قضايا

الشيعة والذاكرة المخيال

حدد (هابرماس) ثلاثة اهتمامات معرفية مشتركة لدى جميع البشر: الاهتمام الاول: تقني فني يتمثل في معرفة البيئة المحيطة وفي السيطرة عليها والتحكم فيها، وقد أدى هذا الاهتمام الى قيام العلوم الطبيعية.

الاهتمام الثاني: عملي يتمثل في قدرة كل منا على فهم الاخرين، وعلى العمل المشترك والتعاون في مناشط الحياة .وهذا هو الاهتمام المسؤول عن قيام العلوم التأويلية .

اما الاهتمام الثالث: فهو اهتمام تحرري ينطوي على الرغبة في تخليص أنفسنا من كل ما يعمل على تشويه عمليات الاتصال والفهم، وهو الاهتمام المسؤول عن قيام العلوم النقدية.

تنطوي السرديات التاريخية المشكلة للمناخ الشيعي على فكرة جوهرية هي (الاختزال)، واذا ما رمنا مقاربة التعاطي الشيعي بعد 2003وفق محددات هابرماس فلا مناص من صياغة أسئلة ذات طابع إشكالي فيما يخص كيفية بلورة مواقف الشيعة في تقديم رؤى خاصة بهم في هذه المحاقلات الثلاث، فطبيعة رصد التعامل التقني مع البيئة المحيطة- ونقصد هنا تحديدا المتغيرات الشاملة التي عصفت بالوضع الشيعي بعد 2003- يكشف أن هذا التعامل اتسم بفقدان البوصلة وتشتتها في أغلب الاحيان، فالاستجلاب التاريخي الطاغي في المخيال الشيعي وقف حاجزا صلدا في محاولة فهم البيئة التي انغرست الطائفة الشيعية في وسطها، وقف الجمهور الشيعي أمام السؤال المفصلي : وماذا بعد الآن؟ هذا الوقوف اتخذ مسار استجلاب الغيب والتاريخ لتقديم إجابات مبهمة وغامضة وملتبسة، مما جعل التجربة الشيعية ملتبسة في ذاتها وغير قادرة على وضع سلّم تساؤلي تستبعه محاولات في تقديم اجابات واضحة ومحددة في النسق المنتمي الى العالم في القرن الحادي والعشرين، يمكن الحديث عن نسقين أساسيين مثلا التأطير الحاضن للشيعة بعد 2003، يتجلى في تبلور مسافة محددة بين الذاكرة –الحدث، والذاكرة - المخيال، فقد عكفت السرديات الشيعية على خلق عوالم تأسيسية بانية لتصور يستند على الذاكرة المخيال على نحو نسقي واضح، غير أن تجربة الشيعة في العراق بعد 2003 أحدثت شرخا هائلا بين السرديات المرتبطة بالمخيال والأحداث المنبثقة من الواقع على مختلف تجلياته و آفاقه، الأمر الذي أدى الى انبثاق تساؤل كامن في بيان مدى اتساع الهوة بين الذاكرة –المخيال والذاكرة الحدث، واجه الشيعة مجموعة ملتبسة من الاحلام والاوهام يجمعها تصور يتمركز حول تساؤل جوهري: وماذا بعد الان؟ وينبغي ان نضع كلمة (الآن) بين هلالين لأنها الكلمة –المأزق لما سيقوم به الشيعة من أعمال ترسم الخط القادم في العراق، فقد دأب الشيعة على استحضار إجابات المخيال التاريخي كنموذج يقدم تجاه سؤال المستقبل، فيجري التعامل مع الآن-الحاضر على نحو طفري، غير ان هذه الطفرية سرعان ما أفضت الى اتساع الهوة بين تطلعات الجماهير المحرومة والتي رهنت آمالها على الذاكرة المخيال وبين الطبقة التي تسمنت صناعة الملف الشيعي بكافة تمفصلاته، هذه الطبقة التي لم تقدم شيئا سوى مزيد من ضخ الذاكرة المخيال كلما جابهت أسئلة (الآن) والذاكرة الحدث، وسط التباسات شديدة فيما يخص طبيعة الهوية وما يقع تحتها من سرديات الماضي وآمال المستقبل بشقيه الغيبي والواقعي، مع التذكير المستمر بصعوبة فك التداخل الحاصل بينهما طوال قرون من التأصيل المرقون في المدونات الشيعية استنادا الى قدرة الغيب الشيعي على خلق واقعية سحرية ملئ بالعدل والمساواة، في ذات الوقت مثل التداخل بين الغيبي والواقعي صدمة مريعة لواقع شيعة العراق بعد 2003، الامر الذي نتج هنا انبلاج علاقة عكسية بين ما رسمه الغيب الشيعي وبين الواقع اليومي المعاش، بكل ما متطلباته وواقعيته وارتجاجاته، قد يمارس الشيعة نوعا من التوليفة التي تتوخى ارضاخ الواقع لهيمنة السرديات وهو ما نجحت به الطبقة السياسية حتى اللحظة، غير أن نذر تفجر الاوضاع سرعان ما تلقي بظلالها وسط كل هذا الاضطراب المحيط بالجمهور الشيعي، واذا ما انبثقت بلاغات الجمهور الشيعي فالأمر سيغدو حافلا ببلاغة مغيبة قوامها بث هذا الجمهور لبلاغته الخاصة به، قد تكون هذه البلاغة متماهية مع الخطاب الشيعي التقليدي القائم على خلق عوالم من التخويف والهلع الى حد كبير، وهو ما كشفت عنه الممارسات المبثوثة على نحو تراكمي، غير أن إعادة بناء الشيعة لأنفسهم ومن ثم ايجاد تصور مغاير للمسألة الشيعية يستلزم بالضرورة قيام بلاغة للجمهور الشيعي مختلفة عما هو سائد ومهيمن من خطاب استبعادي واستعبادي يكشف عن تراث هائل من التيه الذي واجه الشيعة لأول مرة بعد 2003 وجها لوجه، يا ترى متى يقوم شيعة العراق باجتراح بلاغتهم الخاصة بهم؟

د. مؤيد آل صوينت

في المثقف اليوم