قضايا

عودة محمد عبده (2)

مجدي ابراهيمواجهت دعوة الإمام محمد عبده متاعب تجسدت في تحطيم الجمود في المؤسسات الدينية؛ فلئن كان يأس من إصلاح الأزهر، فلم يكن ييأس مطلقاً من الإصلاح الإسلامي وهو مقرر مع الكدح الدائم إلى ملكوت رب العالمين. كان تمكين الزعامات الدينية هو العائق الأكبر أمام دعوته المستنيرة بنور العقل ونور التبصير.

وهذه الزعامات هى التي واجهها بكل شجاعة؛ إذ ليس في الإسلام سلطة دينية ولا كهنوت يتمثل في سلطة رجال الدين. وبما أن الكهانة الدينية تمنع حق الاجتهاد والتجديد وتلغي دور العقل في الفهم وإعمال النظر، فليس في الإسلام كهانة تقدس ما لا قداسة له، فكل قداسة تقف عائقاً أمام تحرير العقل في المطالبة بحقه وإقامة ميزانه باعتباره قوة من أفضل القوى الإنسانية بل هى أفضلها على الحقيقة، إنما هى ليست من الإسلام في شيء؛ لأنها ضد الإيمان بالله بداهةً.

ولعلّ هذا هو الذي جعله يفرق تفرقة حاسمة بين عمل أئمة الدنيا وعمل أئمة الدين، ويضرب السلطة ضربة لا تقوم لها قائمة بعدُ، وإنه ليرى :" أن الإيمان بالله يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية، وهى دعوى القداسة والوساطة عند الله، ودعوى التشريع والقول على الله بدون إذن الله، أو السلطة الدنيوية، وهى سلطة الملك والاستبداد، فإنّ العبوديّة لغير الله تهبط بالبشر إلى درجة الحيوان المُسَّخر أو الزرع المستنبت. وحق على الإنسان أن لا يرضى لنفسه أن يكون عبداً ذليلاً لبشر مثله للقب ديني أو دنيوي، وقد أعزّه الله بالإيمان. وإنمّا أئمة الدين عنده مبلغون لما شرع الله وليسوا هم رؤساء دين، وأئمة الدنيا منفذون لأحكام الله. وإنما الخضوع الديني لله ولشرعه، لا لشخوصهم وألقابهم".

ثم إنّ شيخنا ليقرِّر حقيقة بالغة التسامح والرّوحانيّة، وهى عندي حقيقة كبرى سبقه إليها كبار الرُوحانيين الذين مثلوا الحياة الروحيّة في الإسلام خير تمثيل؛ كالحلاج وابن عربي وابن الفارض والجيلي وابن سبعين، وأعنى بها "وحدة الأديان"، فماذا عَسَاه يقول؟

إنّه ليقول :"الدين دين الله وهو دين واحد في الأوليين والأخريين، لا تختلف إلا صوَرَهُ ومظاهره. أما روحه وحقيقته وما طُوُلب به العالمون أجمعون على ألسن الأنبياء والمرسلين فهو لا يتغير : إيمانٌ بالله وحده، وإخلاصٌ له في العبادة، ومعاونة الناس بعضهم البعض في الخير، وكف أذاهم بعضهم عن بعض ما قدروا. وهذا لا ينافى الارتقاء في الدين بارتقاء عقول البشر واستعدادهم لكمال الهداية". (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية : جمْع رشيد رضا، مكتبة صبيح، القاهرة سنة 1954م - 1373هـ, ص145).

لا ريب كانت محاربة الشيخ محمد عبده لشتى ألوان الجمود والتقليد لا تعنى أنه كان - طيّب الله ثراه -  يحارب أشخاصاً بعينهم بمقدار ما تعنى لدينا أنه كان يحارب عقولاً تتوارث الآفات جيلاً وراء جيل، ثم تتشبث بما ترث من هذه الآفات؛ ليكون سبيلها الوحيد الذي لا تعرف سواه هو التقليد. والتقليد آفة، والجمود على القديم آفة، والآفات التي من هذا النوع تنخر كما السوس في عقول الأمم فلا تنهض ولا تتقدم.

لا تتقدّم أمتنا العربية والإسلامية قيد أنملة إلى الأمام بالجمود والتقليد، في حين ترى الأمم من حولها ناهضة قوية، لكنها آفة العقول المحدودة التي تتوارث داء الغفلة والضلالة والتحجير على عباد الله تحت ستار المحافظة على الدين، والدين من العقول المحدودة المُغلقة بُراء.

