قضايا

السياسة الشرعيّة تُدين المتاجرين بها

عصمت نصار(إنها حقيقة صادمة) بتلك العبارة عقّب الحضور على كلمتي التي ألقيتها في مكتبة الإسكندرية في ندوة بعنوان "الإسلام والجمال" التي نظمها مركز "دراسات الحضارة الإسلامية" تلك التي جاء فيها :

إن أوهام الفهم التي تُصيب الذهن من جرّاء المفاهيم المشوشة والدلالات الملتبسة والمعاني المُطمسة، تحول بينه وبين النفوذ الى حقيقة المفاهيم، شأنها شأن الأصنام التي يعبدها البعض ويزود عنها بالسيف ويروّج لها بالأقاصيص الملفقة، ويجحدها البعض الآخر، ويعبر عن كرهه لها بالإقصاء تارة، والنفور منها تارة أخرى.

ولم يحاول أولئك وهؤلاء التعرُّف على حقيقة ذلك الوهم أو الصنم للحكم عليه أو تحليل مضمونه، وما أكثر الأوهام، الأصنام، التي نُسبت للإسلام في حياتنا المعاصرة وشريعته، فضلّ بها الكثيرون.

ولعلّ مصطلح  "السياسة الشرعية" أكثر تلك المصطلحات التي ذاعت منذ أخريات القرن التاسع عشر في حياتنا السياسية، وصاحبها العديد من الشعارات العقدية مثل (تطبيق الشريعة الإسلامية - الحاكمية الإسلامية - الإسلام هو الحل - الخلافة الإسلامية - والدولة الدينية)، وقد عُقدت حول ذلك الوهم مئات المناظرات وظهرت عشرات الفرق الإرهابية باسم الجهاد ضد المجتمع العلماني الكافر المناوئ لشريعة الله، ولعلّ آخر تلك الجماعات الضالة هى "داعش" التي رفعت راية الخلافة وادّعت أن دستورها هو السياسة الشرعية.

لذلك كله سوف نحاول في عجالة الكشف عن الحقيقة، وإزالة ذلك الوهم وذاك الصنم.

فقد اتفقت جُل الكتابات التي عبّرت عن السياسة الشرعية على أنها " اجتهادات الحاكم في أمور تدبير الدولة على نحوٍ يُمكّنه من إقامة العدل واستتباب الأمن لتحقيق المقاصد الشرعية، وهي الحفاظ على الدين والعقل والنفس والمال والعِرض، ثم الكرامة والحرية والبيئة، ودرء المفاسد وجلب المصالح العامة شريطة الالتزام بقطعي الثبوت والدلالة من الأوامر والنواهي الشرعية، والاستعانة بأهل الدربة والدراية في تدبير شئون الدولة عن طريق مبدأ الشورى والعقد السياسي الذي حَدّد حق الحاكم على الرعية بالطاعة، وحق الأمة عليه  في تنصيبه  ومعارضته وعزله، اذا ما أخلّ بمهامه الرئيسة، ودون ذلك له عليها حق الطاعة والنصرة".

وتبدو مواطن الالتباس والغموض والتشويش في الاجتزاء من ذلك التعريف أو تلخيصه في أحد المعاني الإجرائية السياقية لأحد الفقهاء أو المتكلمين، أو تلبيسه بما ليس فيه، وإدخال عليه ما يُناقض مضمونه، وسوف نتناول ذلك بشيء من الإيضاح:

ادّعاء جماعة الإخوان أو السلفيين أو الجهاديين أو القاعدة أو داعش بأن المقصود بالسياسة الشرعية هو تطبيق الحدود فهو خاطئ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم، فصَل بين أمور السياسة وظاهر النص القرآني انتصاراً للغاية الأسمى وهي تحقيق المقاصد الشرعية، فلم يقتل المنافقين، ولم يهدم الكعبة ويعيد بنائها، ولم يأمر بالتنكيل بتاركي الصلاة حتى لا يُتهم النبي في صدر دعوته بأنه غادر بتقتيل أصحابه، أضف الى ذلك أن جُل تدبيراته السياسية كانت بشرية، وقد وضعها  صحابته مناهل الدربة والدراية.

كما عطّل عمر بن الخطاب تطبيق الحدود في عام الرمادة سنة 19هـ، وضاعف عقوبة شارب الخمر إلى (80) جلدة، وحرق عثمان بن عفّان المصاحف المخالفة للقراءة الصحيحة، ونكّل عليّ بن أبي طالب بالسبأيين والمجترئين حرقاً، وكل ذلك يُدرج في باب التعزير ومقتضيات السياسة الدنيوية، أضف الى ذلك أن اقامة الحدود لها ضوابط حاكمة لا تتوفر في زماننا، وأن المجتمعات الإسلامية قد لجأت الى التعازير في تدبير شئون الدولة؛ لأن الحدود لا تُطبق بالشبهات ولا القرائن.

ثم ننتقل الى ادّعائهم الثاني وهو أن الخلافة نظام ديني، وأن  الشورى سبيلهم الى إقامتها، وأن السيف هو سلاحهم لحمايتها، والحقيقة غير ذلك تماماً، فالخلافة أو الإمامة أو المُلك أو الرئاسة كلها من الأمور المدنية عند جُل الفقهاء والمتكلمين فيما عدا الشيعة الإمامية  والاسماعيلية، لا دخل للسماء في تنصيب الحاكم أو عزله، ومَرَدّ ذلك إلى أن الأمة هى مصدر السلطات في السياسة الشرعية. فنظرية الحق الإلهي وتأليه الحكام من النِحل الفرعونية والهندوسية والفارسية والحكومات الثيوقراطية، وهى بعيدة كل الُبعد عن الشريعة المحمديّة.

ولعلّ كتابات - أبي حامد الغزالي والمودودي وابن الأزرق والثعالبي وابن تيمية - هى التي عظّمت من شأن الخليفة أو السّلطان وجعلته ظل الله على الأرض أي السبب في ذلك الوهم : فالخليفة أو الأمير قد نُصّب في الحضارة الإسلامية بثلاث طرق: "الشورى - وراثة المُلك - القوة والشوكة أو الغلبة"، ويعني ذلك أن ما قيل عن شرعية تنصيب "محمد مرسي" محض كذب، فلم يُنتخب من أهل الحلّ والعقد بل انتخبه العوام، وأنّ الشروط المتفق عليها بين كُتاب السياسة الشرعية غير متوفرة فيه "القرشية - الشوكة - العدل - العلم - الورع - الصدق - الدُّربة والدراية -الأمانة - والانصياع لمشورة أهل الحل والعقد ونُصحهم".

وانّ وصف ثورة 30 يونيو بأنها انقلاب على الشرعية، جهل بحقيقة السياسة الشرعية، وذلك لأن جُل الفقهاء وعلى رأسهم ابن تيمية جعل صاحب الشوكة أو القائد المتغلب "الجيش" الذي انتزع المُلك بالقوة حاكم إسلامي كامل الأهلية، ويجب على الأمة طاعته ونصرته والانصياع الى أوامره، وذلك لتحقيق أهم مقصدين وهما : الحفاظ على كيان الأمة ودينها من الفرقة والتشتت والفوضى، وعدم سفك الدماء.

كما أنّ زعم الجماعات الإرهابية بأن ما يقومون به من - اغتيالات وقتل للأبرياء جهادٌ - محض افتراء وضلال فقد حرّم الله الغدر، وأن منطق الاغتيالات لم يقّرّه الجمهور بل هو إحدى حيل فرقة الحشاشين والخوارج والقرامطة، كما أنّ ادعائهم بأن العمل بالقوانين الوضعية كفر وشرك، جهل وضلال من أقوامٍ وُصفوا بالرويبضة، وذلك لأن معظم تدابير السياسة الشرعية منذ تولية الخلفاء الراشدين حتى نهاية الخلافة العثمانية، قد سُيست بالتعازير في العقوبات والاجتهاد في استحداث النظم، وبالقياس العقلي الذي يُراعي الواقع المعيش في التدبير.

فالسياسة الشرعية تختلف عن الفقه وأحكام الشريعة في بنيتها المعرفيّة، والأصول التي انطلقت منها، لذا فهى مدنيّة في كل أمورها شريطة - كما ذكرنا - عدم مخالفة قطعي الدلالة والثبوت من القرآن الكريم وصحيح السّنة.

أمّا آراء الفقهاء وإجماع بعضهم واجتهاد نفرٍ منهم لا يُعد حجة لتكفير المجتمع وحمل السيف عليه "دار الكفر"، فمعظم تلك الآراء الجانحة التي كفّرت المجتمعات، خرجت من الخوارج وبعض المُتشدّدين من المجتهدين من أمثال ابن تيمية، والمودودي، وسيد قطب، وغيرهم من الذين خضعت اجتهاداتهم، لظروف سياسية محليّة وأوضاع اجتماعية خاصة، وهى تختلف بطبيعة الحال مع ما نتعبّد به من النصوص الشرعية، فتقديس التراث الفقهي، ليس من الشرع في شئ.

وقد اجتمع  الحنابلة ومنهم الإمام أحمد وأبو يعلى بن الفراء والأشاعرة والحنيفية والمالكية والشافعية على عدم جواز تكفير المسلمين أو الخروج عليهم بالسيف واستحلال دماءهم وأعراضهم وأموالهم، وأنّ من يفعل ذلك خارجٌ عن الملة، كما أضاف ابن تيمية أن الصبر على الحاكم القوي الفاسق الفاجر أفضل من الانقلاب عليه بالسيف حتى لا يُعّرض المسلمين للتهلكة وسفك الدماء، فشرط الخروج على الحاكم عند الجمهور هو هدم الدين أو كفر الحاكم صراحة "كفر بواح"، أو خيانة للأمانة، أو استبداده وتفشي الجور، شريطة القدرة عليه ووجود البديل الصالح. وأخيراً ادّعاء هذه الجماعات الجانحة بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، باعتبارها الفرقة الناجية المنوطة بذلك والمحتكرة للحقيقة المُطلقة، فإنّ هذا الادّعاء مردودٌ عليه أيضاً، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسيف من سلطة الحاكم، وذلك بحسب ما ورد عند الجمهور وابن تيمية، ولم يخالفه سوى الخوارج.

أمّا حق الاعتراض والنصح والرفض كل ذلك مُباح من قِبل أهل الحل والعقد، أمّا العوام الجهلاء، فلا يحق لهم حمل السيف على الحاكم، فلم يُبح ذلك سوى الحشاشين من فرقة الإسماعيلية والجهاديين في كتابات ابن تيمية والمودودي وسيد قطب، فالسياسة الشرعية تتفق تماماً مع الصوفية في أن الأمر بالمعروف لا يتحقق بالعنف ولا المنكر، والنهي عن المنكر لا يحق إلا بالمعروف والدعوة الصالحة.

أمّا وصف الحاكم المُسلم بأنه المستبد العادل فهذا لا يعني أبداً أنه ذلك المتجبر المتسلط المنفرد بالقرار، بل أن المفهوم على العكس من ذلك تماماً، فهو مستبد أي حازم وحاسم، قوي في إقامة العدل وذو بأسٍ في الزود عن الأمة ضد المعتدين والضارب على يد المجرمين والعصاة الذين يكدّرون صفو حياة الرعيّة بجرائمهم.

تلك كانت كلمتي لتوضيح مفهوم "السياسة الشرعية"، وكل ما جاء فيها يتفق مع ما ورد في كتابات المتكلمين والفقهاء الذين تصدّوا الى ذلك المصطلح، من أمثال الموردي وأبو يعلى في "الأحكام السلطانية" وابن الأزرق في «بدائع السلك في طبائع المُلك" والغزالي في "التبر المسبوك"، وابن الطقطقي في "الفخري في الآداب السلطانية"، وابن تيمية في "السياسة الشرعيّة" وابن خلدون في "المقدمة" وأبو البقاء في "الكليات".

وما قدّمته لا يعدو أن يكون قراءة لتوضيح ما أعتقد أنه الحقيقة، وحسبي في هذا السياق أن أشير الى رأي المعتزلة الذين أكدوا في كتابات مؤرخهم الأعظم القاضي عبد الجبار أن السياسة في الإسلام هى سياسة مدنيّة تحتكم الى المقاصد الشرعيّة، ودون ذلك من تسييس أمور الدولة من باب الاجتهاد الذي يتّسع للجميع أخذاً ورداً، تبعاً لدرء المفسدة وجلب المصلحة العامة وتحقيق الأمن وإقامة العدل، وذلك إتباعاً لسنة النبي في تسييسه لأمور الدولة الإسلامية، فجُل ما جاء به في هذا الباب مدنيٌّ في أصله ومضمونه "أنتم أدرى بشئون دنياكم".

والسؤال المطروح : هل يمكننا إدراك الجمال والحُسن الكائن في حقيقة السياسة الشرعية الإسلامية؟ ونمحو تلك الصورة القبيحة التي بَدَت في سلوكيات الجامحين والجانحين والمُضللّين الذين وصفوا الإسلام بما يناقض مقاصده وشرعته، فصدّوا الناس عنه واسترهبوا بعضهم ووسوسوا للبعض الآخر فضلّلوه، وهل حان الوقت أن نزيل تلك الأوهام ونحطم تلك الأصنام ونكشف ثانية عن جماليات الخطاب الإسلامي، وما فيه من حِلم ورحمة وتسامح مع الأغيار؟

 

د. عصمت نصار

 

 

في المثقف اليوم