قضايا

إدغار موران فيلسوف التعقيد والتركيب

حيدر جواد السهلاني"إذ أراد شخص البحث عن الحقيقة بجد، فيجب ألا يختار علماً معيناً، فالعلوم مرتبطة بعضها ببعض، ويستند بعضها إلى بعض، وليفكر في زيادة الاستنارة الطبيعية لعقله فحسب"... ديكارت

إدغار موران سيرة وفكر:

إدغار موران، واسمه الحقيقي (إدغار نعوم) عالم اجتماع وابستيمولوجي وفيلسوف فرنسي معاصر ولد عام 1921 في العاصمة الفرنسية باريس، من جذور يهودية ومن اصول يونانية، والدته ايطالية توفيت وهو في سنة العاشرة، يعتبر موران من المفكرين والفلاسفة الأحياء في القرن العشرين، وهو من كبار المفكرين الفرنسيين، حاصل على شهادة في التاريخ والقانون عام 1942، ويعد موران مفكر موسوعي تطرق في أبحاثة إلى مواضيع عدة كالتواصل والعلم والسينما والفن والإيكيولوجيا والموت والبحث السياسي والابستيمولوجيا والفلسفة. انخرط موران عام 1938 في حزب الجبهة، وهو حزب يساري كان مناهض للفاشية، وانخرط في المقاومة والقتال ضد النازية، برتبة ملازم، وفي عام 1949، أبتعد عن الحزب الشيوعي الفرنسي، وسرعان ما تحول عن الشيوعية ليؤلف كتاباً عام 1959 بعنوان نقد ذاتي، ينتقد فيه النهج الستاليني للحزب الشيوعي الفرنسي، وهذا الكتاب تعبير عن قطيعته مع الشيوعية. عمل موران في الصحافة وشغل منصب رئيس بحوث خبير في المركز الوطني للبحوث العلمية (1950- 1989)، وترأس الوكالة الأوربية للثقافة، في منظمة اليونسكو، حصل على جائزة شارل فيون الأوربية للبحوث عام 1987، وعلى الجائزة الدولية فياريجيو عام 1989، وعلى ميدالية مجلس النواب لجمهورية ايطاليا (اللجنة العلمية الدولية لمؤسسة بيومانزو)، وعلى جائزة ميديا للثقافة من جمعية الصحفيين الأوربيين عام 1992، وعلى جائزة كاتالونيا الدولية عام 1994. عرف موران بمواقفه المؤيدة لحق الفلسطينيين في إقامة دولة خاص بهم، وقد كتب مقال في صحيفة لوموند، وندد فيها بالسياسة الإسرائيلية، وفي عام 1955، كان موران من بين أربعة مثقفين فرنسيين منهم سارتر، أسسوا حركة تعارض حرب الجزائر، لكنه لم يوقع على بيان حق العصيان في حرب الجزائر المعروف ببيان (121) الذي نشر في عام 1960. موران مازال متابع عن كثب أحدث النظريات العلمية والفكرية والسياسية والأمور الصحية التي تحدث في العالم، وكأنه يقول إن الشباب العلم والبحث والتنقيب والتمحيص شباب دائم لا تقهره السنون، وموران متابع يقظ لما يحدث في العالم، فتكلم كثيراً عن الربيع العربي، وقد كتب مقال في صحيفة لوموند الفرنسية، قال فيه إن المفاهيم السياسية السائدة في العالم العربي سواء كانت بوليسية أمنية علمانية أو دينية تواجه رياح التغيير، وأن الديمقراطيات الغربية دعمت الاستبداد في العالم العربي، والعرب الذين أنهوا الاستعمار السياسي ، هم الآن بصدد إزالة الاستعمار الفكري، لتبقى عملية إزالة الاستعمار الاقتصادي. وتابع التغيير في فرنسا، وقضية كورونا وتداعياتها الصحية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. (1) وقد تأثر موران في مسيرته الفكرية بمجموعة من الفلاسفة خصص لهم كتابه الموسوم ب فلاسفتي، ونذكر أهمهم هيرقليطس الذي وجد فيه إجابه على كل تساؤلاته وتلبية لكل طموحاته، وأيضاً جان جاك روسو وسبينوزا وفولتير، ويتميز موران بمهاجمة الأفكار المبتذلة وبمقاومة ذهنية شبه بيولوجية، ولم يعمل موران على الاحتماء أي عنوان من عناوين كتبه التي تشكل في الغالب مساره الجامعي، بل بنى عملاً فكرياً اصيلاً، ويحاول أن يعطي للإنسان حياة وجسداً، ويوضعه من جديد في قلب رواية العالم الكبرى، وهنا على عكس ليفي شتراوس الذي يرى أن هدف علوم الإنسان ليس هو الكشف عن الإنسان بل تفكيكه، ويرى موران على الفكر أن يكون حوارياً، قادر على ترك التناقضات العائمة، وهي تتكامل وتتصارع، وإن الإنسان ليس فقط إنساناً عاقلاً أو صانعاً أو اقتصادياً، أن الإنسان مجنوناً كذلك. أن موران ليس فيلسوفاً فقط وإنما أيضاً مبتكر مفاهيم، والقارئ لأعمال موران سيجد خصوبة النظرية لتصوراته الموجودة في قلب التعقيد والتركيب. وقد ساهم في تجديد مقولاتنا الثقافية، وفي أحداث رؤية جديدة للعالم، لأن مصير هوية الإنسانية هو الذي أصبح محط رهان في الأزمة الكوكبية الحالية. وقد كرس حياته في البحث عن منهجية قادرة على تحدي التعقيد الذي يفرض نفسه حالياً، ليس على المعرفة العلمية فحسب، بل على مشاكلنا الإنسانية والاجتماعية والسياسية، أسس وترأس جمعية الفكر المعقد (Apc) ومن أهدافها دعم الأشكال المتنوعة للفكر التي تتيح الإجابة على تحدي التعقيد الذي يفرضه العالم، والمجتمع والكائن البشري على المعرفة العلمية والفلسفية والسياسية. (2)

