قضايا

نحو ثقافة علمية راشدة.. أمة تحب العلم وتحترم العلماء

حاتم السرويعندما أقرأ في سير وتراجم العلماء الغربيين الكبار الذين أثروا مسيرة الحضارة الإنسانية أكون مستمتعًا وحزينًا في الوقت نفسه.

مستمتعًا بالمعلومات التي أحصل عليها والتي تقفز بوعيي نحو الأعلى والأقوى، وبفضلها يتسع إدراكي وتزداد ثقافتي، ومستمتعًا بالقيم التي قامت عليها عظمة أولئك النفر، بقيمة احترام العقل عند أرسطو، وذم التقليد والاستناد الخالص إلى التجربة العملية عند جاليليو جاليلي.

جاليليو الذي نتمنى أن يبرز في عالمنا العربي رجل مثله، إنه العالم الإيطالي الذي عاش بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، والذي توقف عن دراسته الجامعية لأسباب مالية، فهل أوقف الفقر مسيرته؟ هل استسلم بعد أن قطع شوطًا كبيرًا في التعليم ثم ألجأته الفاقة إلى قطع المسيرة؟ لا، لم يستسلم، وبكل عزيمةٍ ومضاء راح يواصل تعليم نفسه بنفسه، حتى اعترفت الجامعة بفضله وتم تعيينه مدرسًا.

 ولا أدري لماذا لا نساعد النابهين من أبنائنا في المجالات العلمية، لماذا لا نهتم إلا بالفنانين وأخبارهم؟ وهل ستقوم حضارتنا التي نأمل فيها أن تقوم (بالفن وحده)؟! لماذا عندما انهار الاتحاد السوفيتي ذهب علماؤه للولايات المتحدة واستقبلنا نحن الراقصات ولاعبات السيرك وبائعات الهوى؟.

جاليليو لم يكمل تعليمه ولكن عبقريته فرضت نفسها على أمة كانت ولا تزال تحترم العباقرة، بل إنه بعد أن حصل على وظيفته بالجامعة وجد فرصة أرحب وأفضل في كلية (بادو) فقام بالتدريس فيها ، وفي تلك المرحلة أنتج أعظم أعماله العلمية.

وكانت له إنجازات عظيمة في الميكانيكا، وكشف أمام العالم أن (أرسطو) على جلالة قدره يمكن أن يخطئ لأنه بشر، هكذا بكل بساطة، ألم يقل أرسطو أن الأشياء الثقيلة يكون سقوطها إلى الأرض أسرع من الأشياء الأقل ثقلًا؟؟ نعم قال ذلك، وسار خلفه العلماء مئات السنين، وبعد قيامه بالتجارب العلمية اكتشف جاليليو أن أرسطو جانبه الصواب؛ ذلك أن سرعة سقوط الأجسام الخفيفة والثقيلة واحدة إلا إذا.. إلا إذا تدخل في الأمر احتكاكها بالهواء.

والجميل والجديد في تجارب هذا العالم الجليل أنه وضع لها القواعد الرياضية التي تصف حركة سقوط الأجسام وسرعتها، وجميلٌ أيضًا اكتشافه لقانون القصور الذاتي؛ فقد آمن الناس ولم يؤمن هو بأن الجسم تظل حركته تقل تدريجيًا إلا إذا تدخلت قوى أخرى ودفعته للحركة.

لكن الجليل جاليلي اكتشف العكس! فالجسم يظل متحركًا إلى ما لا نهاية ما لم يعترضه جسم آخر، أو أي عامل من شاكلة الاحتكاك بالأرض أو بالهواء، وهذا لم يكن مجرد اكتشاف؛ فقد كانت له قوة جعلت نيوتن يجعله القانون الأول للحركة، قانون القصور الذاتي.

ورغم فاعلية هذه الاكتشافات فقد كانت لجاليليو اكتشافات أعظم منها، انها اكتشافاته الفلكية؛ فهو الذي أكد أن العالم البولندي كوبرنيكوس كان على حق وأن الشمس هي مركز عالمنا والأرض حولها تدور، وعندما سمع باختراع التلسكوب في هولندا عمل فورًا على استخدامه بل وتعديله، وبفضله عرف جاليليو الكثير واهتدى إلى معلومات عظيمة غيرت مسار البشرية العلمي.

فالقمر ليس جسمًا مستويًا ولا كامل الاستدارة، وإنما هو كالأرض التي نعيش عليها فيه الوديان والصخور والمرتفعات، وسمع الناس يقولون "الطريق اللبني في السماء" أو Milky way فلم يجد طريقًا ولا وجد لبنا ! فقط رأى مجموعة لا نهائية من النجوم، وهي بعيدة جدًا لا تدركها العين.

ونظر إلى الكواكب فعلم أن كوكب زحل تلفه دوائر، ورأى حول كوكب المشترى أربعة أقمار، وبذلك أرشدنا إلى إمكانية وجود أقمار أخرى تدور حول كواكب أخرى غير أرض.

ويعود الفضل إلى جاليليو في التمكين أكثر فأكثر لمفهوم الاستقراء العلمي والتجريب ورفض ما يقوله الناس طالما قالت الحقائق العلمية بخلافه، ورغم خلافه العميق مع كنيسة روما الكبرى أو (الفاتيكان) وهي المرجعية الأولى والأهم لكل مسيحيي العالم من طائفة الكاثوليك والتي رفضت وجرمت القول بدوران الأرض حول الشمس؛ فإنه لم يعلن إلحاده ولا فكر في هذا الإلحاد أصلًا؛ ببساطة لأنه يمكن الجمع بين الثقافة العلمية وبين الإيمان، واستمر جاليليو في أداء شعائره وعباداته حسب الدين الذي نشأ عليه.

وهناك من العلماء في أوروبا من لا يقل أهمية عن جاليليو؛ ومنهم على سبيل المثال (لوي داجير) هل تعرفونه؟ إنه مخترع التصوير الفوتوغرافي... لا لا، أرجوكم لا تقولوا أن التصوير أقل أهمية من الفلك والفيزياء.. تعالوا معي لتعرفوا قيمة الصورة وقامة (لوي داجير).

ولكن قبل ذلك أذكركم بما يلي:

لاشك أن الاختراع هو أصل التقدم والعمود الفقري لعملية التحديث؛ والحضارة الغربية هي بالأصالة حضارة صناعية، ولا تصنيع دون ابتكار، كما أنه لا يوجد ابتكار بغير اختراع، والفارق بين الاختراع والابتكار أن الاختراع هو التصميم النظري القائم على البحث العلمي، أما الابتكار فهو التنفيذ العملي، وفي هذا المقال نذكر لكم مثالًا ونموذجًا على أهمية البحث العلمي ودوره في إحداث واحد من أهم الاختراعات التي نقلت البشرية إلى الأمام وغيرت مجرى الحضارة.

نعم غيرت مجرى الحضارة؛ فهل يخلو بيت من ألبوم أو ألبومات صور؟ وهل يخلو بيت من صورة شخصية لرب الأسرة وكبير العائلة وللأعزاء على القلوب، آباءً كانوا أو إخوة... إلى آخره؟ بل نتسائل: هل تخلو مجلة أو صحيفة من صور توضع بين يدي المقالات والأخبار؟ لا تخلو بالقطع؛ بل إن للتصوير فيها قسمٌ خاص.

فإذا كان للتصوير الفوتوغرافي كل هذا الانتشار، وإذا كانت الصورة لابد منها لبطاقة الهوية وجوازات السفر؛ فمن تراه الذي عمل على اختراع التصوير الفوتوغرافي؟.

لوي داجير.. هذا هو الشخص الذي عمل على  تطوير اختراع التصوير الفوتوغرافي منذ عام 1830، يااااه إنه عهد مبكر للغاية، نعم فنحن نتكلم عن القرن التاسع عشر، 190 سنة هي عمر التصوير الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وداجير كان عمره حينها 43 سنة؛ فقد ولد عام 1787م وتوفي عام 1851.

كان ميلاد (لوي) في مدينة (كورجي) شمالي فرنسا، وقد بدأ حياته رسامًا، وعندما وصل إلى الثلاثين من عمره اخترع طريقة لعرض اللوحات مستعينًا بأسلوب خاص في الإضاءة، وإذ كان مشغولًا بهذا الفن فقد حاول أن ينقل مناظر الطبيعة آليًا أي بدون رسمها.

وعلى هذا فقد حاول أن يخترع (الكاميرا) وفشل، ولكنه لم يعرف اليأس، ومنذ متى كان العباقرة يعرفون اليأس؟ ولأنه كان من أصحاب الهمم والعزائم فقد أعانه القدر بأن قابله بصديقه (جوزيف نيبس) عام 1827م، وكان هذا الرجل يحاول اختراع كاميرا وقد حالفه التوفيق إلى حدٍ ما.

فأصبح داجير ونيبس صديقين، وبعد لقائهما بفترة قررا أن يعملا معًا، وشرع داجير في تطوير اختراع الكاميرا  منذ عام 1830 على ما أسلفنا، وبعد هذا التاريخ بثلاثة أعوام توفي (نيبس) وصمم داجير على المضي قدمًا في محاولاته، وأخيرًا نجح في عام 1837 أي بعد أربع سنوات من وفاة صديقه في ابتكار نظام عملي للتصوير الفوتوغرافي (نظام داجير).

