قضايا

الهموم "العراقية" الكردية هموم عرقية (2-2)

ميثم الجنابيالقضية الكردية- أفق مغلق وبدائل محتملة (10)

وبما أن قضية الأرض في العراق هي قضية مفتعلة، بمعنى انه لا تاريخ فعلي فيها ولها، من هنا تراكم العبارة الوجدانية والأسطورية في الخطاب القومي الكردي. كما لا يعني بروزها و«تكاملها» في الوعي السياسي القومي الكردي سوى الاضمحلال شبه الكامل للرؤية الوطنية العراقية. وبلغت هذه الحالة ذروتها فيما يسمى بقضية كركوك و«الخارطة» الكردية بشكل عام وفي العراق بشكل خاص!!

فمن الناحية التاريخية والثقافية والشرعية والوطنية ليست «خارطة كردستان» و«قضية كركوك» سوى رغبات وأحلام قومية عادة ما تميز أوهام الحركات القومية الصغيرة. ومن ثم لا علاقة لها بالعراق من حيث كونه تاريخا وهوية وجغرافيا ودولة. إذ تشير هذه الأحلام والرغبات إلى طبيعة النفسية والذهنية المتحكمة في الخطاب السياسي القومي الكردي في العراق وأثره بالنسبة لآفاق تطور الفكرة الوطنية. واكتفي هنا بتحليل شعار «كركوك قلب كردستان وقدس الأقداس» بوصفه شعارا نموذجيا يمكن من خلاله تشريح أبعاد الفكرة الوطنية العراقية في الوعي القومي الكردي الحالي (وسوف اتناول أصل مدينة كركوك وتاريخها في مقال لاحق).

إننا نعثر في فكرة «قلب كردستان» على أربعة جوانب مختبئة في الوعي القومي الكردي ومتحكمة بآلية لاوعيه السياسي، الأول وهو أن كركوك ليست عراقية. والثاني أنها محتلة. والثالث أن الأكراد لا علاقة لهم بالعراق، بمعنى أن قلبهم ليس في العراق. والرابع، أن الأكراد بلا كركوك هم أشبه ما يكونوا بإنسان بلا قلب، أي بلا شريان الدم. بعبارة أخرى، إننا نرى في هذا الشعار المضمون الخفي لهاجس الأرض «الكردية» «المحتلة»، وشريان النفط الضروري لحياة الأكراد المستغل من جانب قوى غريبة عنه.

والشيء نفسه يمكن قوله عن الشطر الثاني المكمل للشعار، أي لفكرة «قدس الأقداس». إذ نعثر فيها أيضا على أربعة جوانب مختبئة في الوعي القومي الكردي ومتحكمة بآلية لاوعيه السياسي. الأول وهو أهميتها «المقدسة» بوصفها أرض «الآباء والأجداد». والثاني أنها مسروقة من قبل أقوام دخيلة هم العرب والتركمان. والثالث، أنها «كعبة» القومية الكردية الجديدة. ورابعا، أهميتها الروحية بوصفها «قدس الأقداس»!

إننا نقف أمام مجموعة من العناصر الخفية التي تنتج وتعيد إنتاج الوعي العرقي للحركات القومية الكردية في العراق. وهو وعي لا تاريخي وأسطوري وفارغ من ابسط مقومات الرؤية الواقعية والعقلانية. فمن الناحية التاريخية السياسية كان الهدف الأرقى والأعلى والأسمى للحركات القومية الكردية قبل «اقتطاع» بعض من العراق التاريخي الكائن في جسد السلطنة العثمانية المتهرئ، هو السليمانية. وقد جرى اجتزاءها في بادئ الأمر بهيئة «حكمتدارية» جرى دمجها بالعراق الحديث لاحقا. بمعنى أن الحد الأقصى للرغبات القومية الكردية قبل نشوء الدولة العراقية الحديثة لا يتعدى منطقة السليمانية. وهي رغبة محكومة بواقع سياسي وجغرافي وثقافي وديموغرافي آنذاك. إذ لم يكن للأكراد محط رجل لا في أربيل ولا دهوك. أما كركوك فإنها كانت في «غيب» الانتشار الكردي ضمن أراض العراق بوصفهم مواطنين فقط.