- مؤلفاته، يقول موران" إني مؤلف غير خفي، واعني بذلك أنني أختلف مع أولئك الذين يختبئون وراء الموضوعية الظاهرة لأفكارهم، ويقول أن تكون مؤلفاً هو أن تتحمل مسؤولية أفكارك في السراء والضراء" (3) ومن أبرز مؤلفاته:

المنهج، يمثل كتاب المنهج بأجزائه الستة عمله الرئيسي الذي وضع فيه رؤيته الابستيمولوجية من خلال براديغم التعقيد فقد كان الهدف الأساسي من كتاب المنهج هو مساءلة المعرفة في معناها وطبيعتها وحدودها وعلاقاتها مع الواقع ومع الحقيقة وفي علاقة المعارف ببعضها ومحاولة الربط بينها استناداً إلى رؤية منهجية مركبة، الجزء الأول سنة 1977 طبيعة الطبيعة، وتبنى فيه وجهة نظر فيزيائية لدى معالجة مقولات النظام والفوضى والمنظومة والمعلومة، وفي الجزء الثاني 1980 حياة الحياة، ركز على العلاقة بين الفلسفة والبيولوجيا، اما الجزء الثالث 1986 معرفة المعرفة، عالج فيه مسألة المعرفة من زاوية أنثروبولوجية، الجزء الرابع 1991الأفكار تناول ظاهرة التعقيد في الفكر الفلسفي مركزاً على مقولات اللغة والمنطق والبردايغم، أما الجزء الخامس 2001 إنسانية الإنسانية الهوية الإنسانية، وعالج مسألة الهوية، الجزء السادس 2004 الأخلاق، يدرس فيه العلاقة القائمة بين المعرفة والواجب وبين الوعي الفكري والأخلاقي وبين الإرادة الأخلاقية والنتائج اللاأخلاقية، ويعتبر كتاب المنهج مؤسساً للفكر الحديث حاول فيه موران أن يستكشف العقل البشري المركب، وحلل عملية الوصول إلى المعرفة.

إلى أين يسير العالم ، صدر عام 2007، يحاول في هذا الكتاب التفكير من جديد في العلاقات القائمة بين الماضي والحاضر والمستقبل، من خلال التساؤل عن الجهة التي نسير فيها، وعن معنى الأزمة وعن قيمة الايديولوجية السياسية العتيقة أمام رهانات القرن الواحد والعشرون.

نحو سياسة حضارية، يعالج هذا الكتاب مشاكل نصادفها في صميم حياتنا اليومية حيث يتعلق الأمر بالاختلال والنواقص التي تعاني منها حضارتنا الإنسانية، وبالتالي كل ما يخص حاجياتنا وتطلعاتنا التي لم تعد مادية فحسب، لذا لابد من إعادة إحياء حياتنا الاجتماعية السياسية والفردية.

هل نسير إلى الهاوية، يسعى هذا الكتاب إلى وصف سيرورة العولمة ويصور أوجه التعقيد في السيرورات.

ومن مؤلفاته أيضاً، الإنسان والموت 1951، النقد الذاتي 1959، العلم بضمير 1982، التفكير في أوربا 1988، التعقيد البشري 1994، ذكاء التعقيد 1999، ربط المعرفة 1999، الحاجات المعرفية 2000، عنف العالم 2003، التعقيد المقيد والتعقيد العالم 2005، الثقافة والبربرية الأوربية 2005، الطريق لمستقبل البشري 2011، يوميات 2013، الأخلاق المعقدة 2004، علم الأزمات 2016.

