قضايا

الفلسفة والعرفان

مجدي ابراهيميقترنُ التصوف بالمعرفة، ويمضي الصوفي إلى تحقيق أكبر قدر ممكن في نفسه من لطائف العرفان؛ فالتصوف والمعرفة طريق واحد، ولكن المعرفة الفلسفية عقلية محضة، ولها بالعقل صلة ونسب، غير أنها في التصوف تتخذ شكلاً آخر هو ما سيأتي تفصيله في سياق الحديث.

وقد جرت عادة النظر الفلسفي إلى اعتبار المعرفة ترادف في اللغة اليونانية كلمة (جنوسيس) أي الغنوص، التي معناها العلم بلا واسطة. والغنوصيّة، كما هو معروف، ظهرت في الأديان الفارسية والمجوسيّة، وهى كلمة يونانية الأصل معناها المعرفة غير أنها أخذت بعد ذلك معنى اصطلاحيّاً هو التوصل بنوعٍ من الكشف إلى المعارف العليا.

ومن هنا؛ فقد كانت الثيوصوفيّة القبالية (Cobala) أو الكبالا اليهودية (Kabbalah)، تعلن أنها تريد أن تصل إلى الحياة الباطنية للملكوت الإلهي، وأن يعيش فيه خُلّص اليهود. والكبالا هي فرقة يهوديّة كانت تُمارس تعاليمها ذات النزعة الصوفية عند رجال الدين اليهودي للكشف عن المعاني الخفيّة والرمزية في الكتاب المقدس لا سيما أسفاره الخمسة الأولى. ومن أسفارها "سفر الجلال" وهو عبارة عن مجموعة نصوص يهوديّة كتبت معظمها باللغة الآرامية، ومن خلال تعاليم الكبالا انتعشت الحياة الصوفية، وتعتبر الكبالا من أشدّ الفرق الغنوصيّة التي عرفتها تواريخ الأديان، وقد تطوّرت وانقسمت فيما بعد، وكان فيلون اليهودي أكبر مثقف بالثقافة اليونانية من أشدّ المتأثرين بالغنوصية.

وانتقلت الغنوصية إلى العالم المسيحي والإسلامي تباعاً وحاربها المسلمون، وتسرّبت إلى أئمة الصوفية كالسّهروردي، والحلاج، والتستري، ومحيي الدين بن عربي.

وكشفت آراء المستشرقين، والتي يردّدها المؤلفون العرب ممّن يتابعونهم، عن عناصر التشابه بين ما يسميه الصوفية المعرفة بالله ويعتبرونه من أخصّ صفاتهم، وبين ما يُرادف في اللغة اليونانية كلمة جنوسيس (الغنوص)، والتي معناها العلم الحاصل بلا واسطة والناشئ عن الكشف والشهود، وذهبوا إلى أن كثيراً من صوفية الاسلام في القرن الثالث الهجري قد عرّفوها بهذا التعريف، ولكن أوّل من بحث في المعرفة بحثاً نظريّاً هو ذو النون المصري (المتوفى سنة ٢٤٥)؛ إذ رأى أن غاية الحياة الصوفية الوصول إلى مقام "المعرفة" الذي تتجلى فيه الحقائق فيدركها الصوفي ادراكاً ذوقياً لا أثر فيه للعقل ولا للرؤية الفلسفيّة، وذلك لا يكون إلا أهل الله الذين يرون بأعين بصائرهم.

ومعنى هذا، أنّه اذا كانت المعرفة الفلسفية تقوم على العقل المدرك الذي يُلاحظ فيه النفس، فالمعرفة الصوفية لا يُلاحظ فيها حظوظ النفس أبداً، لأنه - كما قال ذو النون المصري - إنّه بمقدار ما يعرف العبد من ربّه يكون إنكاره لنفسه. وليس في أقوال ذي النون ما يمكن الجزم بتعريف المعرفة كونها غنوصاً كما هى في العقائد الفلسفية السابقة.

ولا شك عندي أن بحوث المستشرقين، ومن تابعهم من الكتّاب العرب، قائمة على الشكل البرّاني. والمبالغة في إظهار الشكل أغفلت لديهم كشف المضمون. والاعتماد على التشابه الخارجي السّطحي لم يلغ مطلقاً توجُّهات المضمون الديني الذي ينتسب إليه صوفية الإسلام ويدينون له بالولاء.

مادة العرفان في مجال الفلسفة إذا جاز أن نعتبر المعرفة غنوصاً غير مادته في نطاق التصوف إذا اعتبرنا قضايا الدين منهاج وحي من عند الله. العقل في مجال الفلسفة قد يُفرز الغنوص، ولكن الوحي قد يسلم إلى المعرفة الحقيقة بالله فيما لو كان الوحي وجوداً يسلك صاحبه مسلك اتباع النبوة على التحقيق، وهو عين ما يميز المضامين الدينية بعضها عن البعض الآخر ويفرزها أمام منهاج التسليك، فما يسلكه اليوناني ويعتمد عليه غير ما يسلكه الهندوسي أو اليهودي أو المسيحي ويعتمد عليه، نعم! قد تتشابه الأفكار في المطالب الروحيّة الإنسانية العامة لكنها لاتزال من حيث منهاج العمل والتسليك قريبة من عين المضمون الديني ينتسب إليه السالك ويدين له بكل الولاء. (قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله)، فاتباع منهاج النور هو الفيصل الحاكم في منهاج التسليك.

فلا يكون عرفانٌ في الإسلام بغير اتباع منهاج النور المحمّدي، ولا عبرة لدينا بالأشباه والنظائر التي يعوّل عليها المستشرقون وأذنابهم في الأقطار العربية، لأنها لا قيمة لها ولا عبرة في التحقيق.

المتصوف الحق هو العارف الحق، فالتصوف قوة والتصوف قدرة؛ لكن قوته لا تتأتى لكل إنسان كما لا يتأتى اقتداره لأحد كائناً ما كان ما لم يكن في ذاته أهلاً لهذه القوة مهيئاً لذاك الاقتدار. وفي فترات الجهالة والمرض المعرفي شاع بين الناس أن التصوف ضعف، وأن الصوفية ضعفاء في مواجهة الحياة ليست لهم عزائم يستخدمونها في لجة الحياة الدنيا والأخذ بها بأوفى نصيب !

وهذا بلا شك جهل بطبيعة التصوف، وهو جهل مركب كذلك بأربابه وعارفيه؛ لأن التصوف كله عزيمة وجهاد؛ فلا الكسل ولا العجز ممّا ينسب إلى الصوفية، وهم في الحق أقوياء قُدَراء.

يملك الصوفي زمام نفسه فلا تقوده من ثمَّ النفس، بل يقودها هو إلى ميادين الجهاد الشريف في عالم التَّصَوِّن والعفاف. لم يكن التصوف ضعفاً ولم يكن الصوفية ضعفاء؛ لأن الضعيف لا يكتسب الفضائل العليا ولا يقتدر على الدوام لمشروعية الاكتساب. فما من ضعيف هو ضعيف إذا أراد سلوك الطريق فعمل بهذه الإرادة كسباً شرعياً لفضائل الأخلاق. وبما أن التصوف في حقيقته خُلُق صارت أفضل الفضائل للنفس الزكية هى أن يكون أرباب التصوف وعارفيه أزكى الناس فضلاً وأرفعهم أخلاقاً وأخصَّهُم منزلة وأسماهم قصداً وأجدرهم لموهبة الاقتدار.

ومن الناس من يظن في نفسه كسباً لفضائل الأخلاق، ولاسيما لو كانت أخلاق العارفين، لكن هذه الأخلاق لا تتيسر لأحد إلّا حين يمعن في المعرفة ويتخلق بهمم كبار الصالحين، تلك الهمم التي يجتمع فيها الفضل مع التزكية العالية ومع الجهاد الأبيّ. وإذْ تترقى أخلاق العارفين في طريق الكمال، وإذْ تجتمع هممهم على عطايا الفضل في ذاته لأربابه ومستحقيه، لم يعد قط للضعف طريقٌ إلى قلوبهم، وإنمّا القوة القوية القادرة هى أبدع ما يملكه جهاد العارف في طريق العرفان.

العارف يزيح السِّوَى بإرادته، ويصبر على مصادمة القواطع والأغيار، وهو من بعدُ لا ينسب لإرادته توفيقاً. والعارف يختار ألا يختار؛ لأن اختياره معلق بإرادة الله إنْ في البدء وإنْ في المنتهى.

حقُ العارف أن يكون كاملاً في كل كمال يختاره لنفسه. ومن كماله لنفسه أنْ لا يختار حظاً واحداً من حظوظ النفس، وإنْ كان ولا بد فهو أن يصدر عن هذه النفس كل ما هو مقرون بلطائف العرفان.

وليس من كماله لنفسه أن يختار الكمال الذي هو للنفس؛ فما من كمال كان في المقام الأول للنفس إلا أنقلب على الفور نقيصة ثم معابة يربأ عنها العارفون؛ إذْ يتوخّون الكمال الذي هو من عند الله؛ فاختيار العارف لكماله أن يختار لنفسه ذلك الكمال الأخير، وهو أن يكون على الدوام بين الحركة والسّكون في معيَّة الله، وأن يكون كماله جزءً لا يتجزأ من الكمال الإلهي، وأن يكون الكمال الإلهي أحد مجالي الله فيه.

لم تكن هذه المعيَّة سوى قصداً مقصوداً تتجلى فيه وحدة القصد حقيقة لا مجازاً، يظفر به العارف أيما ظفر في طريق العرفان كيما يتخذ من الوحدة طريقاً علوياً يسير فيه؛ فلا يرى سواه بديلاً ولا يدرك غيره طريقاً كلما كان هو الطريق المنشود في البدء والمنتهى سواء بسواء.

إرادة العارف أن يدرك بدايةً عداوة الأغيار؛ لأنها بمثابة الحُجُب، فلا شيء يحجب أسباب القربة من الله إلا التعلق بالأغيار كيفما كانت. وإنه ما دامت للعارف إرادة حديدية كانت الأغيار بالنسبة إليه مكمن العداوة وأسّ البلاء، لكن إرادته تقف بالمرصاد لكل إرادة تتواطأ مع "الغيرية" وتتعلق بعلائق السّوى وأدران الحجاب.

من أجل ذلك؛ لم تكن الحكمة التي يقصدها العارف حكمة تتهيأ لمدارك المحجوبين؛ لأنّ مدراك المحجوبين لا تسمح بالتواصل مع مصدر الحكمة التي يحفظها العارف ويصدر عنها؛ ولأنها الحكمة التي تنفتح من لطائف الكشف ومنن الشهود والإشراق. هذه الحكمة ليست غنوصاً ولا هي فلسفة نظريّة محاطة بتأملات عقلية صرفة، ولكنها عرفان وجودي بمجالي الخالق سبحانه في ضوء مضمون ديني تشكله العقيدة.

يرى العارف في ظلالها نور الحكمة كله، ونور الوجود من أعلاه إلى أدناه. لا ريب كانت ألطاف العارفين هى هى الصورة الباقية من نفخة الذات الإلهية لكل ما هو موجود في هذا الكون وجوداً على التحقيق بغير أن يكون هنالك ضرب من الوجود في غير نزاع ولا تقدير خفي لا يرى فيه صواب، أعني بغير أن يكون هنالك ضرب من الكذب والبهتان الذي يطمس الرؤية ويضيّق على العارفين منافذ الشهود وفواتح الكمال.

ما من حكمة يطلقها العارف لنفسه إلا ولها من الآفاق العليّة وحدة قصد وآحادية، ليست هى بغير شك من نفسه ولا من اختياراته، تماماً كما أن نفسه ليست بقادرة على ادّعائها، يكفيه من تلك الحكمة أن مقاصده علويّة، ويكفيه من دعواه أن لا دعوى له تقوم من ذاته ولا نفثة لروحه ذاتية. ولذلك؛ كان عرفانه تعريف إلهي، يُستقى من هذا النبع الذي لا يغيض، وتتجلى عليه عطايا الفضل بغير حساب.

العارف مسكونٌ بالحق على الدوام، ومعجون بعجينة التحقيق.

لكن هذا التحقيق الذي ينسحب على العارفين لا دخل لهم فيه؛ إذ العارف في أول مقام ممنوُّ بكل ما يَرد عليه من أحوال : حاله كُلُّهُ حالٌ لا حيلة له فيها، وأخلاقه من الكمال الذي أكتسبه ليست هى بأخلاق تنظيرية؛ لأن أخلاقه من كمال النور المحمدي الذي أنتسب إليه وأراده وعمل بالاكتساب إلى الوصول إليه مع العناية البالغة في تطبيقه؛ فأجاد التّوجُّه وأجاد الاكتساب وأجاد التطبيق.

أمّا التوفيق؛ فلا شأن له به؛ فهو ليس منه في جميع الأحوال، ولكنه من الله الذي جَلَّ عن أن تناله الأحوال.

يسجد العارف لله، فيطوي بسجوده بساط الكون كله ما كان وما يكون؛ فإذا أراد الوصول فلا شئ يحجب عنه الرؤية أو يحجب عنه الوصول بعد إزالة التعلق بالأغيار.

العرفان حكمة سماوية سامية لا دخل لأنظار العقل فيها، وطريق يبتدئ من داخل لا من خارج. ومن إمارات المعرفة في قلوب العارفين أنهم يدركون بالذوق أن المعرفة هى لقاء، وأن اللقاء ممنوع بغير كلاءة ورعاية وتوفيق.

كلُّ العارف كُلُّه لله على الدوام، ولا دوامَ له بغير إدامة المعيّة مع الله على الدوام بغير انقطاع. لم يخطئ العارفون حين انقطعوا، ولم يخطئوا حين عرفوا وادّعوا لأنفسهم حكمة المعرفة؛ فإن هذه الحكمة ليست منهم، ولكنها مُفَاضَة عليهم من الله، من طريق عرفوه، فجنّدوا أنفسهم خدمة له في كافة الأحوال.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم