قضايا

في سؤال: لماذا نتفلسف؟

اسماعيل بوطاهريتم التساؤل عادة عن الدافع إلى ممارسة فعل التفلسف، بمعنى آخر طلب معرفة الباعث على التفلسف، أو السبب الذي يقف وراء هذا الفعل. ففي مقالنا هذا سنحاول الإجابة عن سؤال: "لماذا نتفلسف؟"، صحيح أن هذا السؤال جوهري وأساسي وضارب بجذوره في تاريخ الإنسان الطويل، وتاريخ الفكر الفلسفي الكوني. أي أن هذا السؤال قد تم طرحه منذ بداية الفلسفة، ورافقها في مختلف محطاتها الكبرى، ويعاد طرحه بصيغ وأشكال مختلفة. لكن ما نود أن نؤكده اليوم/الآن هو أن هذا السؤال قد أصبح يثار بشكل كبير، سواء من طرف الفلاسفة أنفسهم، أو من طرف الذي يقبل على دراسة الفلسفة لأول مرة.

أدعوكم للتوقف والتأمل قليلا في التعريف اللغوي المأثور للفلسفة، أنها "محبة الحكمة". فالجزء الأول "محبة" أي دلالة على الوقوع في "حب شيء ما" أو "تفضيله عن شيء آخر" أو "الرغبة فيه". إن الحب رغبة، فالرغبة تعبير عن عوز ونقصان وفراغ نريد ملأه. إذن الرغبة طلب نتيجة غياب الشيء أو الموضوع المطلوب، أي غياب موضوع الرغبة. بينما الجزء الثاني من التعريف "الحكمة" فهي الاحتراس وأخذ الحيطة والحذر من الوقوع في الخطأ. بصيغة أخرى فإن الشخص الحكيم هو الذي لا يخطئ كثيرا، ويتصرف بروية وتعقل. نصل بالقول إلى أن الفلسفة في جوهرها رغبة تتملك الإنسان من أجل تخطي الوقوع في الخطأ أو المحذور أو العبث. أي رغبة الإنسان في الاتصاف بالحكمة.

إن الحاجة إلى الفلسفة تتولد نتيجة غياب موضوعات معينة، بعبارة أخرى، يمارس الإنسان فعل التفلسف سعيا وراء تحقيق رغباته اللامتناهية، مادام الإنسان يعرف بوصفه كائن دائم الرغبة، نظرا لطبيعته الفانية والمحدودة.

لقد أدرك الإنسان منذ القدم أنه محكوم بالفناء (الموت)، فتحصل له وعي بنقصه وضعفه ومحدوديته، ثم راح يبحث عن السبل التي تمكنه من تحقيق رغبته في الخلود. إذ بدأ الإنسان  بنسج وسرد وإبداع الأساطير التي تتضمن بطولات وملحمات لأشخاص خارقين يقدرون على مواجهة الآلهة وتبديل وتغيير أقدارهم. فما الأسطورة إلا محاولة يائسة من طرف الإنسان القديم بغية تجاوز وضعه المأزوم والمقلق حيال فكرة الموت. لكن الأسطورة أو الفكر الأسطوري قد ساد لفترة طويلة في المرحلة اليونانية؛ بعد ذلك تشكل وعي آخر لدى الإنسان اليوناني في شخص ثلة من المفكرين والفلاسفة، على أن الأسطورة ما هي إلا خرافة وأوهام زائفة تزيد من وضع الإنسان المحرج تأزما. لذلك لاحت رغبة أخرى في الأفق تحث على ضرورة مواجهة الفكر الأسطوري (الميثوس)، بفكر عقلاني (اللوغوس). فالأول يقوم على الخيال الذي يوظف من أجل الإمتاع. وبالتالي الإبتعاد عن التفكير في المصير أو الموت؛ لكن الثاني يحاول تقديم أفكار وطرائق عملية وواقعية من أجل تحقيق الخلاص من فكرة الفناء. فإن الأسطورة تؤسس للجهل وتكرسه. بينما الفكر الفلسفي (اللوغوس) يحارب الجهل ويؤسس للمعرفة. مادام الجهل دلالة على النقص. كما يمكننا أن نقول بأن الجهل مقبرة العقول. أما المعرفة فهي تجاوز للجهل وتخط له.

إن رغبة الإنسان في المعرفة هي التي قادته إلى التفلسف. ويمكن أن نقتبس من جان فرانسوا ليوتار عبارته القائلة " الفلسفة رغبة غير متناهية للوصول إلى الحكمة وإلى الآخر" حيث أن الإنسان يرغب في معرفة ذاته من يكون، وما المصير الذي سيلقاه بعد الموت. ورغبته أيضا في معرفة العالم من حوله وباقي الأفراد الذين يتشاركون معه الوجود والمصير، وكذا الرغبة في معرف الخالق الذي كان وراء وجود العالم وباقي الموجودات بما في ذلك الإنسان.

إن الفلاسفة الطبيعيين أو ما يعرفون بالحكماء السبع، تملكتهم الرغبة في معرفة أصل الطبيعة أو الكون (الآرخي)، أي المبدأ الأول أو المادة الأولى  التي تشكل وانبثق عنها الوجود وباقي الكائنات الأخرى. بعد ذلك نجد  سقراط قد راودته رغبة تعريف الإنسان وجعله الموضوع الأساسي الذي يجب أن تهتم بدراسته الفلسفة، وكذلك تلميذه أفلاطون.

 وبالإنتقال إلى محطة العصر الوسيط، فإن الفلاسفة ومن بينهم المسلميين والمسيحيين على حد سواء، قد انشغلوا بمحاولة تحصيل رغبة أخرى، تلك التي تتمثل في تبرير الإيمان للعقل. لأن هذه المرحلة قد عرفت أفول وزوال فكرة تعدد الآلهة التي كانت تعرفها الحضارة اليونانية، نتيجة مجيء الديانات السماوية ( اليهودية - المسيحية - الإسلام ) التي تقر بالتوحيد. ومنه تزايدت رغبة الإنسان في التدين بدين سماوي معين، فهناك من سيقبل على الدين ويرفض الفلسفة على اعتبارها مخالفة له، وفريق آخر يرى في الفلسفة تدعيم وترسيخ للإيمان الحق في نفوس المؤمنين. ستغدو الفلسفة آنذاك وسيلة لتبرير الإيمان أو الدين للعقل، أي "أفكر وبعد ذلك أؤمن" . على اعتبار الدين والفلسفة يتوافقان في كثير من النقط والأهداف.  إذا كان الدين يدعو إلى قيم العدل والخير ، الحق ، الفضيلة ، الرحمة ، البساطة ، الحوار ، التسامح ،التواضع، و الإخاء بين الناس...إلخ. فكذلك الفلسفة تدعو لنفس القيم: أي أن الدين والفلسفة يتوافقان من حيث الغاية ويختلفان من حيث الوسيلة والمنهج، لذلك نجد جميع المذاهب الفلسفية ترغب في بناء وتكريس القيم الأخلاقية داخل المجتمعات الإنسانية، ونصل بالقول إلى أن الفلسفة في العصر الوسيط كانت تعمل على محاولة تحصيل رغبة الإنسان في التدين وتدعيم معتقداته الدينية، والتوفيق بين العقل و النقل ، وتجنبه الكثير من الحيرة والشك والبلبلة، فالواقع أن الفلسفة والدين على حد تعبير ابن رشد "الحكمة هي الأخت الرضيعة للشريعة" بل إنهما أحيانا يطرحان نفس الأسئلة عن أصل الإنسان ومصيره، وعن علاقته بالكون والإله.

وبالانتقال إلى محطة عصر النهضة والعصر الحديث تزايدت رغبات الإنسان وتعددت، إذ أصبح من سمات هذه المرحلة الرغبة في الثورة على كل ما هو قديم ، حتى تمخضت عن ذلك الرغبة في "الشك في كل شيء". وسميت هذه المرحلة "بمرحلة الشك بامتياز"، نتيجة انهيار عدة حقائق كان يعتد بها. مثل نظرية باطليموس في علم الفلك، إذ تغير مركز الكون من الأرض إلى الشمس، كما انهارت صورة العالم القديم وقامت على أنقاضها صورة العالم الجديد التي تتشكل من خمس قارات، وأيضا ظهور كتاب "الأورغانون الجديد" لفرانسيس بيكون. الذي هو ثورة صريحة على "أورغانون" أرسطو. بالإضافة إلى كتاب "مقال في المنهج" لديكارت الذي يدعو لضرورة هدم المعارف السابقة والعمل على بناءها من جديد، و يقر بأن المعرفة مبناة وليست معطاة: نفهم من ذلك بأن الإنسان الحديث قد تولدت لديه رغبة في الثورة على المعارف والعلوم والفلسفات القديمة وصورة العالم القديم. وكذا العمل على بناء معارف جديدة تتصف باليقين وتتوخى توسل المنهج أثناء عملية البحث أو التأسيس، كما أن عبارة ديكارت "أعطني المادة والحركة أصنع لك العالم"، هي في جوهرها رغبة ملحة هدفها السيطرة على الطبيعة والتحكم في موجوداتها وتسخيرها لصالح الإنسان، قصد تسهيل حياته، إذ أصبح بذلك الإنسان" سيد ومالك الطبيعة". إن هذا كان تبشيرا بميلاد التقنية التي تعتبر نتيجة حتمية لتحقيق رغبة المعرفة التي تجتاح كيان وفكر الإنسان في العصر الحديث.

إذا كان الإنسان في المرحلة الحديثة قد اهتم بتحقيق رغبته في بناء المعرفة،  باتخاذ منهج سواء في نسخته التجريبية أو العقلانية، من أجل تحقيق رغبته في التحرر من هيمنة الطبيعة وتوظيفها لصالحه عبر إبداع التقنية، كما أن الإنسان في هذه المرحلة وتحديدا في القرن الثامن عشر والذي يطلق عليه "عصر الأنوار"، فإنه عمل على التخلص من "الوصاية" والتبعية الفكرية التي كانت تفرضها الكنيسة أو رجال السياسة. فمن هنا انبثق شعار هذا القرن المتمثل في الصيغة التالية " تجرأ على استخدام عقلك أنت": بمعنى أن تكون لدى الإنسان الشجاعة والجرأة على استخدام عقله دون أن يترك الفرصة والمجال لشخص آخر يفكر ويقرر بدلا عنه، أي أن يكون الإنسان مستقل الإرادة والتفكير، هذا ما يعبر عن رغبة الإنسان في الحرية والاستقلالية.

بالوصول إلى مرحلة العصر المعاصر فقد تزايد تهافت الإنسان على التقنية وتوظيفها في جميع مناحي الحياة، سواء تلك التي يتم توظيفها في المجال الحربي، أو الفلاحي، أو العلمي، أو الاقتصادي، أو المعلوماتي...إلخ ، فهذا الاستخدام المهول والمفرط للتقنية جعل الإنسان لا يستطيع الاستغناء عنها ومهووسا بها، فإذا كان الإنسان في السابق يرغب في التحرر من الطبيعة وتأتى له ذلك، فإنه قد سقط من جديد في أسر آخر، ذاك المتمثل في أسر التقنية، بمعنى أن التقنية تسيطر على الإنسان وتتحكم فيه. على إثر هذا الوضع الذي يحياه الإنسان المعاصر، ظهرت عدة فلسفات ترغب في تغيير هذا الواقع من خلال الدعوة إلى الثورة على مالكي وسائل الإنتاج، وعلى الطبقة البورجوازية التي تهدف من خلال تعميم التقنية، التحكم في الطبقة البلوريتارية  واستغلالها (الماركسية). وكذا ظهور فلسفات أخرى تدعو إلى ضرورة انتقاد العقل الحديث الذي كان وراء ظهور التقنية، أو ما يسميه الفيلسوف الألماني يورغين هابرماس " بالعقل الأداتي "، هذا الأخير الذي أدى إلى اندلاع حربين عالميتين في هذا العصر راح ضحيتها ملايين الأشخاص(مدرسة فرانكفورت).

إن هاتين الحربين كانتا بمثابة انحطاط وانتكاس عاد بالإنسان إلى حالة الطبيعة التي تقوم على الهمجية والعدوان.

الأمر الذي أدى بالإنسان المعاصر إلى فقدانه للثقة في العقل، إلا أن العديد من الفلاسفة المعاصرين سيعملون على استعادة هذة الثقة المفقودة، من خلال كتاباتهم الرامية إلى رفض الحرب والعنف بكل أشكاله، والتأسيس للقيم الأخلاقية الكونية التي من شأنها أن تجعل الناس يتعايشون مع بعضهم البعض من دون المساس بأمنهم ومصالحهم. ففي هذا العصر تعد الفلسفة رغبة إنسانية نبيلة تهدف إلى رفض كل أشكال العدوان من قبيل (الظلم، الاستعمار، الإرهاب، الدوغمائية، الإقصاء.... ).

قصارى القول أن الحاجة إلى الفلسفة كانت دائما جراء تحقيق رغبات الإنسان اللامتناهية، التي تكون نابعة من نقص يشكو منه، أو من خلال واقع متأزم يفرض عليه ضرورة البحث عن السبل الكفيلة لتخطيه، وكذا التجرد من المألوف.

يمكننا أن نقول أيضا بأن الفلسفة رغبة في انتقاد/تغيير ما هو كائن والسعي نحو التأسيس لما يجب أن يكون. ما دامت "الفلسفة توجد حيثما يوجد العنف" على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي إيريك فايل، بمعنى أنه في حالة وجود العنف، فإن الفيلسوف يرغب ويعمل على رفضه وتبديده، بهدف إحلال السلام محله، كما أن للفلسفة دور آخر يتجلى في تدبير الخلافات الإنسانية بطريقة عقلانية تقوم على الحوار وتقبل الآخر، لأن الفلسفة هي رغبة الإنسان في مد جسور التواصل البناء والهادف نظرا لاعتبارها أداة للحوار. لنصل في الأخير إلى القول:" نحن نتفلسف ﻷننا نرغب".

 

اسماعيل بوطاهر

....................

المراجع المعتمدة:

1- كتاب" لماذا نتفلسف؟".فرانسوا ليوتار.

2- كتاب" تعلم الحياة".لوك فيري.

3- كتاب" مع الفيلسوف".محمد ثابت الفندي.

4- "ما الأنوار؟" إيمانويل كانط.

 

في المثقف اليوم