وفي حِكَمِه القصيرة النافذة التي جمعها عنه تلميذه "رشيد رضا" قال الشيخ محمد عبده :" أَشَدُّ التعب أن ترى من حولك مرضى وأنت لا تستطيع معالجتهم". وواضح أن المرضى هنا ليسوا مرضى الأبدان وحدها بل كذلك مرضى الأفئدة والنفوس والعقول والأذهان؛ فإنّ معالجة مرضى القلوب والأذهان أشدُّ تعباً من معالجة مرضى الأبدان.

هذه هى معاناة شيخنا الحقيقية : نقد الفكر التقليدي، ومحاربة العقول البليدة المتحجِّرة، التي ظلت ومازالت تتخذ من الدين غطاءً تخفى وراءَهُ تخلَفها وجهالتها، وتيبس أدمغتها، وجمودها وتقليدها، وأطماعها الدنيوية ونفوذها السّلطوي وزعاماتها الروحيّة. والدين لا يدعو إلى التخلف ولا إلى الجمود والتقليد، ولا إلى الطمع والنفوذ والتسلط والزعامات الموبوءة. الدين يدعو إلى الانفتاح والتسامح والمراجعة والتصحيح والطاعة لله والامتثال لأمره.

ويجيء منهجه في التفسير قائماً على معايشة القرآن معايشة روحية غير تقليدية، ولم تكن رؤيته باتجاه النظر إلى القرآن مُلزَمَة بما جاء في اقوال المفسرين السابقين؛ لأن رؤية هؤلاء المفسرين قد ارتبطت بالمستوى العقلي ودرجة العلم التي بلغوها على أزمنتهم وتحصلت لمجتمعاتهم وبيئاتهم الثقافية. وليس شرطاً أن تتوقف العقول جامدة عندما حصلوه أو بلغوه، ولا أن تكون حصيلتنا الفكرية هى فقط كامنة فيما ظهر لهم من معانيه، وواضح أن الأمام محمد عبده يعول هنا كل التعويل على استقبال القلوب في ذاتها لمعاني القرآن، فلكل إنسان قلبه الذي يختلف عن قلب الآخر، وله إشراقاته الروحية التي تتباين عن إشراقات الآخر. ومهمة القرآن هو تحويل النفوس واستقبال القلوب  على الحضور للمعاني القرآنية الفاعلة فيها : فعملُ القرآن في الباطن لأجل التغيير. ومَنْ لا يفهم القرآن، ومن لا يقرأه على حضور وطلاقة لا يستطيع أن يقوم على الحقيقة بمهمّة تجديد العقل الديني، لأن هذا التجديد يُطال نفس المُجدد أولاً ثم من أضواء العقل وأنوار الضمير وإشراقة النفس يكون التجديد؛ فلن يكون تجديد للعقل الديني ولوثة الروح باقية والعقل نفسه معطل عن الوعي والفهم والتصحيح.

ومن لم يتخذ من القرآن هداية روح ورقيّ سريرة فلن يقتدر على القيام بمهمة الدعوة الدينية في الإسلام، ولا يمكن لهذه الأمة أن تقوم في رأى الأستاذ الإمام إلا بالروح التي كانت في القرن الأوَّل قبل ظهور الخلاف وحلول الفتن وهى :"رُوح القرآن"؛ وكل ما عداه فهو حجاب بينه وبين العمل والعلم.

وعقيدته هى عقائد كبار المُحَققين أنْ : "ليس وراء القرآن غاية". وفي طلاقة النص القرآني يقول : "إنّ خطاب القرآن لا يختصُّ بواقعة، بل يصحُّ أن يكون خطاباً لكل الناس". حقيقة أن اللفظ القرآني ليشع حياة. حياة من نور فيها متاع للعقل، ومتاع للذوق، ومتاع للشعور. حياة تتفتّح فيها الحياة وتنمُ عن مقاماتِ وأحوالِ يصعدُ فيها الضمير مدارج ومراقِي من التّفتُّح الروحي والإدراك الذوقي. حياة تعطى صور الحياة في أصلاب الوجود. اللفظ القرآني وحده هو الذي يصور الحقيقة، حقيقة تلك الحياة، وحقيقة ما بعد الحياة. إنه ليعبِّر عن العمق الداخلي في أطواء هذا الوجود كله، عن الكون كله بما فيه ومَنْ فيه؛ تعبيراً يُعطي من وراء اللفظ إيحاءاته الدالة بالوقوف مع خالق هذا الوجود، ومن هنا تكون رؤية العالم مؤصّلة على فهم القرآن من هذه الجهة، الذي هو في الوقت نفسه فهم للكون كذلك.