وفي عام 1839 لم يكن قد سجل اختراعه بعد ولم يأخذ براءته ولكنه عرض محاولاته في العلن، وقررت الحكومة الفرنسية معاشًا سنويًا له، ولاقى اختراعه اهتمامًا عالميًا كبيرا وصدىً واسعا، ونظر الناس إلى داجير بوصفه (بطل هذا العصر) وسعت إليه الألقاب، وأقيمت له حفلات للتكريم في كل مدن فرنسا، أو فلنقل في كثيرٍ منها، وبعد هذا المجد خلد لوي داجير إلى الراحة واعتزل الحياة العلمية، وفي سنة 1851 رحل عن عالمنا مخلفًا وراءه اختراعًا في غاية الأهمية.

ورغم القفزات التي حدثت فيما بعد للتصوير الفوتوغرافي والسينمائي لكن الفضل يرجع أولًا إلى داجير، ويرى بعض المؤرخين أن مكانة صديقه (جوزيف نيبس) لا تقل عنه بحال؛ فقد اكتشف مادة إذا وضعناها على ورقة في كاميرا وفتحنا هذه الكاميرا ودخل الضوء من خلال إحدى العدسات فإن الكاميرا تطبع الصورة على هذه الورقة، لكن لا يسعنا إلا الإشادة بداجير ومجهوده الرائع في اختراع الكاميرا.

وكاميرا داجير على أهميتها بدائية في الواقع؛ فقد اهتدى العالم البريطاني (تاليوت) إلى أسلوب أرقى وهو التقاط النيجاتيف ثم تحميض الصورة وطبعها على النحو الذي عرفناه وظل متبعًا حتى أوشك أن يصبح بدائيًا هو الآخر بعد اختراع الكاميرا الديجيتال، وأسلوب تايلوت لطالما شاهدناه في أفلام السينما، وفي بعض المشاهد الكوميدية نرى جيران المصور يخافون الاقتراب من غرفته بسبب الضوء الأحمر الخافت المنبعث منها ثم تخرج ضحكاتنا على رد فعل الجيران عندما يكتشفون أن الغرفة هي غرفة مصور فوتوغرافي، ولم نعرف حينها وحتى الآن لا يعرف كثيرون أن مخترع هذا الأسلوب هو (تاليوت) البريطاني.

وبعد اختراع تاليوت عرفنا كاميرات أحدث وأكثر مرونة وتطورًا، وعرفنا ورق التصوير الحساس، المبلل أو الجاف، والأفلام الخام سواءً للتصوير السينمائي أو العادي، كما عرفنا أفلام (البولارويد) التي تلتقط الصورة التي تعمل على التقاط الصورة ثم نعرضها للشمس فتجف وتظهر ألوانها سريعا.

ورغم هذا فإن داجير قبل تاليوت وقبل الطفرات التي حدثت في فن التصوير الفوتوغرافي يعتبر هو الأصل وهو الخطوة التي كان لابد منها، وإنه ليذكرني بالبارودي باشا في الشعر ونظم القصيد، فالبارودي كان له فضل الإحياء وتبعه إسماعيل صبري وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم حتى وصلنا إلى الشعر الحر، وكذلك لوي داجير هو الذي أسس فن التصوير الفوتوغرافي وتبعه تاليوت حتى وصلنا إلى الديجيتال؛ ومن حق داجير علينا أن نشكره ونحترم ذكراه، ونتمنى أن يبرز جيل يحترم العلم ويعمل على الاختراع؛ لأن الاختراع هو الذي جعل أوروبا تغزو العالم بالعلم.

وختامًا أقول أنه لا غنى عن العلم، لا غنى عن التعليم، أرجو أحبائي وإخوتي في كل الدول العربية أن يتركوا لأنفسهم فرصة اكتساب الثقافة العلمية الطبيعية وأن يهتموا بالقسم العلمي في المرحلة الثانوية وأن يدعموا الكليات العلمية في جامعاتهم، وأطالب الصحفيين أن يخصصوا للعلم صفحات في جرائدهم، وأن يجعلوا من العلماء نجومًا كالفنانين، فالإعلام هو الذي يصنع نجومية الفنان؛ فليصنع إذن نجومية العالم، أليس العالم أكثر فائدة من البعض؟ البعض الذين يكتسبون المال بأداء فني باهت ومسلسلات تؤدي إلى فشل خلايا الدماغ.. العلم أولاً وقبل كل شيء.. بهذا الشعار وحده تقدم الغرب.

 

حاتم السروي

 

 

في المثقف اليوم