والقضية هنا ليست فقط في انه لا كردية في كركوك، بل والعراق بمعناه العربي (الذي كان يضم إلى جانب العراق الحالي أجزاء كبيرة من تركيا الحالية). كما لا يوجد أثر للأكراد حتى ضمن مفهوم «عراق العجم». فالأكراد من الناحية التاريخية هم قوم الجبل. ولا علاقة لهم بالمدن. والتاريخ الكركوكي (العراقي) لا كردية فيه لا بالمعنى الدولتي ولا الحقوقي ولا الثقافي ولا السياسي ولا الفني ولا المعماري على مدار آلاف السنين. أي منذ أن ظهرت إلى الوجود بوصفها مدينة عراقية. أما الانتشار الجديد للأكراد فيها زمن الدولة العراقية الحديثة فقد كان مرتبطا في اغلبه بانتقال «المساكين» الفارين والهاربين من سطوة الأغوات والفقر والقهر إلى أطراف المدن العراقية العديدة بما فيها كركوك. وهي عملية بدأ زخمها بالاندفاع منذ ثلاثينيات القرن العشرين، أي ضمن مسار وتطور الدولة العراقية. ونفس الشيء يمكن قوله عن أربيل ودهوك (وأسمها الاصلي نو هدرا الاشورية البابلية الاصل) وغيرها من المناطق والمدن العراقية. فهي مدن عراقية أصبح أسلوب الإبادة الجماعية والقتل والتشريد الهمجي لسكنتها العراقيين الأصليين (الآشوريين) بدأ من زمن بدر خان وأتباعه (أربعينيات القرن التاسع عشر) حتى منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، طريقا لتغليب العنصر الكردي فيها. ومن ثم فإن كل ما جرى بهذا الصدد هو جزء من تاريخ الدولة وليس القومية. ومن ثم فإن وجود أكراد في منطقة ما لا يعني أنها «منطقة كردية»، وإلا لانقلبت جغرافيا الأمم والأرض! فالجغرافيا القومية هي أولا وقبل كل شيء تاريخ ثقافي وحضاري ولا شيء آخر. فالإفريقي المنقول زمن العبودية إلى أمريكا لا يفترض في وعيه أن يرى في أمريكا افريقستان! انه يمكن أن يكون مواطنا أمريكيا من أصول افريقية. والشيء نفسه يمكن قوله عن الأكراد في أراض العراق. كما يمكن قوله عن أي شخص آخر بغض النظر عن أصوله القومية.

إن وجود أو انتشار الأكراد في مختلف مناطق العراق هو أول وقبل كل شيء دليل على قلب العراق الكبير ومعرفته لقيمة القدس والمقدسات في قبول البشر بغض النظر عن أصولهم العرقية والدينية. ولا معنى لتحويل قلب العراق الفعلي تجاه الأكراد والقومية الكردية إلى قلب «كردستاني» لا علاقة له بالعراق. أما مطابقتها مع «القدس» فهو اشتراك في ما لا ينبغي الاشتراك به. والقضية هنا ليست فقط في أن مضمون «قدس الأقداس» الكردية موجه ضد العرب، والقدس فلسطينية (عربية)، بل ولارتقاء مضمون القدس في الوعي القومي العربي إلى مصاف المقدس الإسلامي. أي أنها ليست قومية فقط. بمعنى أنها عربية وإسلامية. والأكراد مسلمون، فمن أين للأكراد المسلمين شهية العبارة النصرانية، وكيف يمكن الاشتراك مع يهود الصهيونية في العمل من اجل أسطورة لا توراة فيها ولا عهد قديم ولا قواسم مشتركة؟! إضافة إلى أن ما يدعوه القوميون الأكراد «بكردستان الجنوبية»، أي شمال العراق ما هو في الواقع سوى أرض عراقية آشورية تراكمت فيها منذ آلاف السنين ثقافات عراقية وعربية لم يكن للأكراد فيها أثرا ولا مأثور ولا مآثر!!

إن سيادة الرؤية الخرافية والأسطورية والدينية المزيفة عن كركوك بوصفه «قدس الأقداس» الكردية، يحتوي في أعماقه على قوى تخريبية لا تعمل في ميدان الفكر القومي إلا على صنع مختلف نماذج الغلو والانغلاق العرقي، مع ما يترتب عليه من مواقف لا تتسم بأدنى مقومات الواقعية والعقلانية والوطنية. ومن ثم لا يمكنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلا إلى مآس لا يدفع ثمنها في نهاية المطاف سوى الشعب الكردي وليس «قياداته التاريخية».

إن امتزاج الرؤية الأسطورية بالدينية المزيفة في الشعار السياسي هو الوجه الآخر لضعف الحركة القومية وانسداد أفقها التاريخي. أما النتيجة فهو انحدارها من منطق الرؤية الوطنية الثقافية إلى نفسية القومية العرقية، ومن الرؤية الواقعية والعقلانية إلى الأحلام الطوباوية واللاعقلانية. الأمر الذي نعثر عليه في التمسك شبه الوثني على سبيل المثال بما يسمى المادة 58 من «القانون المؤقت». وهو قانون لا يتمتع بأية صفة شرعية، مع ما فيه من تناقضات تنبع من فكرة «المؤقت» في «القانون»!! إضافة إلى لغته العربية الركيكة التي تدل على أن من كتبه لا يلم باللغة والقانون على السواء. أما في الممارسة السياسية فإنه عادة ما يجري اختزال كل مضمون «القانون المؤقت» إلى المادة الثامنة والخمسين (ولاحقا 140)!! وهو مؤشر على ما أسميته بهاجس وحافز الأرض والثروة، أي كل ما يتجسد في نفسية الغنيمة!! ولا تحتوي هذه النفسية على أي قدر من الأبعاد الوطنية (العراقية). أما المطالبة بإرجاع العرب إلى أماكن سكنهم الأصلية في العراق، فإنه مؤشر إضافي على هذه النفسية. والقضية هنا ليست فقط في أن كركوك لم تكن جزء من منطقة الحكم الذاتي، بل وفي حق كل عراقي العيش فيها، كما يحق لكل مواطن العيش في كل بقعة من أرض العراق بغض النظر عن أصوله القومية وانتمائه الديني. إن من حق المواطنين العراقيين الأكراد المطالبة بالرجوع إلى مناطق سكنهم التي شردتهم أو رحلتهم أو طردتهم السلطات منها، لا تحويل القضية إلى مطالب بأرض قومية لا وجود لها. إضافة لذلك أن سلوك السلطات لا يخلو من إجحاف بحق فئة ما أو بحق الأغلبية أو حتى بحق الجميع أحيانا، إلا أن هذا يبقى مجرد جزء من تاريخ السياسة وليس من تاريخ القومية. وبالتالي ليس هناك من حق لأي طرف في العراق أن يطالب بترحيل أو إرجاع أو طرد أو ما شابه ذلك من عبارات لمن كان هو نفسه ضحية السياسة المجرمة لنظام بائد. إن الحد الواقعي والرؤية العقلانية بهذا الصدد تقوم في المطالبة باسترجاع الحقوق المدنية للإفراد وليس تحويل فكرة الحق إلى مطالب قومية عرقية. إذ أن فكرة إرجاع «العرب» من كركوك إلى أماكن سكنهم الأصلية تعني بالضرورة أن كركوك ليست عراقية. وهو مطلب غير معقول. لاسيما وانه مطلب سوف يدفع بالضرورة فكرة إرجاع الآشوريين إلى أماكن سكنهم الأصلية في شمال العراق بعد موجات الإبادة الهائلة التي تعرضوا لها قبيل الحرب العالمية الأولى وبعدها وفي العراق الملكي ومن جانب الأكراد بالأخص. كما انه يمكن أن يدفع شعار إرجاع الأكراد إلى مناطق سكنهم الأصلية، أي إلى مناطق الجبال وشهرزور، أي إلى ما وراء الحدود العراقية، كما فعل صدام مرة! ولماذا يحق للحركات القومية الكردية أن تكرر باسم حق تقرير المصير تكرار نفس جرائم الصدامية؟!

مما سبق يتضح حجم الانحطاط الفعلي في الفكرة الوطنية عند الحركات القومية الكردية، وتغليب الهمّ العرقي على الهمّ العراقي. ونعثر على هذا الواقع في انتشار الشعار الأسطوري وغير العقلاني ومختلف الخرافات "التاريخية". مع أن تجارب الأمم جميعا تبرهن على أن الفوز الفعلي هو لقدس العقلانية والواقعية، أي للنظام الديمقراطي الاجتماعي والمواطنة المكفولة بقوة القانون وليس بقوة القومية المزيفة والادعاء الأسطوري عن «أرض الآباء والأجداد»، أي ممن لا وجود لهم! بمعنى أن الفوز الحقيقي يقوم في استتباب منظومة الفكرة الوطنية وليس بعث العبث القومي العرقي. لاسيما وأن تجارب الأمم الحية الكبرى، القديمة منها والمعاصرة تبرهن على حقيقة لا مجال للشك فيها ألا وهي أن الرؤية العرقية هي مصدر السلوك العنصري، أما نهايتها فهو الانحطاط القومي الشامل والهزيمة التاريخية. وهي خاتمة سوف تتحول بالضرورة إلى بديهية سياسية في العراق.

***

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم