قضايا

مقالةُ العَقل في الإسلام (5)

مجدي ابراهيمانتهينا في اللقاء السابق عند نقطة "العقل الكلي" الذي لا تغيُّر فيه، بل ثبات هو العقل الفعال الذي لا يلحقه فساد ولا يناله زوال، وفي هذا المقال نأتي على رأي ابن رشد في العقل والنفس. وخلاصة مسألة العقول كما اشتهرت في الفلسفة الإسلامية أن الله سبحانه وتعالى تعقل ذاته، فكان العقل الأول. وأن العقل الأول يحرك ما دونه حتى تنتهي العقول إلى العقل الفعال وهو الذي يمدُّ العقل الهيولاني الذي يقتبس منه الإنسان تفكيره، ويسمى بالهيولاني تشبيهاً له بالهيولي التي تقبل الصور، ولم يذكر العقل الهيولاني قبل الأفروديسي.

على أن القفطي يحدّثنا في "إخبار العلماء بأخبار الحكماء" عن آراء أرسطو في النفس، ومع أن حديثه هذا لا يخلو من سذاجة إلا أنه يصيب كبد الحقيقة، حين يقول واصفاً ما انتهت إليه أبحاث أرسطو الميتافيزيقية:" ثم إن أرسطو طاليس رأى كلام شيخه أفلاطون وشيخ شيخه سقراط، فوجد كلام شيخه مدخول الحجج متزلزل القواعد، غير محكم البنية في الرد والمنبع، فهذبه ورتبه وحققه ونمقه وأسقط ما ضعف منه وأتى في الجواب بالأقوى، وسلك في كل ذلك سبيل المجاهدة والتقوى؛ فجاء كلامه أفصح كلام وأسدّ كلام وأحكم كلام. غير أنه لما جال في هذا البحر برأيه غير مستند إلى كتاب مُنزل، ولا إلى قول نبي مرسل ضَلَّ في الطريق، وفاتته أمور لم يصل عقله إليها حالة التحقيق"...

والسؤال الآن: هل ابن رشد كان يتابع أرسطو في مسائل ما بعد الطبيعة وبحوث النفس والعقل، وهو على هذا الوصف الذي رأيناه عند القفطي؟ وكيف تنسى له التوفيق بين مذهب أرسطو وشراحه وشروحه، وبين عقيدة الإسلام في خلود النفس والثواب والعقاب والنبوة والوحى إلى آخر المعتقدات الإسلامية؟!

عندي أنه لا تخلو محاولات ابن رشد التوفيقية من آراء تحالف في جوهرها معتقدات الإسلام إذا هو كان تابع أرسطو بغير نقد إلى منتهاه؛ فكان لابد أن تقوم على نظريته في النفس والعقل بعض المآخذ والثغرات: يتحدّث عن جوهرية النفس دون توضيح لمعنى الجوهر. قد يقصد أنها ليست عرضاً لجسم وإنما لها وجود متميز وبالتالي من طبيعة غير مادية. واضح أن هذا التصور للنفس تصور أفلاطوني. نجد ثانياً تناقضاً بين قوله إن العقل الهيولاني استعداد لتلقي أفكار من العقل بالملكة، وقوله إن العقل ليس به شيء بالقوة. نجد أخيراً أن ابن رشد وإن رأى العقل الفعال جزءً من الإنسان وليس خارجاً عنه، فإنه لم يفهمه عقلاً فردياً لكل إنسان وإنما النوع الإنساني كله. وإذن لم ينجح في محاولته الدفاع عن عقيدة الإسلام في خلود النفس كما يقول الدكتور محمود زيدان في (نظرية ابن رشد في النفس والعقل: ص48).

ومن جانب آخر نرى الإمام محمد عبده في هذه النقطة الأخيرة يقول: إن ابن رشد يقول بخلود النفس وسعادتها وشقائها وعذابها ونعيمها، وأن عقل الإنسانية العام لا وجود له لا عند أرسطو ولا عند ابن رشد، فإن أرسطو وابن رشد لا يقولان بعقل يسمى عقل الإنسانية العام، بل كان ذلك من مزاعم أفلاطون التي عنى أرسطو بإبطالها وتبعه ابن رشد وغيره في نفيها.

ولقد دارَ صراعٌ طويلٌ بين فرح أفندي أنطون صاحب مجلة الجامعة والإمام محمد عبده حول هذه المسائل، إذْ ينفي الإمام محمد عبده في ردوده على الأستاذ الأديب فرح أنطون صاحب مجلة "الجامعة"، وفي صدد المساجلات الطويلة التي دارت بينهما، أن يكون اتصال النفس بالعقل الفعال معناه الفناء فيه أو الإندغام كما عرفته الجامعة مما جرى به رأي فرح أنطون. وعنده أن العقل الفعال هو العقل العاشر المصرف للمادة العنصرية لا عقل الإنسانية العام كما تقول الجامعة. وينفي الأستاذ الإمام عن أرسطو وعن ابن رشد مظنة القول بعقل يسمى كما قلنا بعقل الإنسانية العام. فالعقل الفعال هو الذي يخرج النفس من العقل الهيولاني إلى العقل بالملكة، ومن العقل بالملكة إلى العقل المستفاد، ومنه إلى العقل بالفعل. أما نفوسنا؛ فهى عقول بالقوة، ولكنها تستعد استعداداً خاصّاً للاتصال بذلك العقل أي بالإقبال عليه وتوجيهه وجهتها نحوه مما ارتسم منه فيها بالصور العقلية الخاصّة بذلك الاستعداد الخاص.

والعقل الأول كما يراه محمد عبده، ليس هو كما يقول صاحب الجامعة فرح أفندي أنطون؛ فإنّ العقل الأول - كما يروى العقاد عن الشيخ محمد عبده، هو جوهر مجرد عن المادة، وهو أول صادر عن الواجب، وقد صدر عنه الفلك التاسع المسمى عندهم بالفلك الأطلس، ونفس ذلك الفلك تدبر حركاته الجزئية، وعقلُ آخر هو العقل الثاني، وعن هذا العقل الثاني صدر الفلك الثامن المسمى عندهم بالعقل الفعال أو العقل الفياض، وعن العقل صدرت المادة العنصرية وإليه يرجع ما يحدث في عالمها.

على أننا إذا نحن رجعنا إلى أقوال ثامسطيوس، فيما يتعلق بالفقرة الأولى من اعتراض الأستاذ الإمام؛ لوجدنا أن فكرة العقل العام كانت موجودة في أقوال ثامسطيوس، وكذلك في آراء الاسكندر الأفروديسي. فأما ثامسطيوس فهو يقول:" .. أما عن ماهيتي التي هى في نفس الوقت الماهية المشتركة لجميع الناس، ماهية النوع الإنساني؛ فإنها تتكون من الصورة أي صورة النفس الإنسانية، من العقل بالفعل.

ولذلك لا نقول مع الاسكندر الأفروديسي إنّ العقل الفعال إلهي، بل هو ما يميز النوع الإنساني. العقل الفعال هو نحن جميعاً، ففكرة العقل العام موجودة إذن عند شراح أرسطو - وإنْ كان ثامسطيوس رَجَعَ فيها إلى أفلوطين في نظرية اتصال النوع بالأفراد، إذ إن فكرة الاتصال أو الاستمرار بين مختلف مراحل الوجود هى فكرة ينزع فيها أفلوطين إلى نوع من الوحدة الصوفية مع المبدأ الأول، وذلك يقتضي إزالة التعارض بين المراتب المختلفة للوجود. فإن "المثل" التي قال بها أفلاطون، والتي هى قوام العقل ومحتواه، تكون عند أفلوطين مبدأ ثانياً صادراً عن المبدأ الأول (را: التساعية الرابعة لأفلوطين في النفس: ص 48).

وقد سبق لنا ملاحظة أن أفلوطين يذكر أن نفوسنا كلها واحدة ولكن الاختلافات الفردية ترجع إلى العنصر الجسمي الذي فيها، وكذلك الحال في فكرة "الإنسان" أو "فكرة الإنسانية" فهى فكرة واحدة فينا جميعاً، ولكنها قد تكون متحركة في شخص وساكنة في آخر تبعاً لحالة كل منهما؛ فكل منا "إنسان" ولكن لا يعني هذا أن شعورنا واحد. أما الاسكندر الأفروديسي، ففضلاً عن كونه تلميذاً لأفلوطين فهو الذي قال بوحدة العقل المنفعل في كل الأشخاص، على ما ذكر ماسينيون فيما تقدّم، وقال إنها هدم لنظرية الأبدية وللثواب والعقاب. وأما بالنسبة للمساجلة الطويلة التي دارت بين الأستاذ الإمام وفرح أفندي أنطون، فإنّ الفصل فيها يرجع، كما وضح الأستاذ العقاد في كتابه عن ابن رشد، إلى اختلاف المصادر، فكل ما يذكره الشيخ الإمام محمد عبده عن العقل الأول، صحيح بالنسبة إلى فلاسفة الإسلام في المشرق، ولكن ابن رشد كان يعتمد على شرح أرسطو مباشرة ويفسره برأيه لا بآراء الفلاسفة المشرقيين ... أما الأستاذ فرح أنطون، فكان جل اعتماده على تخريجات رينان، ولم يتوسّع في الاطلاع على كتاب التهافت وغيره توسع استقصاء. وقد صرح بذلك حين قال " .. لا مناص للكاتب العربي اليوم من أخذ تلك الفلسفة عن الإفرنج أنفسهم، فأخذنا كتاباً للمستر مولر عنوانه: فلسفة ابن رشد ومبادئه الدينية، وكتاباً عنوانه: "ابن رشد وفلسفته" وهو للفيلسوف رينان المشهور.

لقد كانت المصادر إذن مختلفة، وكان أكثرها مروياً عن صاحبه، مأخوذاً من خلاصة كلامه، ولو توحدت المصادر مع حُسن النية لما تباعدت بين المتناظرين في هذه المسألة، ولا في غيرها، شُقة الخلاف.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم