الذي رفعه مقتدى الصدر في الآونة الأخيرة، والمحبب فيما يبدو إلى قلبه والذي وضعه في عبارة "شلع قلع" إي إزالته مع جذوره، هو احد النماذج الجلية لهذه الذهنية المسطحة والغبية لحد ما. إنها لا تعي ما تقول باستثناء سجع الكلمة الفارغة والمثيرة لنفسية العوام والمستجيبة لذهنيتها في استسهال الحلول. مع إن كل ما في مقتدى الصدر هو تثبيت متشدد ومتشنج للنزعة التقليدية. من هنا تشوه هذه الراديكالية التي تعادل من حيث الجوهر نفسية الشطار والعيارين، إي نفسية وذهنية الحثالة والعصابة.

 

في المثقف اليوم