قضايا

أَلمَرجِعِيّةُ في تفسيرِ وتَأويلِ النصِ الدينيِّ

لِكُلِّ حَقلٍ معرفيٍّ مرجِعيّتُهُ التي تُشَكِّلُ الجَهَةَ الرَّسميّةَ الناطقةَ باسمِ هذا الحقلِ المَعرفيِّ .

في حقلِ الطّبِ -على سبيلِ المثالِ - الاطباء الحاذقون هم الجهة الرسميّةُ، التي يكون كلامها هو المُعَوّلُ عليهِ في حسمِ الخِلافِ، لانَّ هناكَ دجاليّنَ يعالجونَ المرضى ويبتزونهم اموالهم كالمشعوذينَ والعرافيّن والسحرة . مالم تكن هناك جهةٌ رسميةٌ ناطقةٌ باسم الطب فسنقعُ في فُوضى التطبيب، والضحكِ على الذقون. وفي مجال الهندسة، هناك مهندسون أدعياء، وهؤلاء مالم تكن هناك مرجعيةٌ يرجع اليها في تحديد ادعياء الهندسة من المهندسينَ الحقيقين، لتسبب هؤلاء بكوارث، وسقوطِ البنايات على رؤوس الساكنين فيها .

وهذا الكلامُ جارٍ في كل العلوم، سواء كانت علوماً طبيعيّةً أوعلوماً انسانيّةً، لضبط المعرفة، وعدم تقديم معرفةٍ مشوهةٍ من قبل أدعياء العلم.

وفي الحقلِ الدينيّ، هذه القاعدةُ جاريةٌ، ولايمَثّلُ الحقلَ الدينيَّ الاستثناء من القاعدة.

فلماذا يكونُ الحقلُ المَعرفيُّ في مجال الدينِ ساحةً مُستباحةً لكلِّ من هب ودب؟

وعندما نقولُ: لابدَّ من وجودِ جهةٌ رسميّةٌ لها صلاحيّةُ الحديثِ باسم الدين؛ لايعني أنّ هذهِ الجهةَ تصادرُ حقَ الاخرين في التفسير والتاويل، وانما اراء الاخرين تبقى اراء قابلة للنقاش ولكنّها لاتمثلُ المرجعيّة الرسمية، وهذه الاراء ليسَ بامكانها حسم الخلاف، بل هي تفسح المجال لاراءّ متضاربةٍ ومتنافرةٍ يضربُ بعضُها بعضاً، فلابُدَّ من وجودِ المرجعيّةِ لحسم هذه الفُوضى في التفسيرِ والتأويلِ.

القُران الكريمُ يَتَحَدَثُ عن وجودِ النص الدينيِّ مع مرجعيته، فالله تعالى لم يرسل الى الناسِ كتباً فقط، من دون ارسال مرجعية معها في تفسير هذه الكتب وتاويلِها، ولكانَ النصُ وحدَهُ كافياً دون الحاجةِ الى مرجعيّةٍ التفسيرِ والتأويلِ، لأرسلَ اللهُ الى الناسِ كُتُباً بلا رسلٍ. اللهُ تَعالى يقولُ في كتابه الكريم، مؤكداً على التَلازمِ والترابطِ الوثيقِ بين النص الدينيّ ومرجعيته.

(آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ).النساء: الاية: ١٣٦ .

(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا).الفرقان: الاية: ١ .

(آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ ). النساء: الاية:١٣٦.

(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).النحل: الاية: ٤٤ .

والايةُ الاخيرةُ تبينُ مرجعيّةَ الرسولِ في البيانِ وحقهِ الحصريّ فيه.

فالرسولُ هو الذي يُفَسّرُ النصَ الدينيَّ ويبينهُ للناس، وله حقُ التأويل.

وبعدَ رحيلِ الرسول(ص) عن هذا العالَمِ، هل هناك مرجعيةٌ بعدَ رسولِ الله (ص) في تفسير وتبيين وتأويلِ النص الدينيّ ؟ نعم، فالقران تحدث عن وجود ورثة للكتاب :

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا).فاطر: الاية: ٣٢ .

القرانُ الكريم يتحدثُ عن وجودِ مرجعيةٍ وارثة للكتاب لها حقُ التفسيرِ والتأويلٍ والتبيين.

والقُرانُ الكريمُ تحدثَ عن اشخاصٍ مؤهلين راسخين في العلمِ، لهم حقُ التأويل:

( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ).ال عمران : الاية: 7.(على القراءة التي تقف على الراسخين في العلم).

والنبي (ص) في حديث الثقلين اكد على هذه المرجعيّة :

(كأني دُعيتُ فاجبتُ، اني قد تركتُ فيكم الثقلينِ احدهما اكبر من الاخر، كتاب الله وعترتي اهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) . "سنن النسائي، الحديث رقم :8148" .

النصُ الدينيُّ ينتج اليات للفهم

هل نحتاجُ في فهم النص الدينيّ الى تطبيقِ مناهج غريبةٍ عن بيئةِ النص الدينيّ ولغته فرضتها استفهاماتٌ واشكالاتٌ على نصوصِ الكتابِ المقدس كمنهجيات (الهرمنيوطيقا)، (التي هي نظريةٌ في تفسير الكتابِ المُقَدَّسِ بعدَ عمليّةِ الاصلاحِ البروتستانتي عندما ارادوا تفسير الكتابِ المقدس دون الحاجةِ الى سلطة الكنيسة، هذا الامرُ حتَّمَ عليهم ان يعتمدوا على أنفسهم في تفسيرِ النصِّ الدينيِّ، وبالنظر الى تعدد التفسيرات الممكنة لاي نصٍ انجيليٍّ فقد دعتهم الحاجةُ الى تاسيسِ مباديء أومعايير للتفسير الصحيح ). نقلاً عن كتابِ ( فهم الفهم للدكتور عادل مصطفى) .

اليس النصُ الدينيّ قادرٌ على انتاجِ الياتٍ للفهم، وهذا مافعلهُ المسلمون الذين ابدعوا علم الاصول الذي هو منهج في فهم النص الدينيِّ، لانّ اصول الفقه تعني اصول الفهم، لان الفقهَ في اللغةِ هو الفهم .

اليسَ النصُ الدينيّ نصاً لُغَوِيَّاً ؟ ولابُدَّ للذي يريدُ قراءةَ النصِّ الدينيِّ ان يكونَ مُلِمَّا بعلوم اللغةِ من نحوٍ وصرفٍ وبلاغةٍ، ويعتمد اليات علم الاصول في الفهم . فلماذا تطبق مناهج غريبة على النص القراني من بيئة اخرى، ونشات في ظل ظروفٍ معينة؟ولماذا لاتكون هذه المناهج نفسها تأريخية؟ لماذا يتم التعامل معها وكأنها مناهج كونية؟ لماذا يتم انتزاعها من بيئتها وظروفها؟ ويتم تطبيق منهج التاريخية على النص القراني؟

تأريخيّة النص القراني

الذين اشتغلوا على تأريخية النص القراني، هم : نصر حامد ابو زيد، ومحمد اركون، والباكستاني فضل الرحمن مالك . ويستدلون على تاريخية النص القراني من خلال اسباب النزول، والنسخ، وفكرة التنجيم ( نزول القران منجماً) .

وجهةُ نظرٍ في تاريخيّة النص القرانيّ

الامثلةُ التي ضربها القائلون بتأريخية النص القراني، من اساب النزول، والنسخ والمكي والمدني، وفكرة التنجيم، والشخصيات والوقائع والافراد، وجهة نظري فيها انها تتعلقُ بالمصاديق لابالمفاهيم . فابو لهب وام جميل في سورة اللهب، التاريخية تتعلق بالمصاديق . فالتأريخي هو ابولهب المصداق، لا ابو لهبٍ المفهوم، وام جميل المصداق لا المفهوم، ولذلك تحدث القران عن ابي لهب المفهوم وام جميل المصداق، فابو لهب صفته المنتزعة من فعله وهذا هو مفهوم ابو لهب لا عبد العزى المصداق التاريخي، ابولهب المفهوم نموذج متكرر لكل من يحمل شعلة من نار ويحرق بها بيوت الامنين، وام جميل وصفت بحمالة الحطب، كل من تحمل حطباً من اجل احراق الاخرين، وهذان النموذجان يتكرران .

القران الكريم يتحدث عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وهذه هي المصاديق التاريخية التي لاوجود لها اليوم، ولكنّ الاية ذيلت بمفهومٍ باقٍ وغير قايل للنسخ، ولايمكن ان يكون تأريخيّا :

(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ۙ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ).المائدة: الاية: 103.

البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، هي المصاديق التاريخية، اما المفهوم في الاية : (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب واكثرهم لايعقلون ) افتراء الكذب واللاعقلانية في التفكير هي المفهوم غير القابل للنسخ، ولايمكن ان يكون تأريخياً.

وعلى هذا الاساس لابدّ من وجودِ مرجعيّةٍ رسميةٍ في تفسير وتأويل النصّ الدينيّ

 

زعيم الخيرالله

 

في المثقف اليوم