الفلسفة والعلم:

الفلسفة وإن لم تكن علماً، فإنها تنظر للعلم وتتأسس عليه في آن واحد، وهي في مسارها التاريخي تطلب دائماً من علوم عصرها النموذج النظري الذي يؤسس قضاياها، لأن الطرح العلمي تأثيره على الاتجاهات الفلسفية، ونظر للعلاقة بين الفلسفة والعلم فإن الفلسفة تصبح بهذا المعنى مرادفة لتحليل الخطاب العلمي السائد، أي تأسيس على علوم عصرها، فهي في مجملها تتشكل في ضوء المعارف العلمية السائدة وتبنى عليها. ويرى البعض أنه بدأ الانفصال بين الفلسفة والعلم منذ القرنين السادس والسابع عشر الميلاديين، أذ شهد العلم تحولات كبيرة وطفرات نوعية منذ تلك الفترة، انتهت برسم صورة آلية ميكانيكية للعالم والتي اكتملت معالمها مع صياغة نيوتن لقوانين الفيزياء والميكانيك، وقد بدأ هذا التحول مع كوبرنيكوس الذي استخدم الحسابات البسيطة في علم الفلك، وأحدث ثورة زعزعت مركزية الإنسان والأرض، وأسهمت بشكل كبير في تقدم المعرفة العلمية. وقد تحقق هذا الانفصال في أوربا بفضل جهود نخبة من العلماء التجريبيون الذين طرحوا جانب المسائل الميتافيزيقية، إلى دراسة الوقائع التي تقع تحت مشاهدة دراسة موضوعية، لكن ورغم ذلك الانفصال الذي حدث بين الفلسفة والعلم، إلا أن النقاشات الفلسفية حول العلم ما انفكت تزداد مع تطور المطرد للعلم، لا سيما بعد الثورة العلمية وما أبرزته من تحولات في طبيعة المعرفة وبنية المعرفة العلمية، وتحاول الفلسفة أن تجد موقعها بالنسبة إلى العلم، ومن جهة ثانية تحاول استيعاب هذا التحول المعرفي والتفكير فيه ومساءلته. أذ الفلسفة هي التفكير والتأمل الذهني بالنسبة إلى الفلسفة والملاحظة والتجريب بالنسبة إلى العلم، ولكن ليس معناه الاعتقاد بأن لا وجود للتفكير والتأمل الذهني في النشاط العلمي، وبأن الفلسفة تزدري مبدئياً الملاحظة والتجريب، ذلك أن السمات المهيمنة في احدهما تكون خاضعة في الأخرى والعكس بالعكس، لذا لا توجد حدود طبيعية بينهما، يضاف إلى ذلك أن العصر الذهبي لانتعاش أحدهما ونشأة الآخر، كان قرن الفلاسفة العلماء (غاليلو وديكارت وباسكال وليبنتزا). ولاحظ بوبر فعلاً أن الفلسفة والعلم مهما تباعدا يعودان إلى التقليد النقدي ذاته الذي تعتبر ديمومته ضرورية لحياة كل منهما، وحتى بعد انفصال العلم عن الفلسفة لم ينقطع التواصل بينهما، وإنما تقلص فقط، فقد كان دائماً هناك تفكير فلسفي حول العلم يتجدد مع كل جيل بطريقة مبتكرة. (4) ويوكل موران إلى الفيلسوف مهمة حاسمة في عملية التعرف على الطبيعة البشرية وينسب إليه دور قائد الأوكسترا الذي يعمل على استدعاء جميع المعارف من الفيزياء وعلم التشريح وعلوم الاعصاب إلى الميثولوجيا وديانات الخلاص والسوسيولوجيا والاقتصاد السياسي، حتى يتثقف منها ويغتني أكثر وحتى تتوفر لديه الخطة الكافية لإدماج المفاهيم والمناهج، بغية معالجة المشكل الإنسي والتمكن من الربط بين الحدث الجزئي والفكرة الشمولية وتفهم الحي في الحياة والإنساني في الإنسانية من خلال فكرة المتعقد الذي سماه معرفة المعرفة. (5)

التعقيد:

يعني التعقيد مجموعة من المفاهيم التي تحاول تفسير ظواهر لا يمكن تفسيرها استناداً إلى نظريات التقليدية الكلاسيكية، وبالتالي فإن فكر التعقيد يستند على دراسة المجموعات الديناميكية، لا عن طريق تقسيمها إلى أجزاء، ولكن من خلال متابعة تفاعلات مختلفة الأجزاء فيما بينها. ويعرف موران " التعقيد هو نسيج من المكونات المتنافرة المجمعة بشكل يتعذر معه التفريق بينها، إنه يطرح مفارقة الواحد والمتعدد، ثانياً إن التعقيد هو نسيج من الأحداث والأفعال والتفاعلات والارتدادات والتحديدات والمصادفات التي تشكل عالمنا الظاهراتي، لكن في هذه الحالة يحمل التعقيد بشكل مقلق سمات الخليط وغير القابل للفصل والاختلال والغموض واللايقين. (6) وفي نظر موران أن صعوبة التعقيد هو عدم وجود سند ابستيمولوجي للمفهوم، بسبب اهمال الفلاسفة والعلماء لهذا المصطلح، وينظر موران إلى مفهوم التعقيد لا باعتباره مفهوم يبحث عن مجال دلالي بل ينبغي أن نبحث عن حل لها، مشكلة التعقيد تحيلنا دائماً إلى الاعراب عن الاضطراب التشويش وعدم اليقين وعدم القدرة على التحديد. والتعقيد لا يمكن اختزاله في اللايقين، بل التعقيد هو ذاته اللايقين، وهذا التعقيد في نظر موران يمثل بالنسبة إلى المعرفة خطورة وفرصة، ولكن لا يكون فرصة إلا بالاعتراف به ، والمعرفة المعقدة هي بالضبط ما يؤدي إلى هذا الاعتراف، لأنها تؤدي إلى اكتشاف هذه اللايقينيات وإلى التصحيح الأخطاء، والتعقيد يروم دائماً إلى الانطلاق من البسيط إلى المركب بل من المركب إلى الأشد تركيباً وتعقيداً، كما أن التعقيد ليس توصيفاً للمعرفة العلمية ولا هو جواباً يقدمه عن المعرفة، بقدر ما هو طريقة أو منهج معرفي يسمح بدراسة مختلف الارتباطات بين مختلف المعرفة ويولد فهماً أفضل للكون، ومن ثم المضي قدماً في بناء المعرفة العلمية وتفسيرها وتحديثها للقضاء على الحالة المرضية للمعرفة الإنسانية. ويرى موران أنه مازلنا في حالة عماء اتجاه مشكلة التعقيد وهذا العماء هو جزء من همجيتنا، فمازلنا في عصر الأفكار الوحشية والعقل البشري مازال في عصر ما قبل التاريخ، إن الفكر المعقد وحد يسمح لنا بتمدين معارفنا، والتعقيد يفتح أبواب المشاركة بين العلماء وفي مختلف التخصصات، لأن التقسيم الكلاسيكي للمعرفة إلى فروع إنما هو تحريف لبنية المعرفة، والذي كان نتيجة للمبدأ الديكارتي القائم على الانفصال بين الفكر والمادة، والذي ترجم في ميدان العلم إلى التخصص، ثم إلى التخصص الدقيق في ميادين المعرفة، ولاشك أن هكذا تقسيم من شأنه أن يقف عائقاً أمام التقدم العلمي ويمنع أي تكامل بين المعارف، حيث أن الانفصال بين المعارف وانعزالها عن بعضها البعض راح يفضي إلى نشوء فراغات هائلة فيما بينها، وهو ما أدى إلى حجبنا عن إدراك عدد من الوقائع والمشاكل الأساسية والحيوية، ومن المعلوم أن العلوم لا تتقدم إلا بعد تحطيم الحواجز بينها، لأن كسر هذه الحواجز هو ما يمكن كل علم من أن يستفيد من العلوم الأخرى. وقد أخذ موران على عاتقه إصلاح الفكر انطلاقاً من بردايغم التعقيد، ويتضمن البردايغم جميع الخطابات التي تتم في مملكة المفاهيم الأساسية أو المقولات الكبرى، كما يتضمن نوع العلاقات المنطقية في التجاذب أو التنافر، أذ البردايغم ذو طبيعة دلالية منطقية إيديولوجية دلالية ويحدد البردايغم التعقل ثم يحدد المعنى منطقياً، وأن بردايغم التعقيد ينبغي أن يأخذ في الاعتبار كل ما هو موجود من أصغر الأشياء إلى أكبرها بما في ذلك الإنسان باعتباره كائن معقد، ومن ثم ينبغي على البردايغم التعقيد تجاوز ديكارت وكل مناهج وأدوات العلم الكلاسيكي، وينبغي على الفيلسوف اليوم أن يمتلك فكراً معقداً، أي غير مبسط وغير اختزالي وغير قابل للرد إلى مجموعة من العناصر الأولية، كما ينبغي عليه في الوقت أن يدرك أهمية الربط والعلاقات والتمفصلات بين مختلف الأجزاء والعناصر. أن موران يضع مفهوم التعقيد في إطار معارفه للنموذج المعرفي الذي تمت صياغته خاصة مع ديكارت ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالشك وعدم اليقين من خلال المحاور الأربعة التي يتمحور حولها التفكير المعقد وهي النظام والفوضى والتنظيم والتفاعل. ويكمن التعقيد كما يرى موران:

1- أنه الكمية القصوى للتفاعلات والتداخلات والارتدادات بين عدد كبير من الوحدات.

2- إنه هو الحوارية بين الاستقرار والاختلال والتنظيم.

3- إنه قراءة في تكامل وتصارع اليقين واللايقين، الواحد والمتعدد، الجزء والكل، الثابت والمختل، المستقر والدينامي، الحتمي والصدفوي، المعروف والممكن.

4- إن فكرته الأساسية لا تكمن في القول بأن جوهر العالم معقد وليس بسيطاً، وإنما في القول بأن هذا الجوهر غير قابل للتمثل.

5- إن أفقه هو دائماً إدانة ميتافيزيقا النظام، وميتافيزيقا رفض النظام أيضاً. (7)

وتمثل فكرة التعقيد بالنسبة لموران، أولاً التحدي لا الجواب، أذ أن موران يبحث عن إمكانية التفكير عبر التعقيد ( أي التفاعلات الارتدادية العديدة) وعبر اللايقينيات وعبر التناقضات، لأن فكرة التعقيد تشتمل على اللاكمال بما أنها تضم اللايقين والاعتراف بما لا يقبل الاختزال، وثانياً إن التبسيط ضروري ولكن يجب تنسيبه، أي قبول الاختزال الواعي كاختزال، وليس الاختزال المغرور الذي يظن أنه يمتلك الحقيقة البسيطة الكامنة وراء التعددية والتعقيد الظاهر للأشياء. (8)

ابستيمولوجيا التعقيد:

تحاول ابستيمولوجيا التعقيد إعادة رسم خريطة المعرفة الإنسانية، فإنها في الآن ذاته تحاول أن تؤسس خطاباً جديداً حولها يستند على عنصر التعقيد والتركيب، وأما من حيث نتائجها فقد أبرزت الطابع المركب والمعقد للمعرفة العلمية المعاصرة وعملت بما أبدعته من مفاهيم ورؤى على تجاوز الابستيمولوجيا الكلاسيكية التي قامت على أساس الاختزال والتبسيط مع ما نتج عنهما من عمى معرفي. ويرى موران أن الابستيمولوجية تعد أكثر من ثورة كوبرنيكية فهي تساعد على تمفصل وتنظيم جديد للمعرفة، من حيث هي تهتم بنتائج العلوم ومشاكلها المتعلقة بالمعرفة، وتتأثر بهذه المشاكل وتتعرض للأثر الرجعي للمرجعيات التي تتحكم بها والتي ستحكم بها، إن معرفة المعرفة منوطة بالمعارف العلمية العديدة والمشتتة. وقد جاءت ابستيمولوجيا موران ضمن سياق التطور العلمي، وهي بذلك فهي تعبيراً عن التطورات التي عرفتها المعرفة العلمية ومن هنا تستمد مشروعيتها من واقع الفكر العلمي، والذي شهد تشظي المعرفة العلمية وتجزئتها إلى تخصصات وفروع كثيرة حتى داخل التخصص الواحد، والابستيمولوجيا التي طرحها موران تنصب في مجملها في منحى واحد هو منحى التعقيد، وابستيمولوجيا التعقيد هي ابستيمولوجيا بناءة وخطابها متجدد ومتطور بتطور المعارف العلمية، والابستيمولوجيا عند موران منفتحة وتحاول إيجاد روابط بين كل العلوم وعلى اختلافها وبارتباطها وتكاملها ويمكنها أن تقتحم المعقد والمركب، وهي تؤمن بالبناء المستمر للعلم. وهي عكس الابستيمولوجيا الكلاسيكية التي نذرت لنقد شروط المعرفة العلمية وطرقها، إنها تفحص صلاحية أشكال الشرح ووجاهة الأشكال المنطقية للاستدلال وشروط استعمال المفاهيم والرموز، ومع أن هذه الابستيمولوجيا ترفض فحص النتائج أي المعارف العلمية بحد ذاتها، فإنها تنصب ذاتها كمحكمة خارجية وداخلية تنظر في قضية العلم وتستطيع إحالتها إلى محكمة النقض لأنها خرقت الأصول. وتهتم الابستيمولوجيا بنتائج العلوم ومشاكلها المتعلقة بالمعرفة، فإنها تتأثر بهذه النتائج والمشاكل وتتعرض للأثر الرجعي للمرجعيات التي تتحكم بها والتي بذلك ستتحكم بها. ويرى موران أن الابستيمولوجيا المعقدة، أحدثت ثورة ليس فقط كوبرنيكية بل ثورة هوبلية في الابستيمولوجيا، فلقد أظهر كابل أن الكون لا مركز له وأن الابستيمولوجيا المركبة لا أساس لها، والابستيمولوجيا المعقدة تسأل المعارف العلمية وغير العلمية، وهي تبني وجهة نظر عقلانية إلا أنها لا تستطيع رفض المعارف الغير عقلانية ونزع صفة المعارف عنها، وهي تبقى المحصلة، لأنها تبقى إشكالية الحقيقة مفتوحة على الدوام، ويترتب عليها أن تفكر في كل معرفة تظن أنها حقيقة، وفي كل مرة ادعاء يتعلق بالمعرفة وفي كل معرفة كاذبة أي في الخطأ والوهم والجهل أيضاً. (9) وتقوم ابستيمولوجيا التعقيد على ثلاثة أسس أو مبادئ وهي:

1- مبدأ السببية الدائرية، وهو مبدأ يتجه إلى طبيعة العلاقات بين مكونات المنظومات المعقدة، وطبقاً لهذا المبدأ هناك تبادل مستمر للأدوار بين الأسباب (العلل) والنتائج (المعلولات)، إنها عملية متبادلة تكون فيه التأثيرات والنتائج مسببة ومنتجة في العملية ذاتها، وتكون فيها المراحل النهائية ضرورية لتوليد المراحل الأولى أذاً أنها عملية تنتج نفسها وتعيد إنتاج نفسها.

2- مبدأ الحوارية، يعرفها موران بأنها وحدة معقدة بين منطقيين وكيانين متنافسين ومتعارضين يتغذى أحدهما على الآخر، ويكملان بعضهما لكنهما يتعارضان ويتحاربان أيضاً، وينبغي تميز هذه الحوارية عن الجدلية الهيجلية، فلدى هيجل تجد المتناقضات حلولاً لها، ويتجاوز بعضها البعض، ويلغي بعضها بعضاً داخلة وحدة عليا، أما في الحوارية تكون المتناقضات دائمة وتشكل كيانات أو ظواهر معقدة، وبذلك تختلف الحوارية عن الجدل، على اعتبار أن الجدل يوجد حل للتناقضات عن طريق المركب الذي أما أن يجمع بين المتناقضين أو تجاوز أحدهما، بينما في الحوارية يتكامل المتناقضات ويتعايشان، وبذلك أن المنطق المعاصر للعلم يرى ضرورة الحوار بين المتناقضات والاستفادة منها.

3- مبدأ الهولوغرامية، هومصطلح نحت من قبل جان كريستيان (1870- 1950) من جنوب افريقا في كتابه الكلانية والتطور عام 1929، ويؤكد هذا المبدأ على ما يسمى بالاحتواء المتبادل بين الجزء والكل، ويرى موران لا تستطيع معرفة الكل من دون معرفة الأجزاء، والنظر إلى دوائر الدائرة يتم من خلال مركز الدائرة، وكل الدوائر الأخرى هي نتاج حركة هذا المركز، أي الجزء هو الذي يحرك الكل والكل يتماهى مع الجزء.

المعرفة:

أن مسألة المعرفة هي قضية تنظيمية وهي صياغة حوار بين مختلف العلوم عبر مناهج منطقية، وأن غياب هذا التفاعل بين المعارف هو عقبة حقيقية أمام العلم المعاصر، والتفكير العلمي في مجمله، والمعرفة تقوم على مستوين، الأول المعرفة التجريبية والعلمية والتي تنتج بفضل الملاحظة والتحقيق التجريبي تقوم على البيانات الرياضية والموضوعية، وهذا المستوى يدفع إلى نظريات تعكس حقيقة الواقع. الثاني المعرفة التي تستند على المنطق والاتساق والحقيقة القائمة على تنظيم الأفكار. ويجب على المعرفة اليوم أن تمتلك الأدوات والمفاهيم الأساسية التي تتيح الربط والتجميع، لأن تحدي التعقيد يستلزم التفكير في فكر مركب يأخذ في الاعتبار عدم اليقين والاضطراب والفوضى، هذا الفكر الذي يمكنه أن يجمع كل فرع من فروع المعرفة مع غيره من الفروع الأخرى دون أن يختزل أحدهما في الآخر، ويسمح لتنظيم المعرفة بتكوين نسق الأفكار، وهذا النسق يعبر عنه موران بأنه جملة المفاهيم المترابطة بشكل عفوي، ويتم تنسيقها بواسطة الروابط المنطقية كموجب الأوليات والمسلمات. أن المعرفة الإنسانية من خصائصها أنها متطورة باستمرار وفي كل مرحلة من مراحل تطورها تفتح للفكر أفاقاً، أوسع لينتج خطاب حولها، وهو في الأغلب خطاب نقدي. وقد سعى موران إلى تحرير المعرفة العلمية من التبسيط والاختزال اللذان تسلطا على هذه المعرفة بدءاً من الفلسفة الديكارتية وحتى اكتمال معالم بناء النظرية الفيزيائية الكلاسيكية مع نيوتن، وقد جعل الاعتقاد بمعرفة كاملة وموضوعية غير أن التطورات التي شهدها العلم المعاصر تحدث هذه الصورة المبسطة الاختزالية لتحل محلها فكرة التعقيد كنتيجة من نتائج هاينزنبرك في اللاتحديد. (10) أن المعرفة ليست جزيرة نائية، إنها شبه جزيرة، ولكي تدركها لابد من ربطها بالقارة التي تنتمي إليها، ولأن كان فعل المعرفة هو في آن بيولوجي ودماغي وعقلي ومنطقي وألسني وثقافي واجتماعي وتاريخي، أذ المعرفة لا تنسلخ عن الحياة البشرية والأواصر الاجتماعية. ونحتاج اليوم إلى معرفة تفكر في ذاتها وإلى أن تعترف وتحد إمكانها وإشكاليتها، فلا معرفة دون معرفة المعرفة. والمعرفة العقلية هي المعرفة الإنسانية الخالصة، وهي الانبثاق الأقصى لتطور دماغي يكتمل فيه التطور البيولوجي للإنسنة. والمعرفة ضرورية فلا يستطيع الإنسان أن يعيش في بيئة معينة إلا بمعرفة هذه البيئة، ولا يمكن للحياة أن تكون قابلة للبقاء والعيش من دون معرفة. (11) ويسعى موران إلى أن تكون المعرفة أكثر علمية وأكثر فلسفية وأكثر شاعرية، وتكون المعرفة عند موران:

1- المعرفة تقر بان الكائن البشري الذي يدرسها هو جزء من موضوعها.

2- المعرفة لا تفصل بين الوحدة البشرية وتنوعها.

3- المعرفة تدرك جميع أبعاد الواقع الإنساني أو جوانبه المنفصلة والمقسمة في الوقت الحاضر إلى فيزيائية وبيولوجية ونفسية واجتماعية وميثولوجية واقتصادية وتاريخية.

4- المعرفة تدرك أن الإنسان ليس بعاقل أو عامل، بل هو أيضاً مجنوناً.

5- المعرفة تضم حقائق منفصلة تقصي أحداها الأخرى.

6- المعرفة تجمع بين البعد العلمي (أي التحقق من البيانات، ومبدأ الفرضية وقبول إمكانية الدحض) والبعدين الابستيمولوجيا والإدراكي.

7- المعرفة تعيد المغزى لكلمات تلاشت وبطل استعمالها في العلوم، ومن ضمنها العلوم الإدراكية مثل الروح والذهن والفكر. (12)

الفكر المركب:

أن الفكر البسيط يحل المشاكل البسيطة، أما الفكر المركب فهو لا يحل المشاكل من تلقاء ذاته، لكنه يساعد على إيجاد الاستراتيجية القادرة على حلها، وأن ما يمكن أن يقوم به الفكر المركب هو منح كل واحد من أجندة تذكرنا ب لا تنسى أن الواقع متحول، ولا تنسى أنه بإمكان الجديد أن ينبعث، وفي كل الحالات أنه ينبعث، ويشكل الفكر المركب نقطة انطلاق نحو فعل أكثر ثراء وأقل تشويهاً، أذ كل فكر بقدر ما يكون أقل تشويهاً، بقدر ما سيقل تشويهه للبشر، ويرى موران أنه يجب أن نتذكر أنواع الخراب التي أحدثتها الرؤية التبسيطية ليس فقط في العالم الفكري، ولكن أيضاً في الحياة، فكثير من المعاناة التي يخضع لها ملايين من البشر بسببها الفكر المقطع والأحادي البعد. والفكر المركب عند موران، ليس بالضرورة أن يكون نقيض الحقيقة خاطئ، بل يمكن أن يكون نقيض الحقيقة، حقيقة أخرى فالإنسان سطحي التفكير ولا يدرك أعماق المعارف، لذلك هو يعتقد أن ما لديه حقيقة وغير ذلك لا يعجبه فيقصيه، فيكون في العقل اللاواعي معيار الحقيقة، هو ما لدينا هنا من مركزية العقل الفردي وأحادي التفكير وهنا يجب نبذ ذلك والانتقال إلى الفكر المركب الذي ينفي المركزية ويبحث عن التواصل والاتصال وقبول الآخر، فالفكر المركب يروم تجاوز قصور الفكر، لكونه طاقة مبدعة وقوة عاقلة، تملك القدرة على ترجمة الواقع إلى الفكر، أو معرفة تامة يقينية، وإصلاح عطب الفكر. أن مهمة الفكر المركب هي تغيير هوية العالم، وتغيير العالم هو أساس التغيير في أدوات فهم العالم التي لا توجد في أي علم، أو لا توجد في العلوم المقطعة والمفصولة عن بعضها البعض، ومن ثمة لن يكون الفكر المركب لا الفيزياء ولا البيولوجيا ولا الكيمياء ولا علم الاجتماع، أن الفكر المركب هو مجموعة هذه العلوم وقد توحدت في أفق ومشروع واحد هو أفق التعقيد. (13)

الأزمة:

الكريزيولوجيا (Crisiologie) أو علم الأزمات، وهو مصطلح نحته موران ليكشف به عن المستنقع الذي وقع فيه البشر في نهاية القرن العشرين نتيجة الحروب والتلوث والتقدم التقني السريع وتكاثر الأمراض وتغير نمط الحياة على الأرض، وقد نبه إلى وجود خطرين يهددان حياة الإنسان هما الفوضى والنظام. (14) ويرى موران أن مفهوم الأزمة لا يظهر فقط عند حدوث انكسار داخل اتصال، أو عند حصول زعزعة داخل نسق كان يبدو ثابتاً، لكنها تظهر أيضاً عندما تتكاثر الاحتمالات وبالتالي التقلبات، إنها تظهر بفعل انقلاب التكاملات إلى عداوات، وعند تحول الانحرافات السريعة إلى نزعات وعند تسارع مسارات مهدمة ومفككة، وعند حدوث قطيعة في صلب التنظيمات، وبالتالي عند اجتياح مسارات منفعلة من كل رقابة وميالة إلى التضخم الذاتي أو إلى التصادم القوي مع مسارات عدائية أخرى تنفلت هي نفسها من كل رقابة. وأن مفهوم الأزمة قد اصبح نمط وجود مجتمعاتنا، وفكرة كون التقدم يحمل في نفسه خاصية أزماتية، أن أزمة الحضارة، وفيما يخص المجتمعات الغربية، وأزمة الثقافة والقيم والعائلة والدولة والحياة الحضرية والحياة الفردية، هي جوانب متعددة لكيان مجتمعاتنا الذي يبدو كياناً مأزوماً، وهي مجتمعات تهددها هذه الأزمة لكنها مجتمعات تتغذى منها. ومع ذلك يرى موران إن الأزمات هي التي تسبب انطلاق الحقائق من الاعماق بعد أن كانت مختبئة في الكائنات والمجتمعات ففي الأزمات تظهر بشائر التطورات المستقبلية. (15)

 

حيدر جواد السهلاني

.......................

الهوامش:

1- ينظر إدغار موران: المنهج معرفة المعرفة (أنثروبولوجيا المعرفة،ج3)، ترجمة جمال شحيد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ص11- 12.

2- ينظر إدغار موران: إلى أين يسير العالم، ترجمة أحمد العلمي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ص5- 7.

3- ينظر إدغار موران: الفكر والمستقبل (مدخل إلى الفكر المركب)، ترجمة أحمد القصوار ومنير الحجوجي، دار توبقال للنشر، المغرب، ص115.

4- ينظر المصدر نفسه، ص15- 16- 31. وأيضاً إدغار موران: المنهج معرفة المعرفة، ص35- 36.

5- ينظر زهير الخويلدي: تعقد الطبيعة البشرية عند إدغار موران، ضمن موسوعة الفلسفة الغربية المعاصرة، أشراف علي عبود المحمداوي، منشورات الاختلاف، الجزائر، منشورات ضفاف، بيروت، ص1406.

6- ينظر إدغار موران: الفكر والمستقبل، ص17.

7- ينظر المصدر نفسه، ص6- 7- 8.

8- ينظر المصدر نفسه، ص101- 102.

9- ينظر إدغار موران: المنهج معرفة المعرفة، ص40- 41- 42.

10- ينظر إدغار موران: الفكر والمستقبل، ص181.

11- ينظر إدغار موران: المنهج معرفة المعرفة، ص33- 44.

12- ينظر إدغار موران: النهج إنسانية البشرية (الهوية البشرية)، ترجمة هناء صبحي، كلمة، أبو ظبي، ص24.

13- ينظر إدغار موران: الفكر والمستقبل، ص83.

14- ينظر زهير الخويلدي: تعقد الطبيعة البشرية عند إدغار موران، ص1408.

15- ينظر إدغار موران: إلى أين يسير العالم، ص24- 25.

 

 

في المثقف اليوم