أمّا العبد المخلوق؛ فهو في التصوِّر والتعبير لا يستطيع أن يَتَقَدَّم قيد أنمُلة كيما يمسُّ مثل هذا الغور الدفين المبطون ولو مسَّاً خفيفاً إلا بمقدار ما يقترب من التعبير القرآني، من ايحاءات اللفظ الدالة، وإلا بمقدار ما يستشعر في اللفظ القرآني من حقائق التصوير وحقائق التعبير.

إنّ هذا الكتاب لمعجزة في لفظه وفى معناه؛ وإنه لوثيقة ربَّانيةٌ عظمى تدلِّل على رفعة المقاصد، وسمو الأهداف، ونُبْل القيم، وبقاء الحقائق، وشرف الغايات؛ لكل من يحفظ منه اللفظ فيعرف تباعاً معناه، فيتحرك - من ثمَّ - في الحياة على هداه. ولن يكون التجديد تجديداً للعقل الدعوي وفيه إهمال متعمد يغفل القرآن، بمقدار ما يغفل باعث التوجه وباعث الحركة فيه من جهة الأنفس والافاق.

هذه "الحركة" لاشك هى المطلوبة من فهم كتاب الله، وليس المطلوب كثرة التشدُّق به في غير حركة، وفى غير تغْيير من واقعات الحياة.

يُلخِّص الأستاذ الإمام هذه المعاني ليعطينا من قوله زُبْدتها حين ينص على :"إن لكلام الله أسلوباً خاصَّاً يعرفه أهله، ومن أمتزج بلحمه ودمه. وأما الذين لا يعرفون منه إلا مفردات الألفاظ وصور الجمل فأولئك عنه مبعدون". وفي معناه أيضاً أنه ما لم ينقلك اللفظ من حال إلى حال، ومن حياة إلى حياة، فقلَّ أن يكون لك نصيبٌ من فهم القرآن أو من تقريب معناه إليك إلا في اللحظة التي يمتزج فيها بروحك، ويختلط بدمك على ديدن الطهارة والصفاء والنقاء والذكر والمواصلة والتسبيح.

ولم يكن منهجه في التفسير سوى تلك النظرات الثاقبة مع المداومة على قراءة القرآن، وتفهم أوامره ونواهيه، ومواعظه وعبره على ديدن الحضور كما كان يتلى على المؤمنين والكافرين أيام الوحى، وإنه لينصح أحد تلاميذه قائلاً :" وحاذر النظر في وجوه التفاسير إلا لفهم مُفرد غاب عنك مُراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خفى عليك متصله، ثم أذهب إلى ما يشخصك القرآن إليه، وأحمل نفسك على ما يحمل عليه، وضمَّ إلى ذلك مطالعة السيرة النبوية، واقفاً عند الصحيح المعقول، حاجزاً عينيك عن الضعيف والمبذول".

وفى شذرة من شذراته البديعة يلحظ ملحظاً فارقاً بين من يقرؤون القرآن على الغفلة والجهالة وحظوظ الدنيا، وبين من يقرؤونه للحركة الفاعلة ترقيةً للنفوس وتهذيباً للضمائر وتوعيةً للقلوب فيقول :" معنى عبادة الله بالقرآن عند الجاهلين به : أن يقرأ الشخص ولا يخطر المعنى بباله، ولا يحرِّك نفسه لأوامره ونواهيه".

ولمّا كان القرآن وثيقة تبرهن على أسرار هذا الوجود محفوظة بالبيان الإلهي: البيان الذي لا يأتيه باطل ولا يناله عبر تطاول العصور ضعف ولا هزال، طلاقة لا متناهية في نصِّه، وفى رُوحه وفى لفظه ومعناه؛ صارت أسراره مرهونة بالمحافظة على ألفاظه على شِرعة الأدب والحضور بين يَدِي الله. وليس المراد باللفظ هنا مُفرد اللفظ ولا بالجملة صورة الجملة بل المرادُ فهم الكلمة الواردة على ديدن الحضور والعرفان : فهم لمعنى كبير ضخم لا يمكن تغافله ولا حذفه بجرة قلم خبيثة، هو هو المعنى الذي توارثته القلوب العاقلة عن ربّها من ميراث النبوة، وتناقلته بالسّر الطوايا المبدعة عملاً بما فيه من ضخامة المعنى وكبير المضمون، فكان أن قال الإمام محمد عبده في شذرة أخرى مُلفتة ذكية ذات توجّه علوي مقصود :" إني عندما أقرأ القرآن أو أتلوه أحسب أنى في زمن الوحي، وأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ينطق به كما أنزل عليه جبريل عليه السلام".

هذا منهج تربوي في الأساس، لكنه ليس تربوياً وكفى، بل يُضاف إلى التربية خاصة أخرى هى لبها ولبابها وجوهرها الأصيل، وليس المنهج بغيرها يقوم، ولا يمكن استحضاره بدونها وأعني بها تلك "الخاصَّة الذوقية" أو بالأحرى منهج التصوف الذوقي الذي كان الأستاذ الإمام يفضله ويرعاه؛ كان يفضله في نفسه ويرعاه تطبيقاً عليها، ويسمو به فيها غاية السمو وتسمو به نفسه بمقتضاه وترتفع غاية الرفعة؛ الأمر الذي يكشف جلياً عن طبيعة الصوفي وحضوره في حياة ومنهج الشيخ محمد عبده في كل ما هو متعلق بالتربية أو متصل بالإصلاح الديني والخُلقي والاجتماعي. وهو القائل على التحقيق :"كل نعمة من الله في ديني سببها التصوف". ومع ذلك فقد نجد بيننا الكثير ممّن فقدوا ذوق البصيرة والشعور الديني الصادق من يرى أن التصوف ما كان، ولن يكون أبداً، حسب اعتقادهم، هو طريق الخلاص من وضعنا المتردي، لأنه في نظرهم طريق استسلامي يشجع على استكانة المشاعر وانهيار القوى في وقت نحن فيه بأمس الحاجة للروح الوثابة، والمشاعر الثائرة، والفكر النير، والحلول التي تخلصنا من مشاكل التخلف التي نرزح تحت وطأتها صباح مساء.

ومن الغريب الداعي للدهشة أن هذه الصفات الأخيرة التي ومضت في عقولهم على غفلة من زمن القيم الساقطة، والتي يرصّونها لفظاً ميتاً لا حياة فيه يجيء بغير معنى ولا مدلول هى صفات في الأصل من العمل الحي لمعطيات التصوف ومن فاعليته الكبرى، فالروح الوثابة الحرة الطليقة والمشاعر الثائرة والفكر الصافي المستنير هى في الواقع صفات الصوفي الحقيقي الذي لا يعرف للخمول ولا للاستكانة طريقاً بل هَجِّيرَهُ  العمل، وديدنه الجهاد في سبيل مطلوبه، وغايته الإخلاص في القول والفعل؛ فلا يهدأ الصوفي أبداً إلا أن ينال ما يرد؛ لكن الفرق بينه وبين غيره من أصحاب الإرادات أن مراده غير مرادات الذين غرقوا في وحل الواقع المتردي؛ فانهارت قواهم على التصدي له بروح وثابة طليقة فلم يتقدّموا في إصلاحه خطوة واحدة، ولا حتى ترقيعه قيد أنملة، بل كلما رقعوه تمزق منهم ولا يزال مع التّمزّق حتى مزق بشراهته نفوسهم وقلوبهم حسرةً على الضعف والتردي والشّرَه المادي الساقط اللعين.

ولا يخفى أن للإمام محمد عبده موقفاً من نقد سلوك المتصوفة الطرقي التجهيلي الذي لا يقوم لديهم على العلم ولا المعرفة بل على الاعتقاد السلبي في شيوخ التصوف ممّا يسبب لوثة الاعتقاد بل الشرك، وهو أمر لا ينفرد به محمد عبده وحده بل وجد عند أعلام التصوف أنفسهم : نقد أنفسهم بأنفسهم نقداً ذاتياً منذ أيام القشيري في "الرسالة" ووصولاً إلى الشعراني في "آداب العبودية".

وفي تاريخ الأستاذ الإمام (طبعة القاهرة، سنة 1350هـ - 1931م، جـ2؛ ص 130)، ذكر محمد عبده للسيد رشيد رضا يوماً قوله :" إذا أنا يئست من إصلاح الأزهر، فإنني أنتقي عشرة من طلبة العلم، وأجعل لهم مكاناً عندي في "عين شمس" أربيهم فيه "تربية صوفية" مع إكمال تعليمهم"؛ ويعقب رشيد رضا على ذلك، أن الإمام محمد عبده كان أقترح على السيد جمال الدين الأفغاني هذه الاقتراح أيام كانا ينشئان مجلة "العروة الوثقى" في باريس، ثم يقول رشيد رضا معقباً على هذا :" ولو تمَّ للأستاذ الإمام هذا على الوجه الذي يريده، لكان أعظم أعماله فائدة".

ليس من شك عندي : أن دعوة الدين كما بيَّنها لنا الأستاذ الإمام والفيلسوف الحكيم، وكما نفهمها منه؛ لتهدف إلى الشعور بالاستقلالية والتميز وبالطلاقة الرُّوحيَّة وبالتّفرُّد على شِرعة القرآن؛ ليُنتج الدين على هداها دوماً أُناسَاً خَلاَّقين.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم